قضية الأرجنتين تقلب عالم الديون السيادية رأسا على عقب

الكل خاسر فيها بدءا بالقضاء الأميركي

TT

لم يجن الفائزون شيئا، ولم يفقد الخاسرون شيئا. أما المتابعون الأبرياء فيساورهم القلق ويناضلون بشتى الطرق لتجنب التحول إلى الخاسرين الحقيقيين.

وربما تكشف الأيام أن النظام القضائي الأميركي قد تجاوز حدود سلطاته بكثير ليجد نفسه مضطرا للتراجع.

انقلب عالم الديون السيادية - القروض التي تحصل عليها الدول - رأسا على عقب بانتصار صناديق تحوط بقيادة «إليوت مندجمنت» على الأرجنتين. كان القاضي توماس بي. غريسا، من محكمة المقاطعة الفيدرالية في مانهاتن، قد أصدر حكما منذ عامين يقضي بضرورة أن تسدد الأرجنتين، التي تخلفت عن سداد ديونها عام 2001. سنداتها بالكامل، بما في ذلك فوائد تأخيرية، لمستثمرين رفضوا مبادلتها بأخرى جديدة في إطار محاولة لإعادة هيكلة الديون. وإذا لم تفعل ذلك، ربما تعجز البلاد عن سداد الفوائد المرتبطة بالسندات الجديدة.

وقد أيدت محكمة الاستئناف الأميركية الحكم، متجاهلة بذلك مناشدات وزارة العدل وصندوق النقد الدولي بإلغاء الحكم. في يونيو (حزيران)، رفضت المحكمة العليا الاستماع إلى القضية، وبذلك ظل الحكم الصادر منذ عامين قائما.

وبعد 5 شهور، لم تسدد الأرجنتين بعد أي أموال لصناديق التحوط. وقد نجح القاضي في منعها من سداد أموال لحاملي سندات أخرى، بيد أن ذلك لم يحقق شيئا سوى زيادة أعداد الخاسرين.

يذكر أنه بإمكان أفراد أو شركات التقدم بلب لإشهار الإفلاس وإقناع قاضي بإسقاط أو تخفيض بعض الديون. داخل الولايات المتحدة، بمقدور المدن إشهار إفلاسها وتخفيض التزاماتها المالية، مثلما فعلت ديترويت هذا الشهر، إلا أنه لا يتوفر نظام مماثل للدول.

منذ أكثر من عقد مضى، بعد الأزمة المالية الآسيوية، اقترح صندوق النقد الدولي آلية جديدة لإعادة هيكلة الديون السيادية للدول، لكن الولايات المتحدة ودول أخرى رفضت الفكرة باعتبارها انتهاكا للسيادة.

وفي أعقاب الحكم الصادر بحق الأرجنتين، حاولت الجمعية العمومية التابعة للأمم المتحدة إحياء هذه الجهود عبر تمرير قرار بأغلبية 124 صوتا مقابل 11 صوتا، مع امتناع 41 دولة عن التصويت.

بيد أن المشكلة تكمن في أن الدول الأهم على هذا الصعيد، بما فيها الولايات المتحدة، تعارض القرار حتى بعد تخفيف صياغته. أما بالنسبة للتصويت داخل صندوق النقد الدولي، فقد جاء بنسبة 35 في المائة مؤيدين و39 في المائة معارضين، بينما امتنع الباقون عن التصويت. وبذلك ظلت الفكرة تراوح مكانها.

بالنسبة للسندات الدولية الصادرة في ظل قانون نيويورك، مثلما الحال مع الكثير، جرت الحال على إمكانية مقاضاة دولة تخلفت عن سداد ديونها، وإمكانية إصدار المحاكم أوامر لها بالدفع، لكن الحصانة السيادية كانت تعني أن الحكم القضائي هذا يتعذر فرضه. لذا، كان غالبية حاملي السندات يضطرون نهاية الأمر للموافقة على صورة ما من إعادة هيكلة الديون، غالبا بمشاركة صندوق النقد الدولي.

ومع ذلك، من الواضح أن الحكم الصادر بخصوص الأرجنتين منح حاملي السندات حافزا للتشبث بموقفهم خلال أي محاولات دولية مستقبلية لإعادة هيكلة الديون. وتبعا للحكم الصدر عن القاضي غريسا، فإن المتشبثين بمواقفهم قد يجنون مكاسب أكبر بكثير عن أولئك الذين يوافقون على إعادة الهيكلة.

ذلك شريطة أن يتم فرض القرار.

