المقاتلون «القصر».. ظاهرة تخيف فرنسا

سيل من الأسئلة النفسية والاجتماعية دفعهم لذلك

TT

تفتتح الباحثة دنيا بوزار كتابها «بحثوا عن الجنة فوجدوا الجحيم»، الصادر عن دار نشر «إديسيون لي زاتولييه»، برسالة صوفي، المراهقة الفرنسية ذات الستة عشر ربيعا التي تركتها لأستاذ التاريخ بعد أن رحلت لسوريا للتطوع في صفوف الجماعات الإسلامية.. تكتب فيها ما يلي: «أعتذر لكم عن رحيلي المفاجئ، لكني أفكر في هذا الأمر منذ شهور، حتى اقتنعت بأن مكاني لم يعد هنا، وإنما هناك مع إخواني في بلاد الشام..».

في رسالتها تشرح صوفي إحساسها بالوحدة ورفضها العيش في مجتمع لا يتفهم مشاعرها وقناعاتها الشخصية. قصة هذه المراهقة الفرنسية التي اعتنقت الإسلام ليست الاستثناء الوحيد، فمنذ 3 سنوات تقريبا بدأت تظهر أخبار عن مراهقين فرنسيين من الصبيان والبنات قرروا فجأة ودون علم أهليهم الرحيل لسوريا للمشاركة في النزاع المسلح.

آخرهن فتاة في الرابعة عشرة من عمرها تم إلقاء القبض عليها في مطار ليون وهي تحاول الإقلاع على متن طائرة باتجاه تركيا بنية الالتحاق بسوريا، وكذا فتاتان من مدينة تولوز في الخامسة عشرة تم توقيفهما وهما تحاولان شراء تذاكر السفر. وهو ما جاءت تأكده أرقام وزارة الداخلية الفرنسية التي أفادت أخيرا بوجود نحو 800 فرنسي على الأراضي السورية قدموا لها بغرض الانضمام لصفوف الجماعات الإسلامية؛ أكثر من 20 في المائة منهم هم من القصّر الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة، بينهم أكثر من 20 فتاة.

وهي أرقام مرشحة للارتفاع، حيث إن أكثر من 120 الآن في طريقهم بين فرنسا وسوريا (معظمهم على الحدود التركية). وقد بدأت الصحافة الفرنسية تهتم بأخبار هؤلاء المراهقين الذين قرروا التوجه لسوريا بنية المشاركة في «الجهاد» بعد قضية الشاب مهدي منوش الذي قضى سنة في حلب قبل أن يعود عبر بلجيكا لاقتراف أعمال إرهابية، وكذا قضية الشاب إبراهيم الذي اكتشفت الشرطة الفرنسية متفجرات في بيته بعد سنة على عودته من سوريا أيضا.

في كتابها «بحثوا عن الجنة فوجدوا الجحيم» تحاول الكاتبة دنيا بوزار البحث مع أولياء أمور، خصوصا الأمهات، في الدوافع التي تقف وراء تطرف هؤلاء الشباب وقرارهم الانخراط في صفوف الجماعات المسلحة بسوريا، فتقول إنها حاولت ومن تسميهم «الأمهات اليتيمات» الإجابة عن هذا السؤال: ماذا حدث في عقول هؤلاء المراهقين لكي يغرقوا في التعصب الديني بهذا الشكل؟ هل قصرنا في حقهم، وهل حدث هذا لأننا تجاهلنا معاناتهم النفسية؟ لكن الأمهات وصلن لاستنتاج واحد هو أن أطفالهن وقعوا تحت تأثير جماعات متشددة تلاعبت بمشاعرهم لتوقعهم في شباك التطرف والعنف.

