فنان تتابع موجته ارتفاعها.. وآخر تجتاحنا أفكاره المجنونة

هوكوساي الاستثنائي الذي يأخذنا إلى الدهشة والماركيز دو ساد العنيف في معرضين

موجة كاناغارو لهوكوساي - التأثير الصيني في لوحة لهوكوساي
TT

احتفت العاصمة الفرنسية، باريس، هذه الأيام بأعمال فنية مضى عليها 3 قرون ناجزة، ولم تزل حاضرة في صميم المشهد الثقافي العالمي.

الأعمال الأولى في «الغراند باليه»، معرض للفنان الياباني كاتسوشيكا هوكوساي (1749 – 1849) الذي يعد من أهم أعلام الفن التشكيلي الياباني، وتعد لوحته «موجة كاناغاوا العظيمة» التي رسمت بطريقة الرسم على ألواح الخشب، وهي واحدة من التقنيات القديمة في الفن الياباني، أيقونة فريدة من أيقونات الفن العالمي. أما الأعمال الفنية الثانية التي يعرضها متحف دورسيه فهي ليست لفنان تشكيلي إنما لكاتب يصعب تحديده بإطلاق واحدة من بين صفات الفكر والأدب، هو الماركيز دو ساد، أو دوناسيان ألفونس فرنسوا (1740 – 1814). والمعرض ليس له، إنما لأعمال حول كتاباته ومنجزه الأدبي والفكري الذي مثل تجاوزا لقيم عصره وحتى قيم العالم المعاصر، خارجا من المنظومة الأخلاقية المكرسة اجتماعيا، نحو عالم غرائبي وصل إلى حدود القتل من خلال استعمال وسائل تعذيب الجسد البشري، ما جعله مصطلحا علميا وفلسفيا متداولا في نواحي الحياة كافة.

* موجة هوكوساي

لا نعرف من هوكوساي سوى موجته العظيمة، موجة خرجت من البحر إلى اللوحة، ثم صمدت أمام الزمن ولم تصل إليها القنابل النووية التي ضربت اليابان في القرن الماضي. لكن إن كان لهذا المعرض، الذي يستضيفه «الغراند باليه» في باريس، وهو الأول، الذي يعرض أعمالا بهذا الشمول للفنان الياباني خارج بلده، غاية، فهي اكتشاف الاستثنائي في هذا الفنان الذي غاب قبل قرن ونيف تاركا آلاف الأعمال الفنية التي تتناول، بشكل خاص، الحياة اليومية للشعب الياباني في الفترة التي عاش فيها.

يذهب هوكوساي نحو الانطباعية المترسخة في الفن الياباني بشكل خاص، حيث استفاد أيضا، في معالجته للمفهوم الفني والأبعاد، من الرسومات الصينية. غير أنه لا يختلف كثيرا عن غيره، لا سيما أبناء جيله، سوى بالمواضيع التي تنحو أكثر فأكثر إلى إبراز قوة المشهد الذي يستخدم طاقة كبيرة لتلافي نسيان أي تفصيل، إضافة إلى رؤية خاصة جدا للموضوعات التي يتناولها، مما يضع الرائي أمام تحد فعلي يتعاظم شيئا فشيئا ليكون حالة من الدهشة، لا تمحى بسهولة ويسر، مثلما يحدث عادة لدى مشاهدة أعمال أخرى.

تختلف موضوعات هوكوساي المعروضة بعضها عن بعض، مكونة مراحل تأثره بالأشياء كلما تقدم في العمر، أو حتى تعرض لانتكاسات. إذ تظهر المرحلة الأولى رسوما دنيوية بالحبر الذي كان يستخدمه قبل عام 1829، حيث توفر عندها اللون الأزرق الثابت الذي صنع في ألمانيا بينما كانت الألوان، وخصوصا الأزرق قبلا، تبهت وتزول تدريجيا كلما مر عليها الزمن، حتى زوال اللوحة نهائيا أو أجزاء منها على أقل تعديل. وتعتبر المرحلة الثانية أحلام زوجات الصيادين، واحدة من أهم مراحل حياة هوكوساي، حيث خرج فيها عن المألوف والمتداول في الفن الياباني الذي يميل أكثر إلى المحافظة والانغلاق الأخلاقي الصارم. لكن هذه المرحلة على أهميتها لم تستمر طويلا، حيث رضخ هوكوساي لشروط السوق وعاد لرسم المشاهد الطبيعية للصيادين والطبيعة في مختلف أشكالها.

