الحرب على ألسِنة السياسيين والعسكريين الأميركيين

كل التعبيرات المتداولة عنها تتجنب ذكرها وتعمد إلى التمويه

أوباما
TT

شن السيناتور جون ماكين (جمهوري، ولاية أريزونا)، الذي كان ترشح ضد الرئيس باراك أوباما في انتخابات عام 2008، هجوما عنيفا على سياسة أوباما تجاه «داعش». وقال، في مقابلة بثتها قناة «سي إن إن» أخيرا: «هم ينتصرون، ونحن لا ننتصر.. نحن لا نضعف التنظيم بهدف هزيمته». وأضاف: «يجب على الرئيس تقديم شرح وافٍ للشعب الأميركي عما يفعل، وما يريد أن يفعله مع (داعش). مشكلة استراتيجية أوباما هي أنه لا يسميها حربا».

في الواقع، قال ماكين الحقيقة؛ فحتى الآن، لم يسمِّ أوباما الحرب التي تخوضها بلاده ضد «داعش» حربا.

لكن أوباما ليس السياسي الأميركي الأول الذي يتحاشى استخدام كلمة «حرب»، حتى وهو يعلن الحرب، فمثله سياسيون وعسكريون أيضا يستخدمون أسماء وعبارات أخرى غير الحرب، مثل: «معركة»، «قتال»، «ضربات جوية»، «عمليات تنظيف»، «عمليات تجفيف»، وغيرها. غير أن أكثر كلمة ذات جذور قديمة في التاريخ العسكري الأميركي استُخدمت في هذا المجال، كانت «بوتز أُن غراوند» (أحذية عسكرية على الأرض). وقد استخدمت أثناء الحروب بين الولايات المتحدة وإسبانيا (نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20) في الفلبين والبحر الكاريبي، التي دارت حول مستعمرات إسبانيا، لكن العبارة صارت تعني ليس فقط إرسال جنود مشاة، ولكن إرسال سفن حربية وطائرات أيضا، وفي وقت لاحق، صارت تعني إطلاق صواريخ.

قبل أسبوعين، استعمل السيناتور ماكين الذي كان عسكريا حارب في فيتنام، العبارة نفسها؛ «بوتز أُن غراوند». وتساءل عما إذا كان أوباما يريد إرسال «أحذية عسكرية» في العراق وسوريا لمواجهة «داعش». بالطبع، إضافة إلى السفن والطائرات والصواريخ، حسب مقصده، أي إطلاق «حرب» شاملة، وكالعادة لم يقل ذلك مباشرة.

وهكذا، يفضل السياسيون الأميركيون استخدام «بوتز» (أحذية عسكرية)، بينما يفضل العسكريون «كومبات»، وهي كلمة مرادفة لكلمة «حرب» في أكثر من معنى، من ذلك مثلا تفريق «البنتاغون»، حاليا بين إرسال «قوات» إلى العراق، وإرسال «قوات كومبات»، بما يعني أن القوات الموجودة حاليا، لا تشترك في أي «حرب». ومن الاستخدامات الأخرى أيضا وصف عسكري أميركي ما تحوّل إلى سياسي أثناء حملته الانتخابية بأنه شارك في «كومبات»، متجنبا القول الواضح والمباشر: «شاركتُ في حرب، وقتلت.. وقتلت، وقتلت».

عن هذا كتب سام ليث، مؤلف كتاب «المبالغة: من أرسطو إلى أوباما»: «يتحاشى السياسيون والعسكريون كلمة (حرب)، ويفضلون عبارة (عمل عسكري)».

في الشهر الماضي، أنذر الرئيس باراك أوباما روسيا بإعلان «الحرب» من دون أن يستخدم الكلمة. كان يزور دول البلطيق عندما صرّح: «سنكون هنا مع إستونيا. سنكون هنا مع لاتفيا. سنكون هنا مع ليتوانيا. فقدت هذه الدول استقلالها في الماضي، لكن الآن مع (الناتو) لن تفقده أبدا مرة أخرى».