وإدراكا منه لهذه المعضلة، منع القاضي المصارف والمؤسسات المالية الأخرى من القيام بأي إجراء من شأنه معاونة الأرجنتين على تجنب تنفيذ الحكم. ويعني ذلك توسيع نطاق الحكم لما وراء السندات الصادرة في ظل قانون نيويورك، ليمتد إلى الأخرى الصادرة تحت مظلة القوانين الإنجليزية والأرجنتينية.

من جهتها، حاولت الأرجنتين سداد فوائد السندات الجديدة، لكن المصارف أبدت رفضها خرق أوامر القاضي بقبول ذلك في لندن ونيويورك. في الأرجنتين، أقنع الفرع المحلي لـ«سيتي بانك» القاضي بالموافقة على السماح بـ3 دفعات من الفوائد على هذه السندات، لكنه لم يعد بالسماح بدفعات مستقبلية.

وأعلنت الأرجنتين أنها ستحاول مبادلة السندات الصادرة تحت مظلة قانون نيويورك - التي يملك القاضي غريسا ولاية قضائية عليها - بأخرى جديدة صادرة تحت مظلة القانون الأرجنتيني. إلا أن بعض حاملي السندات يخشون من أنه عبر قبولهم هذا التبادل ربما يعتبرون في وضع انتهاك لأوامر القاضي. وربما نرى حكما في حق أحد حاملي السندات يقضي بإدانته بازدراء المحكمة بسبب قبوله دفعة من أموال الفائدة.

في حالات الإفلاس التي تواجه الشركات، غالبا ما يحصل الدائنون الذين سيخسرون حتما أموالا على قروضهم ونصيب من الشركة الجديدة التي تظهر، مما يعطيهم على الأقل احتمالية للتعافي إذا ما ازدهرت أحوال الشركة التي أعيدت هيكلتها.

بطبيعة الحال من المستحيل الحصول على نصيب داخل دولة ما، ورغم ذلك حاولت الأرجنتين بالفعل تحقيق ذلك، حيث تضمنت سندات التبادل التي طرحتها بنودا تكفل زيادة العائد إذا ما نما الاقتصاد بسرعة كافية. وقد حدث ذلك بالفعل، وجنى حاملو الأسهم أموالا تفوق ما توقعوه بادئ الأمر.

ومن غير الواضح بعد إلى أي مدى يمكن تطبيق هذه السابقة الأرجنتينية على حالات مستقبلية. يذكر أن محكمة الاستئناف، في إطار تأييدهما الحكم الصادر عن القاضي غريس، أشارت لمجموعة من الإجراءات التي اتخذتها الأرجنتين واعتبرتها المحكمة مثيرة للغضب. إلا أنها لم تذكر ما إذا كانت دول ما أخرى اقترفت فقط بعض هذه الأفعال، أو ربما لم ترتكب أيا منها، يمكنها ضمان عدم معاملتها بأسلوب مماثل لما حدث مع الأرجنتين.

الملاحظ أن مؤيدي قرار القاضي غريسا يميلون لرؤية الأمور بشكل قاطع بين اللونين الأبيض والأسود فقط، بمعنى أن الأرجنتين وعدت بالسداد، لذا يتحتم عليها الوفاء بوعدها.

يذكر أنه خلال مؤتمر عقدته جامعة كولومبيا هذا الأسبوع، قال الخبير الاقتصادي بالجامعة جوزيف إي. ستيغليتز، الذي سبق له العمل كبيرا للخبراء الاقتصاديين بالبنك الدولي، إن الإنصاف يقتضي أخذ جميع الدائنين، وليس حاملي السندات فحسب، في الاعتبار عند دراسة ما ينبغي فعله عندما تعجز دولة ما عن سداد ديونها. وتتضمن قائمة الدائنين في هذه الحالة أصحاب المعاشات بالبلد المدين الذين قد يجوعون كي يجني صندوق تحوط أرباحا طائلة على سندات اشتراها بتخفيض كبير بعدما عجزت البلاد عن سداد ديونها.

وفي ظل غياب قانون دولي للإفلاس، شجعت الحكومة الأميركية الدول على تغيير شروط السندات الجديدة التي يصدرونها. وبالفعل، تضمنت السندات الصادرة حديثا عن فيتنام وكازاخستان والمكسيك لغة ترمي لتجنب التعرض لتفسير مشابه للقانون ويحمل بنودا تسمح للغالبية العظمى من حاملي السندات بإجبار الممتنعين على قبول إعادة هيكلة الديون.

* خدمة «نيويورك تايمز»