سينما المخرج الراحل مايك نيكولز استوحت من المسرح والأدب

صاحب فيلم الخريج الشهير ملأ أفلامه ضحكا وعواطف

مايك نيكولز - نيكولز والممثلة جوليا روبرتس خلال تصوير «كلوزر».
TT

على المسرح أدار مايك نيكولز، المخرج الذي توفي عن 83 سنة في التاسع عشر من هذا الشهر، مجموعة كبيرة من الممثلين منهم ليليان غيش وجولي كريستي وجورج سكوت ومورغان فريمن وإليزابت أشلي وروبرت ردفورد وروبين ويليامز. في السينما، اكتشف دستين هوفمن وجمعه مع آن بانكروفت في «الخريج» (1967) وأسند لجاك نيكولسون البطولة في أكثر من فيلم بينها «سيلكوود» (1983) و«حرقة قلب» (1986) وكلاهما أمام ميريل ستريب في البطولة النسائية. إلى هؤلاء تعامل مع هاريسون فورد وروبين ويليامز وجين هاكمن وإيما تومسون وبيلي بوب ثورنتون وجوليا روبرتس وجود لو من بين آخرين كثر.

في الواقع، كان مايك نيكولز، المولود في برلين سنة 1931، واحدا من الذين تسند إليهم المهام الصعبة في تحريك ممثلين عرف عنهم أنهم محدودون في طرق تعابيرهم. خذ مثلا جوليا روبرتس تجدها قدمت أفضل ما لديها من أداء في فيلمه «كلوزر» Closer، كذلك حال كثيرين انتموا إلى نمط معين تجاوزوه أو أثروا فيه عندما استسلموا لتوجيهات نيكولز أمام الكاميرا ومنهم الراحل روبين ويليامز.

* شخصيات عاطفية اسمه الحقيقي ميخائيل بافلوفيتش بيشوخوفسكي. ابن لأبوين يهوديين من مشربين مختلفين، فوالده نمساوي المولد وأمه ألمانية ذات أصول روسية. في مطلع عشرينات القرن الماضي نزحا إلى برلين قادمَين من الريف الصربي وبقيا فيها. لم يكنا يعلمان مستقبل النزعة الجرمانية التي كانت تهز البلاد في ذلك الحين والمستقبل النازي الذي سيحف بها. عندما بدأ النازيون بتجميع اليهود في معسكرات، هرب الأب إلى الولايات المتحدة ثم أرسل لعائلته. مايك وشقيقه روبرت تسللا عبر الموانئ إلى باخرة أقلتهما إلى نيويورك. الأم تسللت عبر الحدود إلى إيطاليا ومنها إلى حيث أبحرت إلى الولايات المتحدة بعد نحو سنة من نجاة ولديها.

الأب هو الذي غير اسم العائلة إلى نيكولز (سمى نفسه بول نيكولز). كانت مرحلة صعبة في حياة الابن الذي لم يتآلف كثيرا مع المحيط إلا من بعد أن غدا شابا. في أواخر الخمسينات التحق بمعهد لي ستراسبورغ للتمثيل المسمى بـ«أكتورز ستديو» وشق طريقه ممثلا كوميديا في مطلع الأمر.

قال ذات مرة إن حياته ولدا ومراهقا لم تشهد أصدقاء منذ أن حط على التربة الأميركية. لا عجب أن أول فيلم أطلقه إلى الشهرة احتوى في صلبه على شخصية شاب متعثر ووحيد وجد نفسه أمام خطوة هي الأكبر حتى تاريخه: الاستجابة لإغراء عاطفي تمارسه عليه امرأة ثرية (آن بانكروفت)، وذلك تبعا لأحداث «الخريج» عن رواية لتشارلز وب. كان هذا الفيلم هو ثاني ظهور لهوفمن الذي أجاد تقديم شخصيته تلك لحد ترشيحه لأوسكار أفضل ممثل رئيسي سنة 1967. الفيلم نفسه منح نيكولز الأوسكار في العام ذاته كأفضل مخرج وذلك من بين 8 ترشيحات رئيسه.