مثل هذه الأخبار باتت تؤرق المسؤولين السياسيين وتطرح مشكلة قانونية مهمة: بعد رجوعهم، هل يجدر اعتبار هؤلاء المراهقين ضحايا أم مجرمين؟ هذا أن القانون الفرنسي (المادة 122 - 8 من قانون العقوبات) لا يعترف بالمسؤولية القانونية لمن هم بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة، أما ما بين السادسة عشرة، والثامنة عشرة فيفترض أنهم غير مسؤولين قانونيا.

يكتب القاضي مارك تريفيديك المختص في قضايا محاربة الإرهاب في كتابه «الإرهاب: القواعد السبعة للامعقول» (دار نشر لاتيس): «العدالة الجيدة هي التي تستطيع الإقرار بأن جهاديا في الخامسة عشرة من عمره قد يكون مراهقا غير مسؤول لأنه واقع تحت تأثير جماعات إرهابية»، مستشهدا بقضية الشاب الكندي عمر خضر الذي قبضت عليه قوات أميركية في أفغانستان عام 2002 وأودعته معتقل غوانتانامو رغم أنه كان قاصرا: «الأميركيون الذين يعتقلون مراهقا في الخامسة عشرة كأي شخص راشد مسؤول عن تصرفاته، هم في النهاية يوافقون الجماعات الإرهابية التي تدفع بهؤلاء (الأطفال) للقتال بحجة أنهم وصلوا سن البلوغ وأصبحوا رجالا قادرين على القتال، فهل نفعل مثلهم؟ قطعا لا». مارك تريفيديك يذكر بأن مثل هؤلاء الشباب واقعون تحت تأثير تلاعب ذهني، والأجدر بنا مراقبتهم عن كثب ليس بغرض تجريمهم وإنما لتوجيههم وتفادي أن يقعوا في عمليات أخطر. اختصاصي علم النفس برنار شوفيي الذي بحث في الدوافع النفسية لتطرف الشباب في مؤلفه «المتعصبون» («لي فاناتيك» دار نشر «أوديل جاكوب») يكتب: «حتى وإن حدث واعتبرناهم مسؤولين عن أفعالهم، فهذا لا يعني أن نودعهم السجن»، مقارنا وضعهم بوضع الأشخاص الذي يقعون تحت سيطرة بعض الطوائف الخطيرة، مضيفا أن ذلك يتم عبر مراحل، بدءا بإرضاء حاجتهم من المثل العليا التي يبحثون عنها في مثل هذه المرحلة السنية (محاربة الظلم، نصرة الحق، إنقاذ الأيتام والمقهورين.. إلخ) ثم استغلال الدين لإحداث القطيعة بينهم وبين محيطهم: عائلاتهم، وأصدقاؤهم، ومؤسساتهم التربوية، بحجة تطهيرهم من مجتمع أناني وغير عادل، ومن هيمنة إعلام مضلل، وفي النهاية الدفع بهم نحو اقتراف أعمال إرهابية.

الباحث في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية بباريس فرهاد خوسروغافار، يؤكد في حوار لصحيفة مترو: «وضع الشباب العائد من سوريا في السجون ليس هو الحل، علما بأن معظمهم يعود بإرادته بعد اصطدامهم بواقع الحروب وفظاعتها واكتشافهم الوجه الحقيقي للجماعات المتشددة. الخطر الحقيقي هو أن يأتي التطرف من وراء القضبان». أنصار هذه الفكرة يستشهدون بالتجربة الدنماركية، حيث تنفرد بلدة أرهوست ببرنامج خاص يدعى: «برنامج المحاولة الثانية (سكوند شانس)» يتمثل في مركز مفتوح للشباب العائد من سوريا والعراق يساعدهم في التكوين أو البحث عن عمل جديد أو مواصلة دراساتهم بإشراف مربين واختصاصيين اجتماعيين في انتظار البحث في التهم الموجهة لهم.

