الفضاء مغلق ولا هروب للإنسان

أهلا بكم في غياهب القرن الواحد والعشرين حاملة على جناحيها حلم الإنسان بحياة أفضل

آن هاذاواي في «بين النجوم»
TT

ما زال فيلم روبرت وايز «اليوم الذي توقفت فيه الأرض» When Earth Stood Still المنتج سنة 1951 أول محاولة جديرة بالحديث عن مخلوقات فضائية مسالمة تحط على الأرض.

على عكس عشرات الأفلام قبل ذلك التاريخ وبعده، لم يكن فيلم وايز، المأخوذ عن صرخة في كتاب لهاري بايتس تدعو إلى نبذ الخلافات على الأرض، حول وحوش ومخلوقات فضائية تهاجم كوكبنا لتقويضه أو سرقته. كذلك لم يكن من بين تلك التي تصور رحلات فضائية لكواكب بعيدة لأهداف علمية تنقلب نتائجها وبالا عندما تكتشف أن للكواكب الأخرى بيئتها الخاصة التي لا قدرة للإنسان على أن يعيش فوقها.

«اليوم الذي توقفت فيه الأرض» تحدث عن مركبة فضائية تحط، وخروج مخلوق (على هيئة إنسان) من المركبة (الممثل مايكل ريني) لينصح أهل الأرض بإيقاف التجاذب والتهديد بالسلاح النووي، مرددا في مشهدين أن أهل الكواكب الأخرى قلقون حيال ما يحدث فوق هذا الكوكب الذي فشل أهله في العيش فوقه بسلام.

رسالة جميلة بلا ريب، لكنها مسالمة.. ليس أن الفيلم لم يلق أي رواج، لكنه كان رواجا محدودا.. تقدير كبير من المثقفين والنقاد، وقبول عادي من الجمهور. في العام ذاته قام هوارد هوكس وكريستيان نيبي بتحقيق «الشيء من العالم الآخر» الذي صور وحشا فضائيا يحاول النيل من بعثة علمية في القطب الشمالي. أكثر منه عداوة لمخلوقات الفضاء «غزاة من المريخ» لويليام منزيز كاميرون، و«حرب العوالم» لبرايان هسكين، و«جاء من العالم الآخر» لجاك آرنولد، وكلها عرضت بعد عامين من «اليوم الذي توقفت فيه الأرض».

* فضاء مجهول ومكلف

* مرت 31 سنة على تلك الدعوة للسلام قبل أن ينجز ستيفن سبيلبرغ فيلمه «إي تي: الخارج عن الأرض» (1982)، وهو قدم، بدوره، صورة «لطيفة» عن ذلك المخلوق الخاص والبريء الآتي، خطأ، من العالم الآخر. قبله ببضع سنين قدم «لقاءات قريبة من النوع الآخر» (1977) حيث لا خوف من الفضاء وأهله. كلاهما فاز بمختلف النجاحات الممكنة لفيلم، فهذا ستيفن سبيلبرغ الذي يستطيع دمج الرسالة بالترفيه والتجاذب العاطفي وصولا إلى كل فئات المشاهدين.

لكن إذ تنقسم هذه الأفلام - أيضا - إلى أعمال تدور على الأرض وأخرى تقع خارج الأرض، فإن النجاح المبهر الذي ينجزه حاليا «بين النجوم» (Interstellar) أكبر من أن يمر عليه المرء مرورا عابرا.. ليس لأنه أنجز حتى الآن 500 مليون دولار حول الأرض فقط، بل لأنه، وكما ذكرت في مقال سابق عنه، إنجاز على المستويين الفني والتقني قل نظيره.

هو من تلك التي تسافر إلى الفضاء لبحثه وتقصيه. المغامرة بالتالي تترك الأرض وما عليها من مشكلات، حاملة على جناحيها حلم الإنسان بحياة أفضل بعيدا عما يقع لعالمه الذي وُلد فوقه. تسبر غور فضاء مجهول أو، بالأحرى، ما زال مجهولا على الرغم من تريليون من الدولارات التي صرفت على محاولة اكتشافه.

