الانتخابات الرئاسية تقسم تونس حسب الآيديولوجيات

قائد السبسي في الشمال والساحل.. والمرزوقي في الجنوب والوسط

TT

كشفت النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية التي أعلنت عنها الهيئة العليا للانتخابات «التوجه العام» الذي سبق أن كشفته تقديرات مؤسسات استطلاعات الرأي مع فوارق جزئية.

وكانت حصيلة الاقتراع العام بين 27 مرشحا لكرسي الرئاسة في قرطاج إقصاء كاملا للمستقلين و«الوسطيين» وزعامات «اليسار الاجتماعي» بزعامة أحمد نجيب الشابي ومصطفى بن جعفر. كما أكدت تقدم زعيم حزب «نداء تونس» الباجي قائد السبسي على منافسه في الدورة القادمة رئيس الجمهورية الحالي المنصف المرزوقي.

لكن هذه النتائج خفضت الفارق بين المرشحين للدور الثاني من نحو عشرين في المائة، حسب بعض استطلاعات الرأي يوم الاقتراع العام، إلى 6 في المائة فقط أي أقل من مائة ألف ناخب، وهذا التطور سيجعل التنافس أكثر «إثارة» في الدور الثاني ويفتح الباب عريضا أمام مختلف السيناريوهات.

لكن ما هو الجانب الخفي في هذه الانتخابات الرئاسية التعددية والشفافة الأولى من نوعها منذ الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في يناير (كانون الثاني) 2011؟

يقول الصادق بلعيد، العميد السابق لكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، إن «من أخطر ما في نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية» في دورها الأول أنها فاجأت المراقبين بانقسام تونس إلى شطرين: الشمال والعاصمة والمدن الكبرى في السواحل صوتت للسياسي المخضرم و«رجل الدولة الكبير» الباجي قائد السبسي. في المقابل فإن ناخبي محافظات الجنوب والوسط بما في ذلك القيروان والقصرين وعاصمة الجنوب صفاقس صوتت للرئيس المنصف المرزوقي أصيل الجنوب والذي يرفع شعار «الوفاء لمبادئ الثورة».

وكانت 6 ولايات من الجنوب صوتت في الانتخابات البرلمانية لمرشحي حركة النهضة الإسلامية التي اتهمها قائد السبسي بالانحياز للمرزوقي، لكن «الأمر المفاجئ والغريب»، حسب الجامعي خالد عبيد، أن «ظاهرة الاصطفاف الجهوي» حول المرزوقي توسعت لتشمل هذه المرة بعض محافظات تونس «الأكثر فقرا» مثل محافظات القصرين والقيروان وقفصة التي انفجرت فيها أخطر أعمال العنف قبل إطاحة بن علي، على الرغم من كون حزب قائد السبسي كان قد تفوق فيها على حركة النهضة في الانتخابات البرلمانية الشهر الماضي.

ويفسر عالم النفس الاجتماعي عبد الوهاب محجوب هذا التطور بـ«الإحساس بالإحباط» الذي انتشر بين الشباب وأبناء الطبقات الوسطى والفقيرة. ولا يستغرب قياديون من حزب الباجي قائد السبسي «تصويت 12 من محافظات تونس ضد مرشحهم بينها كامل الجنوب والوسط الغربي»، وفسره الناطق الرسمي باسم الحزب الأزهر العكرمي «بالشعور بالإحباط والضيم واستيائهم من تقصير حكومات ما بعد الاستقلال مع محافظات المناطق المهمشة».

لماذا؟

وإذ يبدو كثير من علماء الاجتماع والدراسات الاجتماعية «مصدومين» بظاهرة «انقسام» تونس لأول مرة منذ عقود بين شمال موال لأنصار «الواقعية» و«هيبة الدولة» و11 محافظة في الجنوب والوسط انحازت «لرموز الثورة»، فإن بعض الجامعيين والإعلاميين يقدمون تفسيرا آخر «لبوادر التصدع» جهويا في تونس.

في هذا السياق، يقدم زهير بن يوسف، الخبير في الدراسات الحضارية والأمين العام المساعد لرابطة حقوق الإنسان، شهادة مثيرة من خلال إشرافه على فريق من المراقبين الحقوقيين للانتخابات في محافظات الشمال. زهير بن يوسف اعتبر أن «المال السياسي الفاسد والوعود المزيفة التي قدمها بعض أنصار قائد السبسي للعاطلين عن العمل وللمزارعين الذين يمرون بصعوبات وراء تفوق مرشحهم في محافظات الشمال التي تتميز بارتفاع نسب الفقر والأمية والشيخوخة السكانية وانخفاض الحاصل الديموغرافي بسبب الهجرة». في المقابل فإن محافظات الجنوب تتميز بنسب الثقافة المرتفعة فيها وبتأثير التضامن القبلي والعائلي والجهوي فيها «وبما أن المنصف المرزوقي من أبناء الجنوب (ورفع شعارات منحازة للجنوب والمناطق المهمشة منذ الاستقلال)، فقد تجاوب معه غالبية الناخبين الغاضبين بسبب احتكار السلطة بين أبناء العاصمة والساحل موطن الرئيسين السابقين بورقيبة وبن علي والغالبية الساحقة من وزرائهما والمقربين منهما».

