«نت فليكس» هل يكسر آخر صروح الاستثناء الثقافي الفرنسي؟

قلق عام على الصناعة الثقافية وكنوز التراث وصل إلى البرلمان

نت فليكس
TT

مرة أخرى ينتاب أنصار الاستثناء الثقافي الفرنسي خوف جديد من تراجع رموز إرثهم الحضاري، وهاجسهم الأول هو أفول نجم ما يسمى بالإشعاع الثقافي الفرنسي أمام هيمنة رموز الثقافة الأميركية. وأقل ما يقال هو أن هواجسهم لا تنفك تتفاقم مع التطورات الهائلة التي تشهدها تقنيات الاتصال الحديثة التي تؤدي إلى سعة وسهولة تبادل المضامين الثقافية المختلفة، لا سيما تلك المقبلة من بلاد العام سام.

* «نت فليكس» يهدد السينما الفرنسية

* أصابع الاتهام تتجه هذه المرة نحو «نت فليكس» عملاق البث التدفقي الأميركي (ستريمنغ) الذي دخل المشهد السمعي البصري الفرنسي منذ 15 سبتمبر (أيلول) الحالي، وسط تغطية إعلامية واسعة، محدثا جدالا كبيرا ما بين مؤيد ومعارض. هذا لأن موقع البث التدفقي يقترح على الفرنسيين عددا هائلا من البرامج الترفيهية معظمها مسلسلات أميركية لفترة غير محدودة ومقابل اشتراك شهري بسيط يتراوح ما بين 7 إلى 11 يورو، حسب عدد أجهزة البث ونوعها (تلفزيون، حاسوب، هاتف جوال..). عرض مغرٍ جدا إذا علمنا بأن «كنال بلوس» أول قناة خاصة بالسينما في فرنسا تقترح عددا محدودا من المضامين الترفيهية باشتراك شهري يتراوح ما بين 40 إلى 60 يورو.

الإشكالية التي طرحها المعارضون لهذا الموقع ترتكز على نقطتين: أولا احتمال تكريس ولع الفرنسيين بالبرامج الترفيهية الأميركية أكثر، لا سيما المسلسلات وما يمكن أن يأتي معه من ضربات موجعة لأحد أهم مقومات الهوية الفرنسية: الصناعة الثقافية. القضية أيقظت هواجس المسؤولين على أعلى مستويات الدوائر السياسية؛ النائب الاشتراكي باتريك بلوش اهتم بالموضوع، وقدم تقريرا للبرلمان الفرنسي من 33 صفحة بعنوان «من أجل احترام الاستثناء الفرنسي» (بور لوريسبي دو لإكسبسيون فرانسيز) كشف فيه أن الحضور القوي للرباعي المعروف بـ«غافا» وهم عمالقة الشبكة الأميركيين: «غوغل»، «أمازون»، «فيسبوك» و«آبل» في فرنسا، والانتصارات التي باتوا يحققونها يوما بعد يوم أصبحت تهدد بجد صناعتها الثقافية، مذكرا بأن «أمازون» مثلا سيصبح مع مطلع عام 2017 أول مكتبة في فرنسا، بعد أن قضى على نشاط أصحاب المكتبات المستقلة التي يعدها الفرنسيون من أعرق مؤسساتهم الثقافية. أما «غوغل»، فهو يحضر لمشروع أكبر متحف افتراضي عالمي «آرت بروجيكت» وترقيم محتويات أهم مكتبات العالم، مما قد يعني ببساطة استحواذ العملاق الأميركي على كنوز التراث الثقافي العالمي.