الصحافي عمر وهمان الذي نجح في اختراق بعض أوساط المقاتلين المتطرفين الفرنسيين لشهور طويلة، رسم التركيبة الاجتماعية والنفسية لهؤلاء الشباب: «معظم هؤلاء الشباب ينتمون لطبقات اجتماعية متوسطة وشعبية. مستواهم التعليمي متوسط؛ وإن كان قسم كبير منهم ينحدر من أجيال الهجرة المغاربية، إلا أن معرفتهم بأصول الدين بسيطة جدا. كما أن جزءا لا يستهان به منهم هم من الفرنسيين المتأصلين الذين اعتنقوا الإسلام منذ مدة قصيرة (جهادي من بين 5 هو فرنسي اعتنق الإسلام حسب إحصاءات وزارة الداخلية الفرنسية) معظمهم - حسب الشهادات التي وردت في تحقيق الصحافي الفرنسي - تبنى فكرة الانخراط في صفوف المقاتلين المتطرفين تحت تأثير مواقع التواصل الاجتماعي التي تحرض الشباب على المشاركة في النزاع المسلح وتحرك مشاعرهم عن طريق بث صور الجرائم الشنيعة التي تستهدف الأبرياء، خصوصا موقع (يوتيوب). الجهاديون الشباب يقعون أيضا تحت تأثير بعض العناصر المتطرفة التي تصل إليهم عبر الاختلاط بهم في المساجد وفي إطار نشاط الجمعيات الخيرية».

فرنسا التي باتت تنظر بعين الريبة لهذه الظاهرة الجديدة بدأت فعلا في اتخاذ إجراءات ملموسة للحد منها؛ أهمها: الإعلان عن تشكيل لجان عمل وتفكير ينشطها أئمة واختصاصيون نفسيون مهمتهم توعية الشباب بمخاطر التعصب والغلو والتطرف الديني، وحثهم على الالتزام بتعاليم الدين السمح.

وزارة الداخلية الفرنسية أعلنت أيضا عن رقم أخضر (مجاني) يوضع في خدمة العائلات التي تشعر بأن أحد أبنائها أو بناتها على وشك اتخاذ قرار السفر أو على اتصال مع شبكات تجنيد شباب للقتال في سوريا، بإشراف مربين واختصاصيين اجتماعيين يحاولون إرساء أواصر للحوار مع الشباب وإقناعهم بالعدول عن قرارهم. مع الإعلان عن دورات تكوين مهني وتدريب لإخراج هؤلاء المراهقين من العزلة الاجتماعية والنفسية التي يعانون منها.

وزير الداخلية الفرنسي برنار كزنوف الذي أعلن أن مشكلة المقاتلين المتطرفين الذين يذهبون لسوريا، «مشكلة أوروبية»، التقى نظراءه للبحث في إمكانية التنسيق بين مختلف القوانين الأوروبية للحد من هذه الظاهرة. وأهم ما تم بحثه في هذا اللقاء الذي عقد بلندن في 1 مايو (أيار) الماضي، هي إمكانية تسجيل كل المقاتلين المتطرفين في قوائم تتبادلها مصالح الاستخبارات الأوروبية. كما أعرب عن إعجابه أيضا بالمبادرة البريطانية التي تتمثل في حملات توعية وإرشاد في أوساط الشباب الذين يتعرضون لمحاولات التجنيد من قبل الجماعات المتطرفة، التي يقوم بها جهاديون سابقون بأنفسهم في مختلف وسائل الإعلام. وفي اجتماع بروكسل (8 مايو) الذي حضره وزراء خارجية الدول التسع الأوروبية الأكثر تعرضا لهذه المشكلة، تم البحث في تكثيف المراقبة على الحدود الأوروبية بالتنسيق مع تركيا، وإعادة النظر في قوانين «الشانغان» الخاصة بتنقل الأشخاص داخل المجموعة الأوروبية لا سيما أن إحصاءات رسمية تنبأت بعودة نحو 15 ألف مواطن أوروبي ممن يشاركون الآن في النزاع المسلح بسوريا، وما يخيف الحكومات الأوروبية هي عودة هؤلاء الشباب لأوروبا بغرض تنفيذ هجمات إرهابية.