كان «الخريج» الفيلم الثاني فقط لنيكولز. قبله، سنة 1966 «من يخاف فرجينيا وولف» أحد الأفلام المتعددة التي لعب بطولتها الثنائي رتشارد بيرتون وإليزابيث تايلور. فيلمه الثالث كان اقتباسا آخر عن رواية، تلك التي وضعها جوزيف هلر بعنوان «كاتش 22» وأنجزها نيكولز فيلما حافظ فيه على تلك السخرية المناوئة للحرب سنة 1970. المهمة لتحويل تلك الرواية إلى فيلم لم تكن سهلة. مكتوبة كتعليق ومتباعدة الحوارات وذات اهتمامات متباينة. لكن نيكولز أيقن من البداية أن الاعتماد على تغيير سينمائي محض لن يكون لصالح العمل. معالجته حافظت على الموقف الوارد في الرواية أو ذلك الذي يمكن استنتاجه منها. بطله (ألان أركين) طيار خلال الحرب العالمية الثانية يدعي الجنون لعل القيادة تعفيه من المهام. على أن النجاح الذي حققته الرواية، طرحا وأسلوب معالجة، لم ينتقل إلى الفيلم إذ بقي ذلك أسيرا لوضع غير مريح يكمن في أن تلك المواقف التي أراد المخرج الحفاظ عليها كبلت الفيلم أكثر مما نجحت تلك المتغايرة في منحه دفقا جديدا. من بين أوجه الإخفاق أن الجنون الذي يدعيه بطل الكتاب مبرر، بينما يبدو هزيلا على الشاشة.

بعده محاولة من قِبل المخرج ومموليه العودة إلى تلك المشاعر المكبوتة في العلاقات الجنسية أو العاطفية. الفيلم هو «معرفة جسدية» (1971) الذي كان أول تعاون لنيكولز مع الممثل جاك نيكولسون. وضعه أمام آن مرغريت وكانديس بيرغن واستعان بارت غارفنكل (كان وشريكه بول سايمون ميزا «الخريج» بأغنيتهما الشهيرة «مسز روبنسون»). المحور هنا هو بحث الرجال عن معرفة الجنس الآخر ومن تلك المعرفة الارتداد لمعرفة أهوائهم الخاصة ولماذا هي كذلك. يرغبان، على امتداد 20 سنة من حكاية الفيلم، الاقتران بفتاتي أحلام ليجدا أنهما إذا ما وجدا هاتين الفتاتين توقف نموهما وانتهى البحث واقعا بلا خيال أو شغف.

* الأكثر جدوى بعد ذلك أقدم مايك نيكولز على اتجاه مغاير عندما أخرج فيلما يجمع بين الدراما والتشويق الخيالي - العلمي (ولو على نحو محدود) في «يوم الدلفين» مع جورج س. سكوت و(زوجته) تريش فان ديير وبول سورفينو: عالم يتوصل إلى فهم الدلافين ويمضي في محاولته إنطاقها. بعده سجل نيكولز نجاحا جديدا في «الحظ» مع وورن بيتي وجاك نيكولسون. وجود هذين الممثلين معا كان حدثا (لعبا معا مرة ثانية في الفيلم الأفضل «حمر» كما أخرجه وورن بيتي سنة 1981.

هذا تبعه فيلمان آخران هما «سيلكوود» (1983) و«حرقة قلب» (1986). الأول دراما جيدة حول امرأتين (ميريل ستريب وشير) تكتشفان تسريب أشعة نووية ويحاولان التحذير منها، والثاني عن الحب والزواج وخيانة الرجل وكان أيضا من بطولة ستريب. في هذا الفيلم تكتشف الزوجة خديعة زوجها وتجابهه في حفلة عشاء مع أقارب لهما. اللحظة التي يترنح فيها هذا الزواج بعد عشرة طويلة.

كلا هذين الفيلمين جيد، لكن «سيلكوود» أكثر جدوى بسبب معالجته الجيدة لحياة شخصياته. خطابه المضاد للأبحاث النووية أو، على الأقل، اللافت لخطر الإشعاع، متأت من شحنه الفيلم مواقف إنسانية وليست سياسية. على عكس «مرض صيني» لجيمس بردجز (1979)، تحاشى العناوين اللافتة وغاص في الحياة الخاصة والأليفة لأبطاله من دون التغاضي عن المبثوث من رسالته.