ومع «نت فليكس» موقع البث التدفقي، فإن الوضع قد يسوء، يضيف النائب الفرنسي، لأن صناعة السينما هي المستهدفة الأولى، والسبب أن الموقع الأميركي سيصبح أول منافس للقنوات التلفزيونية التي تمول، بحكم بند في القانون الفرنسي، وبنسبة لا يُستهان بها إنتاج الأفلام والمسلسلات، وعلى رأسها قناة «كنال بلوس» التي تدعم صناعة السينما الفرنسية، بنسبة 13%. منافسة الموقع الأميركي قد يضعف القناة الخاصة، ويحرمها على الأقل من 10% من مشتركيها، وهو ما يعني بالتالي أن السينما ستفقد أيضا أهم ممول لها. أخطر منه، يضيف النائب باتريك بلوش، أن دخول «نت فليكس» بيوت الفرنسيين سيكرس شغفهم بالمسلسلات الأميركية، ويخلق نوعا من الإدمان عليها، لا سيما أنها ستكون متاحة على كل أجهزة البث ودون تحديد للمدة. علما بأن الحضور القوي لرموز الثقافة الأميركية في المشهد السمعي البصري الفرنسي قد أصبح حقيقة ملموسة، الباحث فريديك مارتيل (المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية) يذهب على صفحات جريدة «لوفيغارو» إلى حد الإقرار بأن الولايات المتحدة قد فازت في «حرب المضامين الثقافية العالمية»، على الأقل في أوروبا، حيث يعد الفرنسيون والألمان والبريطانيون مثلا أكثر المستهلكين للإنتاجات السينمائية الأميركية. هذه المعلومة مؤكدة في فرنسا، وفقا لدراسات جادة أنجزت أخيرا، آخرها دراسة صادرة عن معهد «أورو داتا تي في» تكشف أن المسلسلات الأميركية هي التي تحقق أعلى نسب المشاهدة لدى التلفزيونات الفرنسية، وهي الظاهرة التي تخص فرنسا دون باقي الدول الأوروبية، بحسب دراسة أخرى من إنجاز المرصد العالي للسمعي البصري (سي إس إيه) التي تكشف بأن الدول الجارة تفضل إنتاجاتها الوطنية على الأجنبية (الأميركية). البريطانيون مثلا يشاهدون بالدرجة الأولى مسلسل «داوتون أبي» أو«شيرلوك»، وكذا يفعل الدنماركيون الذين يتابعون في غالبيتهم المسلسلين الدنماركيين «كيلينغ» و«بورغن».

* لا للاحتكاك بالمارد الأميركي

* وقد أثبت الفرنسيون رفضهم الاحتكاك بالمارد الأميركي في مجالات الثقافة والإبداع في عدة مناسبات، آخرها مفاوضات التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية حين رفضت باريس بشدة ضم قطاع الصناعة الثقافية لبنود الاتفاق خوفا من فشل هذا القطاع المدعوم من طرف الدولة في التصدي لمنافسة الشركات الأميركية العملاقة التي تسيطر على السوق العالمية، معتبرة هذه النقطة بمثابة «الخطوط الحمراء» التي لا يمكن تجاوزها حسب تعبير الرئيس فرنسوا هولاند نفسه. وكانت باريس قد جندت لهذا الغرض 14 دولة من الاتحاد إضافة للبرلمان الأوروبي للتوقيع على خطاب بهذا المعنى في مايو (أيار). وهي ليست فقط سياسات ثقافية للحماية، بل مبادئ التزمت بها الحكومات الفرنسية من اليسار واليمين منذ بداية الجمهورية الخامسة حين رفض الرئيس السابق فرنسوا متران دمج قطاع السينما والأغنية والكتاب في مفاوضات الاتحاد الأوروبي خشية من التفوق الإنجليزي والألماني. المعروف أن الموقع الأميركي الذي بدأ نشاطه منذ عام 2000 يشهد حاليا نجاحا كبيرا، حيث يسجل اشتراك أكثر من 35 مليون مشاهد في الولايات المتحدة، وأكثر من 50 مليون في العالم بأرباح صافية تتجاوز الـ4 مليارات دولار، وهو حاضر بقوة في دول ككندا وكبريطانيا ودول أوروبا الشمالية وحتى أميركا اللاتينية. أهم ما يميز خدمة «نت فليكس» تقديم برامج تلفزيونية مفصلة «حسب الطلب»، تحت شعار: «إذا أعجبك هذا فسوف يعجبك هذا أيضا». أي أنها تأخذ في الاعتبار الأذواق الخاصة لكل متفرج بفضل تقنية برمجية جديدة طورها مهندسو الموقع (لوغاريتم) بصفة حصرية لكي تستجيب بدقة لرغبات المشتركين. أحيانا لغاية التصميم والفكرة كما هو الحال مع مسلسل «هاوس أوف كارد» و«أورانج إز ثي نيو بلاك» اللذين أنتجتهما شركة البث التدفقي «نت فليكس» بنفسها، بناء على رغبات المشتركين.

