«مسرحة» معروضات «الأرميتاج».. بطاقة تعارف جديدة بعد 250 عاما على تأسيسه

يضم ما يزيد على 3 ملايين من أهم اللوحات والمعروضات الفنية العالمية

داخل متحف الارميتاج - أحد زوار متحف أرميتاج يتأمل شجرة عائلة قياصرة روسيا ضمن معرض أقيم أخيرا حول ترميم مقتنيات المتحف العريق (رويترز)
TT

بمناسبة الذكرى الـ50 بعد المائتين لتأسيس متحف «أرميتاج»، أحد أشهر وأقدم المتاحف العالمية، وأكبر متاحف الدولة الروسية، وأعرقها تاريخا، شاهد رواد «مسرح الأرميتاج» عرضا مسرحيا اختار القائمون عليه أبطاله من معروضات المتحف الروسي ذائع الصيت. وقد تفنن القائمون على هذا العرض المسرحي في اختيار أبطال العمل الإبداعي من أهم الشخصيات التي تزدان قاعات الأرميتاج بصورهم من أعمال كبار الفنانين العالميين، بعد مرحلة إعداد طالت لما يزيد على 5 سنوات، شارك فيها عدد من أبرز الممثلين والممثلات وراقصات الباليه، إلى جانب أعضاء أوركسترا مسرح «أرميتاج». وقالت يليزافيتا تروبكينا، صاحبة فكرة هذا المشروع الفني، إنها استوحيت لتكون هدية فنية يقدمونها بمناسبة اليوبيل التاريخي للأرميتاج، وذكرى تأسيسه في العاصمة التاريخية سان بطرسبورغ. أما تاتيانا سيليزنيوفا، المسؤولة عن تنفيذ المشروع، فقالت إنها اختارت عددا من أهم اللوحات الفنية وصور الشخصيات التاريخية لتكون في صدارة هذه العروض التي تطلبت جهدا فائقا، ولا سيما في مجال اختيار وإعداد الأزياء التاريخية، ومنها ما احتاج تنفيذه عاما بأكمله.

ومن المعروف أن متحف الأرميتاج الذي يضم ما يزيد على 3 ملايين لوحة من أهم اللوحات والمعروضات الفنية العالمية، تأسس في عام 1764 في إطار فكرة طرحها قيصر روسيا الأشهر بطرس الأكبر، وعملت على تنفيذها الإمبراطورة يكاتيرينا الثانية التي كانت أمرت سفراءها في الخارج بجمع المقتنيات الفنية العالمية لضمها إلى أول مجموعة فنية كانت اشترتها من أحد كبار تجار برلين في ذلك الزمان، واختاروا له «قصر الشتاء» وملحقاته، مما سمي لاحقا بـ«أرميتاج»، مقرا على ضفاف نهر «نيفا» في قلب العاصمة سان بطرسبورغ.

أما عن مبنى «الأرميتاج» فهو أيقونه مفرطة في الأناقة تنساب على ضفاف نهر «نيفا». وفيه تجتمع مكونات هذه الأسطورة التاريخية وراء جدران نموذج معماري فريد النمط، اختارت له الإمبراطورة الروسية كاتيرينا الثانية اسم «أرميتاج»، وهو مشتق وكما تقول الأدبيات التاريخية من «كلمة فرنسية تعني الخلوة أو المكان المنعزل الذي كانت تقضي فيه الإمبراطورة معظم وقتها بمفردها أو مع وصيفاتها المقربات منها، هربا من قواعد بروتوكول الحكم التي كانت تكرهها». وسرعان ما تحول المكان الذي طالما كان معنى للعزلة والوحدة، إلى مقصد لعشاق الفنون والباحثين عن الجمال، بعد أن تحول إلى أحد أهم متاحف العالم، وأشهر المقاصد السياحية في العاصمة الشمالية لروسيا الحديثة. و«الأرميتاج» مكون من سلسلة من القصور عريقة التاريخ، تحتضن في رقة وادعة أهم الكنوز الفنية العالمية، من إبداع أنصع العقول والأخيلة على مدى تاريخ البشرية. ولم تكن هذه القصور مجرد أبنية معمارية، بل كانت ولا تزال تحفا معمارية فنية من نتاج عدد من أهم فناني ومعماريي العصر مثل فالين الذي استجاب لنزوة جديرة بالاحترام، أعربت عنها قيصرة روسيا يكاتيرينا الثانية بحثا عن الفريد الجديد، وراستريللي الذي شيد «قصر الشتاء»، وديلاموت الذي صمم مبنى «الأرميتاج الصغير»، وفيلتين صاحب رائعة «الأرميتاج الكبير». أما «الأرميتاج الجديد» فكان من تصميم المهندس المعماري كلينيتس.