فيلم آخر ساخر من النظم العسكرية هو «بيلوكسي بلوز» (1988) عن مسرحية لنيل سايمون قام ببطولتها ماثيو برودريك، لكنه لم يثمر عن أي نجاح. من حسن حظ المخرج أن فيلمه التالي «فتاة عاملة» الذي تم عرضه في العام ذاته من بطولة سيغورني ويفر وميلاني غريفيث وجوان كوزاك وهاريسون فورد. هذا نوع من الكوميديا التي تؤدي إلى قصة حب بعد خلاف وهو حال «بطاقات بريدية من الحافة» Postcards from the Edge سنة 1990 الذي جمع نيكولز مع ميريل ستريب مرة أخرى بالإضافة إلى شيرلي مكلين.

حافظ نيكولز على قدراته النوعية في كافة تلك الأعمال. مدير أداء ممتاز مع عين على التصوير النقي أمنه له طوال رحلته بعد أكبر الأسماء في هذا المجال ومنهم روبرت سورتيس «الخريج» وديفيد وولكن «كاتش 22» وجوسيبي روتانو «معرفة جسدية» ونستور ألماندروس «حرقة قلب» من بين آخرين.

* بين الجيد والهش في هذه الأعمال يلاحظ كثرة اختيار نيكولز للحكاية العاطفية في منوالها الرومانسي. وسواء اقتبس الفيلم من مسرحية كما الحال «معرفة جسدية» أو من رواية كما حال الكثير من أعماله ومنها «ألوان أساسية» سنة 1998، فإن المعالجة بحثية وسياقها لا يخلو من المفاجآت كونه ملاحظا، كما اعترف في أحد أحاديثه الصحافية، كيف يتصرف الناس في مجالسهم، كان يقول إن «البشر يقولون شيئا ويفعلون شيئا آخر ويفكرون بشيء ثالث». معايناته لتلك العلاقات قادته لتحقيق فيلم «قفص العصفور» سنة 1996 كوميديا مستوحاة من مسرحية فرنسية لجان بواريه (قامت بكتابة السيناريو لها إيلين ماي التي كتبت لنيكولز الكثير من الأعمال). المسرحية المذكورة كانت صورت فيلما فرنسيا بعنوان La Cage Aux Folles لفرنسوا فيبر سنة 1978 ثم استكملت سنة 1980 بجزء فرنسي ثان.

الحكاية بسيطة القوام في «قفص العصفور» وفي المسرحية وترجمتها الفيلمية الفرنسية معا: الأب مثلي وابنه مستقيم والابن يريد من الأب أن يتظاهر بأنه ليس مثليا أمام عائلة الفتاة التي يحبها. هناك انتخاب جيد للممثلين ومنهم روبين ويليامز وناتان لاين، لكن الفيلم في النهاية هش بسبب رغبته في ألا يكون أكثر من كوميديا مفارقات.

الحال ذاته ساد «من أي كوكب أنت؟» إنما بنتائج فنية وتجارية سيئة. هذا الوضع شمل أيضا «بالنسبة لهنري» مع هاريسون فورد سنة 1991، لكن نيكولز أنقذ نفسه من حين لآخر في تلك الفترة، فإذا به ينقلب صوب الإجادة مرة أخرى في فيلمين متباعدين قليلا هما «ذئب» (مع جاك نيكولسون من جديد - 1994) و«ألوان رئيسة» مانحا جون ترافولتا ما كان يحتاجه من دفعة تؤكد موهبة محدودة القدرات في الواقع.

آخر فيلمين حققهما نيكولز كانا جيدين أيضا: «أقرب» أو «كلوزر»: دراما عاطفية حول مصور (جود لو) والمرأة التي يصورها (جوليا روبرتس) و«حرب تشارلي ويلسون»: دراما سياسية النبرة أنجزها سنة 2007 مع بطولة لتوم هانكس وآمي أدامز وجوليا روبرتس وفيليب سايمور هوفمن.

خلال السنوات الخمسين الأخيرة من حياته، انتقل من شخص وحيد بلا أصدقاء، إلى واحد من المحاطين بصداقات كثيرة حتى ضمن المحيط السينمائي، وهو أمر نادر. وفي تأبينه على الـ«تويتر» ومواقع الإنترنت، تحدث توم هانكس وجوليا روبرتس وجون غودمان وسواهم عن صداقاتهم معه. لكن الصداقة هي طريق مزدوج ينطلق من الذات ليستقبل إليها، ومايك نيكولز عرف بأنه يبذل في سبيل صداقاته كما ذكر هانكس راثيا.