إلا أن بعض الخبراء السياسيين، مثل الجامعي محمد ضيف الله، فسروا سلوك الناخبين في الجنوب والوسط الغربي وتقسيم خارطة تونس الانتخابية بأنه «الوجه الآخر للمعركة الانتخابية بين المرزوقي وقائد السبسي».

من جهته، فسر رضوان المصمودي، رئيس مركز الإسلام والديمقراطية بتونس وواشنطن، التصويت للمرزوقي رغم كل الانتقادات الموجهة إليه من قبل الإعلاميين والحقوقيين بحرص تيار عريض من الناخبين على تجنب «تغول حزب نداء تونس وزعاماته ومن انفراده بالسلطة التنفيذية بجناحيها والسلطة البرلمانية». وكان المرزوقي وأنصاره رفعوا في حملتهم الانتخابات شعار «لا للتغول» (من الغول)، فرد عليهم قائد السبسي ساخرا في اجتماع انتخابي كبير في العاصمة «لا الغول ولا المهبول»، مبرئا نفسه من تهمة «التغول والانفراد بالسلطة»، ومتهما منافسه المرزوقي بالجنون و«الهبل».

الخبير في الدراسات الاجتماعية القيادي في حزب نداء تونس بوجمعة الرميلي، وثلة من المقربين من الباجي قائد السبسي مثل الحقوقية سعيدة قرقاش، يعتبرون أن «نجاح مرشح نداء تونس الكبير في تونس الكبرى ومحافظات الشمال والساحل «نتج عن نجاعة هياكل الحزب في الشمال مقابل ضعف تلك الهياكل في الجنوب والوسط بسبب حداثة عمر هذا الحزب الذي تأسس أواسط عام 2012».

كما اتهم الأزهر العكرمي، الناطق الرسمي باسم حزب نداء تونس، هياكل حركة النهضة «باعتماد خطاب مزدوج: الإعلان عن الحياد بين كل المرشحين رسميا مقابل إعطاء أوامر سرية لأنصارها بالتصويت للمرزوقي وإنجاح اجتماعاته الانتخابية».

والجدل الذي راج في تونس حول انحياز حركة النهضة للمرزوقي في كامل البلاد خاصة في الجنوب فسر فوزه بأكثر من مليون صوت، أي أكثر بقليل من الأصوات التي حصلت عليها قوائم حركة النهضة في الانتخابات التشريعية يضاف إليها نحو مائة ألف من أنصار حزب المؤتمر والأحزاب القريبة منه التي دعت للتصويت لفائدته مثل حزب التيار الديمقراطي بزعامة الوزير السابق والحقوقي محمد عبو، وحزب وفاء بزعامة المحامي عبد الرؤوف العيادي، وحزب البناء بزعامة رياض الشعيبي القيادي السابق في حركة النهضة الذي انشق عنها في صيف 2013 بسبب تقارب زعيم الحركة راشد الغنوشي مع زعيم حركة نداء تونس السيد الباجي قائد السبسي.

وكان الشعيبي وعدد من قادة أحزاب «المؤتمر» و«وفاء» و«التيار الشعبي» وتيار من «النهضويين» قاطعوا «الحوار الوطني» الذي رعته نقابات العمال ورجال الأعمال وأسفر عن استقالة حكومة علي العريض وتشكيل حكومة تكنوقراط بزعامة المهندس مهدي جمعة. وسجل الطيب البكوش، الأمين العام لحزب نداء تونس، أن «تقسم تونس بين شمال وجنوب» سببه ناخبو حركة النهضة الإسلامية «لأن حصة المرزوقي في الدورة الأولى ارتقت من 2 إلى نحو 33 في المائة بفضل الـ30 في المائة من ناخبي النهضة في التشريعية».

وإذا سلمنا جدلا بما ورد على لسان زياد العذاري، الناطق الرسمي باسم النهضة، من كون «الموقف الرسمي للقيادة المركزية للحركة كان ولا يزال (الحياد) في الانتخابات الرئاسية، فقد تكون بعض أجزاء (ماكينة النهضة الانتخابية) دعمت المرشح منصف المرزوقي دون انخراط كامل في المعركة، رغم موقف قيادتها المتمسك بالمشاركة مع (نداء تونس) في الحكومة المقبلة».

ويرى خبراء مستقلون يعتقدون أن قيادة النهضة تعتبر أن الأهم بالنسبة لها مستقبلا هو التفاوض مع قيادة «نداء تونس» حول تشكيلة الحكومة ورئاسة البرلمان، أن «الدعم المتحفظ للمرزوقي» في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية يأتي «تحسينا لشروط التفاوض» مع الباجي بين الدورتين. فإذا فشلت المفاوضات قد تدعم «ماكينة النهضة» المرزوقي بنسق أكبر في الدورة الثانية تحت شعار «منع انفراد حزب واحد برئاسة السلطة التنفيذية برأسيها والهيمنة على البرلمان».