يستخدم السياسيون (وليس العسكريين، لأن هؤلاء يطيعون أوامر السياسيين)، أسبابا غير مباشرة لإعلان الحرب؛ فهم يرددون عبارات من نمط «حماية الوطن»، و«الأمن الوطني»، و«نشر الديمقراطية» و«المجتمع الدولي». ومع اختراع القنابل الذكية واستعمالها، والطائرات التي تستعمل نظام «جي بي إس» (التحديد الكروي)، صار العسكريون (والسياسيون أيضا)، يستعملون عبارات، مثل «سيرجيكال سترايك» (ضربة جراحية). بدلا عن قصف جوي. يخدع هؤلاء أنفسهم، ويخدعون الشعب الأميركي معهم، لأنهم يقصدون تحاشي قتل النساء والأطفال، بينما يعرفون جيدا أن هذا مستحيل في «الحرب»، ثم إن قنبلة وزنها 5 آلاف طن ليست مبضع جراح.

ووفقا لموقع «كتب غوغل»، بدأ استخدام «ضربة جراحية» عام 1962، خلال التدخل العسكري الأميركي في فيتنام، ثم انخفض هذا الاستخدام خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وعاد وتزايد كثيرا مع «الحروب ضد الإرهاب»، بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001. ولأن حرب أفغانستان هي أكثر هذه الحروب طولا، فقد ظهرت فيها تعابير جديدة، بالإضافة إلى «ضربة جراحية»، مثل: «بلو أُن بلو» (أزرق على أزرق)، التي ترمز إلى إطلاق قوات الحلفاء هناك النار على بعضها (طبعا، من دون قصد)، وتؤدي معنى «فريندلي فايار» (نيران صديقة) نفسه عوضا عن وصف مباشر، مثل: «قواتنا يقتل بعضها بعضا».

وهناك أيضا، تعبير «ريد أُن بلو» (أحمر على أزرق) التي ترمز إلى إطلاق الجنود الأفغان النار على الجنود الغربيين انتقاما (طبعا، عمدا)، بدلا عن وصف مباشر، مثل «الأفغان الذين ذهبنا لمساعدتهم يقتلوننا».

وبسبب انتقادات عالمية كثيرة للتدخلات العسكرية الأميركية في كثير من الدول الإسلامية، بعد هجمات 11 سبتمبر، وبسبب كوارث طبيعية في كثير من هذه الدول أيضا، ظهرت عبارة «ميلتاري هيومانيزم» (إنسانية عسكرية). هذه نظرية جنرالات البنتاغون بالإسراع بإرسال حاملات الطائرات لنقل المساعدات إلى ضحايا «تسونامي» في إندونيسيا مثلا، أو ضحايا «مونسون» في بنغلاديش، لإقناع المسلمين بأن حاملات الطائرات ليست فقط لإقلاع طائرات تقتل وتدمر.

أخيرا، أضاف جنرالات البنتاغون تمويهين لغويين آخرين، هما:

أولا: «أرمد سيرفسز» (خدمات مسلحة)، بدلا عن «أرمد فورسيز» (قوات مسلحة). تعبيرات صارت مثل تعبير «الخدمة المدنية»، وكأنها لا تشير إلى قتل أو تدمير.

ثانيا: «ديغريد» (تخفيض درجة) الأعداء. كأن الحرب قوانين مكتبية تنظيمية وليست ميدان قتل وتدمير.

يقول سام ليث، الذي أشرنا إلى كتابه: «في الغرب، لسنا الوحيدين في التلاعب بالكلمات والتعابير في حالات الحروب». ويضيف أن كثيرا من «الوعاظ الإسلاميين» يستعملون عبارة «عمليات استشهادية (...)، لكن أغلبية الناس تستعمل عبارة تفجيرات انتحارية».

وتحدث ليث عن ذبح «داعش» لصحافيين غربيين في فيديوهات حول ذلك تدعو للتقزز. وقال: «في هذه الحالات، يمكن القول إن مذابح (داعش) ليست فقط عملا عسكريا. إنها عودة إلى الحروب القديمة وفظاعاتها أيضا، الفظاعة نفسها التي نحاول - نحن الغربيين - تجاهلها»، باستعمال كلمات وعبارات غير «الحرب» و«القتل». ويذكّر سام ليث أخيرا بما كتبه جورج أورويل الكاتب البريطاني الجاد الساخر (توفي عام 1950)، في كتابه «السياسة واللغة الإنجليزية»، حيث قال: «نحن الإنجليز نستعمل كلمات وتعابير لوصف أشياء من دون أن نتصور صورها».

سام نفسه كتب: «نحن - الغربيين - نرى أن الحرب أحيانا شيء طيب. وأحيانا نراها شيئا سيئا» (حسب مزاج الغربيين).