* النموذج الثقافي الفرنسي في مفترق الطرق

* بيد أن «نت فليكس» بالنسبة لمعارضيه ليس فقط «ديفيد في مواجهة جولياث» بل هو أيضا من كشف عن فداحة الأزمة التي يعاني منها نموذج ثقافي شكل مفخرة أصحابه لعقود طويلة. وزيرة الثقافة الجديدة فلور بيلوران (سابقا وزيرة الاقتصاد الرقمي) نفسها أيقظت هذه الهواجس حين أعلنت بمناسبة مهرجان ديجون السنيمائي الأخير متحدثة عن «نت فليكس» أن «وفرة المضامين تخلق نقصا في الاهتمام.. وأن المورد النادر اليوم ليس (المضمون)، وإنما كيفية الفوز باهتمام الناس». الوزيرة التي اعتبرت أن لا شيء يمكن أن يوقف هجمة عمالقة الشبكة على المجال الثقافي ترى أن الاستثناء الثقافي الفرنسي المبني على مجموعة من الإجراءات الداعمة للقطاع الثقافي يجب أن يتأقلم ويشق طريقه بين المضامين الأخرى ليجد جمهوره.

البعض اعتبر أن كلمات الوزيرة قد أحدثت شرخا في 300 سنة من السياسة الثقافية لفرنسا. فالوزيرة لا تتحدث عن أفلام، ولا عن تحف فنية وإنما عن «مضامين» وعن «جمهور»، وكأنها تعد ضمنيا الثقافة كأي قطاع اقتصادي آخر يجب أن يكيف «منتجاته» لكي تتلاءم مع الاقتصاد، تماما كما يفعل «نت فليكس» مع عملائه. الكاتب والباحث في جامعة ليون أنتوني نيلزان يكتب على صفحات جريدة «لوموند»: «لا نملك إلا أن نعترف بأن الخصوصية الفرنسية في خطر حين نسمع بأن وزيرة الثقافة تريد تسيير الثقافة حسب شعار (نت فليكس)؛ (إذا أعجبك هذا فسيعجبك هذا أيضا). الوزيرة التي تريد أن تطبق مبدأ (لوغاريتم التوجيه) في وزارتها (روكومندايشن ألغوريتم) كما يفعل (أمازون أيضا مع الكتب) وقد بدأت في هذا المشروع فعلا بإشراف الحائز على جائزة نوبل الجديد جون تيرول، تقول لنا إنه إذا أردنا مواجهة المارد الأميركي فعلينا أن نكون واثقين من أن كل ما نستثمره سيعود علينا بالضعف، صحيح أن الصناعة الثقافية يحكمها أيضا منطق السوق، لكن أين دور القطاع العام في تشجيع الإبداع ودعم المواهب الشابة.. هل كان مهرجان (كان) ومتحف اللوفر ليوجدا لولا الاستثناء الفرنسي؟».

على أن الخصوصية الثقافية الفرنسية قد أصبحت على الجانب الآخر من الأطلنطي مدعاة للسخرية والتهكم؛ مجلة «التايمز» نشرت منذ مدة تقريرا بعنوان «موت الثقافة الفرنسية» أثار الكثير من ردود الأفعال، أحصت فيه كل مظاهر الثقافة الفرنسية التي فقدت من بريقها ورونقها في العقود الأخيرة بسبب إصرار فرنسا على إدارة ظهرها للعولمة الثقافية. وكذا مجلة «فانيتي فير»، بمقال آخر صدر منذ شهور مستوحى من رموز الجمهورية بعنوان: «ليبيرتي، إغاليتي.. فاتيغي» (عوض فراتيرنيتي) أو «حرية، مساواة.... تعبت»، والعنوان كتب قصدا باللغة الفرنسية بريشة الكاتب البريطاني أنتوني أدريان جيل الذي استهل مقاله بهذه الأسئلة: «متى كانت آخر مرة استمتعتم فيها بمشاهدة فيلم فرنسي؟ كم من الممثلين الفرنسيين تعرفون؟ جيرار ديبارديو؟ هو الآن يحمل الجنسية الروسية ويعيش في بلجيكا؟ أعطوني اسم رسام فرنسي معاصر يستحق الاهتمام أو أي مغن أو كاتب؟».

البعض يرى أن الجدل القائم في فرنسا حول «نت فليكس»، على اعتباره خطرا جديدا يتربص بمقومات الهوية الفرنسية، ويدفع بها أكثر في هاوية التبعية الثقافية مبالغ فيه، لأن دخول موقع البث التدفقي الأميركي في عدة دول أخرى لم يؤثر على صناعتها السينمائية، لا بل كان محفزا جيدا للمنافسة، فهل هو جدل فارغ؟ وهل ينجح الفرنسيون في قطع الطريق أمام أطماع عمالقة الشبكة الأميركيين في هجمتهم على الثقافة، أم أن التطورات التي يشهدها هذا المجال قد تكسر آخر صروح الاستثناء الثقافي الفرنسي؟!