البداية تعود إلى رغبة وهواية راودتا بطرس الأكبر مؤسس روسيا الحديثة. قال بضرورة جمع أندر الأعمال الفنية لتكون تراثا وتاريخا. وتمثلت نواة المجموعة في لوحة لفنان مجهول حملت اسم «محاكمة المسيح» أطلقت صافرة انطلاقة مسيرة طويلة، لم تتوقف حتى اليوم. صدرت التعليمات إلى الرسل والأتباع بجمع اللوحات ذات القيمة الفنية العالية والتماثيل والمشغولات الذهبية، وكانت مقدمة لمجموعة كبيرة من 255 لوحة فنية اقتنتها القيصرة يكاتيرينا الثانية سدادا لدين تاجر ألماني عجز عن الوفاء به، وضمت عددا من أهم أعمال الفنانين الهولنديين والألمان منها «بورتريه الشاب ذي القفاز» لفرانس هالس (المدرسة الألمانية). ومن التاريخ نذكر قصة الأمير جوليتسين سفير روسيا في باريس الذي استطاع جمع أكبر مجموعة من الأعمال الفنية، أودت بها الأنواء إلى قاع بحر البلطيق بعد غرق السفينة التي كانت تحملها على مقربة من الشواطئ الفنلندية. ومع ذلك فقد أسعده الحظ في نجاة مجموعة أخرى كان قد أرسلها برا ومنها لوحة «عودة الابن الضال» للفنان ريمبرانت والتي تستقر اليوم إلى جانب غيرها من أعمال المشاهير في إحدى قاعات الأرميتاج. وفي إطار سباق محموم بين سفراء الإمبراطورية استطاع السفير الروسي في لندن إثراء المجموعة القيصرية بما يقرب من 200 لوحة فنية من مجموعة أحد اللوردات البريطانيين منها «حمالو الأحجار» لردينز، و«تضحية إبراهيم» لريمبرانت، و«بورتريه فتاة» لفان ديك. وإذا كان ثمة من اعتبر قرار القيصر نيقولاي الأول حول تحويل «الأرميتاج» إلى متحف عام مع منتصف القرن الـ19 نقطة تحول في مسيرة رفده بالأعمال الفنية الجديدة، فإن واقع اليوم يقول إن السلطة الرسمية، سواء في روسيا القيصرية أو الاتحاد السوفياتي السابق لم تقصر في الحفاظ على القديم ومواصلة تقديم المزيد من الجديد الذي يمثل مختلف الحضارات في مختلف الأزمان والعصور وإن شهد «الأرميتاج» بعض تعرجات التاريخ حين كان هدفا للثوار البلاشفة الذين استهدفوه، وكان آنذاك مقرا لاجتماع الحكومة القيصرية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 1917. ورغم كل تجاوزات وأحزان العصر، فقد عاد «الأرميتاج» ليجد السلوى والملاذ بين أحضان السلطة السوفياتية التي هبت لإنقاذه يوم داهمت المدينة جحافل النازية مع أولى سنوات الحرب العالمية الثانية، فيما تحتضنه اليوم روسيا الحديثة ممثلة في مدير المتحف ميخائيل بيوتروفسكي أحد أهم المستعربين الروس، والذي ورث عن أبيه بوريس بيوتروفسكي عالم المصريات، عشق الحضارات الفرعونية والعربية القديمة، وهو ما ينعكس اليوم في المجموعة التاريخية من آثار شبه الجزيرة العربية والفراعنة، ألتي افرد لها أجنحة متميزة في هذا المتحف العالمي. وبهذه المناسبة نشير إلى أن متحف «أرميتاج» تحول بمقتنياته الفنية التي سجلتها «موسوعة غينيس» للأرقام القياسية، ليكون «أغنى متاحف الفنون التشكيلية والتحف التاريخية والحضارية في العالم، وساحة علمية طالما شهدت وتشهد الكثير من اللقاءات العلمية المتخصصة لبحث شتى قضايا التاريخ والآثار والثقافة والعلوم، وهو ما يدين به (أرميتاج) إلى بوريس بيوتروفسكي وابنه البروفسور ميخائيل»، حسب تقديرات الكثير من الثقات. ونعود لنقول إن «الأرميتاج» ملحمة فنية وأسطورة تتجاوز أبعادها، حدود الزمان والمكان بقاعاته الرحبة وديكوراته الخالية من التكلف فيما تنسج مفرداته وأجواؤه المميزة المفعمة بقليل من الرطوبة بطاقة تعارف مفرطة في الأناقة تدعونا إلى التسامي فوق أحزان التاريخ.