البساطة الصعبة

محمد رُضــا

TT

بعض اللوحات الفنية الرائعة تتألّف من وضع بسيط للغاية.

خذ مثلا لوحة «الخياط» لجيوفاني باتيستا موروني، ذاك الرسام الإيطالي الذي عاش ومات في القرن السادس عشر (1520 - 1579) والتحق بكلاسيكيي عصر النهضة، والذي تعرض له قاعة «رويال أكاديمي» في لندن أعماله حتى نهاية الشهر الأول من العام المقبل. خلفية اللوحة داكنة، كما الحال في لوحاته الأخرى مثل تلك الزيتية التي رسمها بعنوان «صورة رجل» (1553) و«ناظر مدرسة تيتيان» (1575) ومقدّمتها أقل دكانة لكنها بارزة ونظيفة من حيث دقة ما يتبدّى منها. إنها أيضا «بورتريه» لرجل (شأن الكثير من أعماله)، والرجل هنا هو الخياط نفسه الذي يرتدي قميصا طويل الكمّين ومزركشا عند الياقة كما عند نهاية الكم. وهو يحمل بيمناه مقصا غليظا (حسبما كانت عليه المقصّات في ذلك الحين) بينما أمسكت يسراه بقطعة قماش سوداء كما لو أنه يهم بقصّها.

هذا كل شيء. تكوين بسيط لفكرة صغيرة. على ذلك فإن هناك عمقا كبيرا في تلك البساطة بارزا من خلال التفاصيل. هناك تلك النظرة التي يواجه بها المرسوم رسّامه. ينظر إليه، ومنه إلينا، مباشرة حاملا في نظرته ودا مشروطا. كبرياء مع قدر من التحدي. الياقة المزركشة، والتي كان موروني يحب رسمها حول أعناق شخصياته، لها حضور غريب. كيف يمكن لياقة أن يكون لها مثل هذا الحضور الصامت - الناطق؟ الجواب هو في التفاصيل والكيفية. في اختيار الرسّام للموقع الداكن والمفترض به أن يكون تابعا لمدى إنارة المكان الداخلي، وفي كيفية توفير تلك التفاصيل كما هي.

لوحة «الخياط» تتحدّث لنا بأكثر من ذلك. هي اليوم أبكر لوحة موجودة ومعروفة مخصصة لرجل يعمل في وظيفة. لكن لم تكن كل لوحاته عن خياط وناظر مدرسة وصاحب مهنة ما. لوحته المسمّاة بـ«سيدة شابّة» (وضعها ما بين 1560 و1565) هي لامرأة، كذلك عدد من اللوحات الأخرى التي وصلتنا بسبب اهتمام الغرب بتاريخ مبدعيه.

المشترك هو بساطة التكوين ودقّة التفاصيل أيضا. تحمل هذه اللوحة الخلفية ذاتها (زيتية اللون تتدرج من الداكن فوق الكتفين إلى الفاتح وراء الرأس). والمرأة تقف الوقفة ذاتها للخياط إنما عن قرب أكبر. أكثر من ذلك سنلاحظ النظرة النافذة ذاتها. هاتان العينان البنيّتان اللتان تتطلع إلى نقطة ما كما لو أنها تتابع حركة الرسّام، وليس عينيه كما في الوضع السابق. ثم هناك الياقة المزركشة إياها. نفس اللون (ياقة بيضاء) لكنها أكثف شأنا. موروني (المولود في كنف الشمال الإيطالي) كان يحب الياقة المزركشة.

بساطة التكوين وعناصر المكوّنات تفضي في لوحاته إلى تكثيف التفاصيل وتحويل تلك البساطة إلى سجل من الأبحاث التاريخية والفنية حول مصادر موهبته. لكنه ليس الوحيد بالطبع لا بين الرسّامين ولا بين الفنانين على نحو شامل.

صوت فيروز وهي تغني «نسم علينا الهوا» أو «سنرجع يوما إلى حيّنا» (مثلا) هو صوت بسيط التكوين لكنه نافذ كما لو كان يأتي من نقطة سماوية عالية مثل رذاذ المطر ليشملنا جميعا. بسيط وواضح ومؤثر.

سينما الياباني ياسوجيرو أوزو هي أيضا من هذا النوع. تكويناته البصرية عبارة عن الناس في بيوتهم. يجلسون على الأرض ويتحدّثون بصوت منخفض وحين يتحركون لا يعتمد المخرج على الحركة لتكوين الدراما بل هي نتاج تلك الدقائق والملاحظات. حين يلتقط المدينة لا تهمّه زحمتها. يكتفي بتصوير أسلاك الكهرباء الممتدة. ليس هناك من جمال تستطيع تلك الأسلاك عكسه، لكن هناك حياة يستطيع المخرج نقدها عبرها.