ختم هوكوساي حياته الفنية بمجموعة جبل فوجي المعروفة بمجموعة 36 منظرا لجبل فوجي المقدس، التي تنتمي إليها لوحة الموجة العظيمة. وهي المجموعة التي كرسته معلما كبيرا في ذلك الجانب البعيد من العالم. فقد تأثر بها كثر، وساعدت هذه المجموعة الانطباعيين الفرنسيين على مقارعة أصحاب الأسلوب الأكاديمي الممل. ذهب هوكوساي في هذه المجموعة إلى حفر انطباعيته الذاتية المعتمدة على مفاهيم فلسفية ودينية خاصة جدا تعتمد المزج ما بين قوة الطبيعية في كل حالاتها وقوة الصفاء الديني الذي ينعكس ثابتا في الطبيعة وما يحيطها، فموجة كاناغاوا التي تنتمي إلى هذه المجموعة تصور غضب الطبيعة العارم والذي لا يقاوم، من خلال البحر الذي يبتلع كل شيء في لحظات خروجه عن وقاره، بينما في وسطها ومن بعيد يظهر جبل فوجي هادئا وشامخا ولا يعكر ثباته شيء.

* العنف فكرةً وسلوكًا

ما من غير الممكن، بعد هذا المعرض التوثيقي الكبير، اعتبار الماركيز دو ساد جنحة أخلاقية في عالم الأدب. الرجل الذي عاش بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بقي لعقود طويلة وصمة عار على جبين الأدب، ومحط دراسة واختبار من علماء النفس كحالة شاذة، لا مثيل لها، لا يمكن التعاطي معها سوى ضمن جدران الدراسات العلمية والجامعية لا غير. لكن هذا لم يدُم طويلا، جاء السرياليون ونبشوه وقرأوه، ثم أعادوا الاعتبار له كمفكر ساهم بوضع أسس الحداثة الأدبية. لم يكن أبولينير، السريالي الأول الذي أعاد الاعتبار لساد، ليهتم به لولا اعتباره أن ساد وفكره يشكلان أهم علامات القطيعة الفعلية مع الثقافة الغربية التقليدية المبنية على أسس أخلاقية، كان من شأنها أن تؤطر الفكر الغربي وكل ما يدور في فلكه. وقد ساهمت دراسة نشرتها السوربون في عام 1994 للورنس كومبا في تبيان جوهر العلاقة التي تشكلت بين أبولينير وساد لحظة اكتشاف الأول للثاني، ومدة استفادة الأول من الثاني في بناء السريالية التي تبعه فيها بريتون وإيلوار.

والحق أن المجاهرة بالماركيز دو ساد في الأوساط الاجتماعية، على الرغم من مرور قرنين على موته، بقيت حالة شاذة. ذلك أن هذا الكاتب الأرستقراطي وصاحب النزعات العنفية في الجنس، يشكل حتى يومنا هذا حالة شاذة. وعلى الرغم من الاعتراف به أديبا فرنسيا أعطى الأدب مادة مختلفة كليا عن غيره ومميزة إلى أقصى حدود التميز، فإنه ظل مبعدا عن كل ما يتعلق بالنشاطات الأدبية والفكرية، ولا يأتي ذكره سوى لماما، ويكتفي بدراسته طلاب المراحل العليا فقط. وفي حين أن البعض من المفكرين يعطيه أهميته كمفر تحرر من قيود المجتمع الغربي البطريركية، وذهب بعيدا جدا في حريته، إلا أن البعض لا يراه سوى كاتب بورنوغرافي شاذ لا معنى له ولا يجب أن يدخل إلى أي بيت.

يضع متحف دورسيه أمام رواد المعرض مادة غنية جدا حول ساد، تتألف من لوحات فنية تصور متخيلة عالم الكاتب الأرستقراطي، أو بورتريهات تصوره هو نفسه لكن تخيلا. إذ لا يوجد صورة رسمية له على مثال معظم سكان تلك الفترة الذين كانوا يرسمون وتضع صورهم في قصورهم، خصوصا أن الماركيز دو ساد كان ماركيزا حقيقيا من طبقة النبلاء، وكان عسكريا وصل إلى رتبة عقيد في جيش الملك وهو في التاسعة عشرة من عمره، غير أن المهم في المعرض ليس صورته الشخصية قدر اللوحات التي رسمها كبار الفنانين العالميين مثل بيكاسو الذي رسم لوحة - خطف سابين - التي بدا الاهتمام فيها داخل المعرض وتصدرته. إلى جانب غيرها من الأعمال السينمائية مثل الفيلم الذي أخرجه بازوليني (120 يوما لسدوم)، وهو أحد أهم نصوص ساد الذي يصل فيه الوصف الإيروتيكي إلى أقصى درجات العنف الجسدي وصولا إلى القتل. حيث كتبه أثناء سجنه في قلعة الباستيل الشهيرة التي كانت سجنا في عام 1785. ويذكر الكتاب الخاص بالمعرض أن هذا النص كتب على ورق شفاف طوله اثنا عشر مترا بخط دقيق جدا، وهربت المخطوطة إلى ألمانيا قبل أن تعود إلى أحد متاحف باريس في القرن الماضي.

دأب متحف درسيه لسنوات على تنظيم هذا المعرض الذي حتما سيقصر على النخبة والفضوليون الذين سمعوا عن ساد أو قرأوا أحد أعماله، لكن يبقى أن هذا الكاتب والمفكر الكبير عاش ما فكر فيه وما كتبه حرفيا وحتى الموت.