عبد الله بن عبد العزيز.. ملك المصالحة وحامل مبادرات رأب الصدع

نجح في تبني إصلاحات من المحيط إلى الخليج لإعادة التلاحم العربي

TT

لم تكن المصالحة التي رعاها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يوم الأحد الماضي، من خلال القمة الخليجية الاستثنائية التي شهدها قصره في الرياض، وأعادت قطر إلى الحضن الخليجي، بعد خلافات دامت أكثر من عام، وترتب عليها سحب سفراء كل من السعودية والإمارات والبحرين، من الدوحة، لم تكن المصالحة بمفاجأة للمراقبين الذين عرفوا جيدا (الكاريزما) التي يملكها العاهل السعودي، حيث إن نبذ الخلافات والمصالحة هما هاجسه، وقد أكد ذلك تصريح خادم الحرمين الشريفين يوم أمس، الذي نقلته وكالة الأنباء السعودية، إذ أكد الملك على أن اتفاق الرياض التكميلي فتح صفحة جديدة لدفع مسيرة العمل المشترك، ليس لمصلحة شعوب دول مجلس التعاون في دول الخليج العربية فحسب، بل لمصلحة شعوب الأمة العربية والإسلامية، ووضع إطار شامل لوحدة الصف والتوافق، ونبذ الخلافات في مواجهة التحديات، ولم ينس الملك عبد الله الإشارة إلى أهمية مصر والوقوف إلى جانبها دون أن ينسى أهميتها كدولة يجب أن تشارك في دعم جهود العمل العربي المشترك.

وأعادت تأكيدات الملك عبد الله، ودعوته الوقوف صفا واحدا، ونبذ أي خلاف طارئ على أن هذا الهاجس هو ملازم له، في كل جهوده التي قادها خلال سنوات توليه مقاليد السلطة في بلاده، وما قبلها حيث يعد الملك عبد الله من الشخصيات النادرة في الوطن العربي التي تتعامل مع الأحداث بكل الصراحة والوضوح والحكمة والاعتدال، والشجاعة في مواجهة المواقف، كلماته تخرج حاسمة من نفس مؤمنة بما تقول وتعتقد. يحترم الملك عبد الله من يتعامل مع بلاده بالندية، فكرامة وطنه ينبغي أن لا تمس، فالعالم وجد ليتعاون، والمهم أن يكون التعاون متكافئا، كما يؤمن الملك عبد الله بالوحدة والتضامن ويشعر بالألم حيال الذين يظهرون خلاف ما يبطنون في الساحة العربية، في وقت تحقق فيه المطامع الدولية أهدافها في العالم العربي، قدره غير هذا، ووطنه كان يمكن أن يكون أفضل وأقوى من هذا الواقع.

وقد ترجم الملك عبد الله سادس ملوك الدولة السعودية الثالثة التوجهات والأسس التي قام عليها الكيان العظيم من خلال خطاب ذكرى البيعة الأولى له الذي أكد فيه على اهتمامه بجميع القضايا المعاصرة، محليا وعربيا وإسلاميا وعالميا، وحمل فيه هواجسه تجاه رسم طريق مستقبل البلاد والأمة.

وقال الملك: «إن التاريخ علمنا أن الفترات التي شهدت وحدة الأمة هي عصورها الذهبية المزدهرة، وأن فترات الفرقة والشتات كانت عهود الضعف والهوان والخضوع لسيطرة الأعداء، ومن هذا المنطلق فإن كل جهد سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو فكريا يقرب بين أبناء الأمة هو جهد مبارك مشكور، وكل جهد يزرع بذور الفتنة والشقاق هو نكسة تعود بنا إلى الوراء».

ويمكن القول إن الملك عبد الله أصبح القائد المدافع عن قضايا الأمة. كما نجح بحكمته في أن يخرج علاقات بلاده والأمة العربية مع الدول الكبرى من الاختبارات الصعبة التي وضعتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001، واستكمل الملك في عامه الأول من توليه مقاليد الحكم في البلاد ما بدأه منذ سنوات عندما كان وليا للعهد، من خلال استثمار علاقات بلاده بالدول الأخرى في مجال تبادل المصالح الاقتصادية وعقد شراكات وتوقيع اتفاقيات اقتصادية مع الشرق والغرب. ولعل جولاته التي شملت الصين والهند وهونغ كونغ وماليزيا وباكستان قد أسفرت عن توقيع اتفاقيات اقتصادية وصلت مبالغها إلى عدة مليارات من الدولارات، كما فتحت هذه الجولات أمام قادتها وفعاليتها السياسية ملفات دولية حساسة، خصوصا تلك المتعلقة بقضايا الشرق الأوسط وما يجري في أرض العراق وفلسطين. كما تحركت الدبلوماسية السعودية لاحتواء الأزمة التي تفجرت في لبنان آنذاك.

وتميز الملك عبد الله بصراحته ورغبته في تعزيز العلاقات العربية - العربية، وإصلاح البيت العربي، كما عمل على محاربة الإرهاب الذي كانت بلاده إحدى ضحاياه، وكان يدعو دائما إلى الوسطية في الدين، والابتعاد عن جميع أنواع التطرف والغلو.

وكان للملك عبد الله بن عبد العزيز، دور بارز أسهم في إرساء دعائم العمل السياسي الخليجي والعربي والإسلامي المعاصر، وصياغة تصوراته والتخطيط لمستقبله. كما تمكن بحنكته ومهارته في القيادة من تعزيز دور المملكة في الشأن الإقليمي والعالمي، سياسيا واقتصاديا وتجاريا، وصار للمملكة وجود أعمق في المحافل الدولية وفي صناعة القرار العالمي، وشكلت عنصر دفع قويا للصوت العربي والإسلامي في دوائر الحوار العالمي على اختلاف منظماته وهيئاته ومؤسساته.

وعلى صعيد السياسة الخارجية حرص على اتخاذ المواقف الإيجابية التي تستهدف دعم السلام العالمي ورخاء العالم أجمع، ورفاهية الإنسان في جميع أنحاء العالم، كما حرص على دعم التعاون بين الأشقاء العرب والدول الصديقة في العالم. وجاءت زياراته الكثيرة للدول العربية والإسلامية والصديقة، لتشكل رافدا آخر من روافد اتزان السياسة الخارجية للمملكة، وحرصها على السلام والأمن الدوليين. وأجرى محادثات مطولة مع القادة والمسؤولين في هذه الدول، استهدفت وحدة الأمة العربية وحل الخلافات، إضافة إلى دعم علاقات المملكة مع الدول الشقيقة. وكانت زيارات ناجحة انعكست نتائجها بشكل إيجابي على مسيرة التضامن العربي، والأمن والسلام الدوليين. كما تصدرت قضايا الاقتصاد والتعاون التنموي مواضيع زياراته، وفتحت آفاقا جديدة ورحبة من التعاون بين المملكة وتلك الدول.

وسجلت الأحداث أن لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أياد بيضاء ومواقف عربية وإسلامية نبيلة تجاه القضايا العربية والإسلامية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، حيث استمر على نهج القادة السعوديين في دعم القضية سياسيا وماديا ومعنويا، بالسعي الجاد والمتواصل لتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني إلى العودة إلى أرضه وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني، وتبني قضية القدس ومناصرتها بكل الوسائل، وفي هذا الإطار قدم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز تصورا للتسوية الشاملة العادلة للقضية الفلسطينية من 8 مبادئ، عرف باسم مشروع الأمير عبد الله بن عبد العزيز، قدم لمؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002، وقد لاقت هذه المقترحات قبولا عربيا ودوليا، وتبنتها تلك القمة. كما اقترح في المؤتمر العربي الذي عقد في القاهرة في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2000، إنشاء صندوق يحمل اسم انتفاضة القدس، برأسمال قدره مليارا دولار ويخصص للإنفاق على أسر الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا في الانتفاضة. وإنشاء صندوق آخر يحمل اسم صندوق الأقصى يخصص له 800 مليون دولار لتمويل مشاريع تحافظ على الهوية العربية والإسلامية للقدس، والحيلولة دون طمسها، وأعلن عن إسهام المملكة العربية السعودية بربع المبلغ المخصص لهذين الصندوقين.

وتبنى الملك مبادرات لإصلاح الأوضاع في فلسطين ولبنان والعراق والصومال والسودان وتشاد، انطلاقا من عروبته وإسلاميته، كما نجح في رأب صدع العلاقات بين الدول أو داخل العناصر المتنازعة في الدولة الواحدة.

وسجلت الأعوام الماضية التي تولى فيها الملك عبد الله مقاليد السلطة لبلاده امتيازات لافتة وحضورا فاعلا له على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، مما جعله أحد أبرز دعاة السلام والحوار والتضامن وتنقية الأجواء، ومنحه ذلك جوائز متعددة من المنظمات العالمية والإقليمية والمحلية. وواصل حمل لواء الإصلاح وسعى إلى تكريسه كمنهج في مسيرة العمل العربي المشترك، كما نجح الملك عبد الله في إعادة اللحمة إلى العلاقات العربية عندما شدد أمام القادة العرب في مؤتمر القمة الذي عقد بالكويت في 19 يناير (كانون الثاني) من عام 2009 وأعلن فيه عن تبرع بلاده بمليار دولار لإعادة إعمار غزة، على ضرورة تجاوز مرحلة الخلاف وفتح باب الأخوة العربية والوحدة لكل العرب دون استثناء أو تحفظ، ومواجهة المستقبل ونبذ الخلافات، مؤسسا بذلك مرحلة جديدة في مسيرة العمل العربي المشترك تقوم على قيم الوضوح والمصارحة والحرص على العمل الجماعي في مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.

وعلى المستوى الإقليمي والدولي ضاعفت الدبلوماسية السعودية جهودها على الساحتين عبر انتهاج أسلوب الحوار والتشاور وتغليب صوت العقل والحكمة لدرء التهديدات والأخطار وتجنب الصراعات المدمرة وحل المشكلات بالطرق السلمية. كما طرح الملك مبادرات استحق معها أن يسجل اسمه الأفضلية والأسبقية فيها، ولعل أبرزها منحه جائزة البطل العالمي لمكافحة الجوع لعام 2009م في احتفال كبير أقيم في مدينة دافوس السويسرية بمشاركة عدد من ممثلي الدول والمنظمات الدولية والشركات الكبرى.