هناك شجاعة كبيرة محسوبة لكل من قام بهذه الرحلة المختلفة من قبل. تلك الأفلام، التي كان طموحها الاصطدام بـ«حضارة» مختلفة ومعادية للإنسان («الوجهة المريخ»، 2004 أو «دارك ستار»، 1974 مثلا) لاستثمارها لدى جمهور متعطش لفحوى المغامرة من تشويق ومطاردات وسلاح ليزر، ليست موضع نظر هنا لأن الأفلام المغايرة التي قدمت معالجة عميقة حول الوجود الإنساني وتأملات فلسفية في حاضره ومستقبله، لا تزيد على بضعة أعمال يتقدمها «2001: أوديسا الفضاء» لستانلي كوبريك (1968) وتشمل «سولاريس» لآندريه تاركوفسكي و«بين النجوم» لكريستوفر نولان. هناك أخرى منجزة بإتقان مثل «أفاتار» لجيمس كاميرون (2009) و«جاذبية» لألفونسو كوارون (2013)، لكن الثلاثة المذكورة هي أهم أعمال سينمائية (أميركيان وروسي) حول العالم الخارجي من زاوية وجودية.

* تأملات وجودية

* «2001: أوديسا الفضاء» كان، تحديدا، حول ذكاء الإنسان في بلوغ المستقبل وكل تحدياته واستنباط عقل افتراضي يسيطر عليه (قبل أن يسيطر ذاك على عقل الإنسان) في مقابل انهيار أخلاقياته الاجتماعية. نجاح وفشل متلازمان. صعود وهبوط متوازيان. عقل الإنسان ولّد الوحش الذي سيحاول إخضاعه. وفي الفيلم ثورتان: الأولى للقردة التي اكتشفت معنى «السلاح» والكومبيوتر (هال) الذي وجد أنه يستطيع، وقد تجاوز الذكاء الإنساني، الاستقلال عنه. كل ذلك، وسواه، من الرسالات والتفاصيل التي تحويها، تم تدجينه في عمل ممهور بإبداع تكنولوجي مبهر. الذكاء الذي يمارسه الإنسان في الفيلم متعاونا، في مطلع الأمر، مع التكنولوجيا، هو ذاته الذي مارسه المخرج متعاونا مع أفضل ما استطاعت التكنولوجيا توفيره في مجال المؤثرات البصرية.

«سولاريس» يختلف.. لديه بعض التكنولوجيا، لكن المخرج لا يريدها للإبهار.. هو نأى بنفسه عن المجاراة، ولو أن الروس حينها رددوا أن «سولاريس» هو رد على فيلم كوبريك المذكور. الهمّ في «سولاريس» همّ وجداني بالكامل.. همّ يلتقي وذاك الذي في «2001: أوديسا الفضاء» من حيث إنه يتعامل مع التقدم في الفضاء على حساب مشاعر الإنسان وحاجته للجذور. نصف الساعة الأول أرضية: العالم الذي سيطلب منه الصعود إلى الفضاء الخارجي لمعرفة أسباب انتحار علماء موجودين في مركبة تطفو، يتأمل الأرض كتأمل الفيلم لها: النباتات القصيرة والأشجار الطويلة.. النهر.. المطر.. الحياة التي يبدو حزينا لتوديعها. كذلك العائلة وطينة العلاقات الخاصة. في الفضاء لا وجود لأي شيء من هذا القبيل، بل اكتشاف لوضع يزور فيه الماضي المضمحل في غياهب البال والضمير الإنسان من جديد ليسأله عن أفعاله.

«بين النجوم» يبتعد، كحكاية عن هذين الوضعين وإن اقترب من الفيلمين المذكورين من حيث بحثه المرهف عن الحقيقة في الفضاء الشاسع. الأرض، هنا، لم تعد صالحة للحياة.. الإنسان مطالب لأن يغادرها.. الرحلة هي رحلة بحث عن مكان بديل، لكن هناك من خطط لها وهو مدرك تماما أنه ليس هناك أي كوكب بديل. الموت المطبق يكمن على الأرض وعلى ارتفاع ألوف السنوات الضوئية فوقها.

أي مشهد من أي فيلم يكتفي بتصوير مركبة تجوب ظلام الفضاء بصمت، يتعامل مباشرة والذهن البشري في الصالة. أنت لا تستطيع تحمّل مصعد يتوقف بك بين الطوابق لدقيقة.. ماذا تفعل لو كنت بين الكواكب لدهر؟ الفارق أن ذلك الظلام الفضائي يدفعك للتأمل.. هذا من قبل أن يتحوّل هذا التأمل إلى رعب.

يكفي ذلك المجهول الذي يصوره «بين النجوم» بجدارة. في الفضاء، لا تعلم ما الذي يمكن أن يحدث. لكن حتى ولو لم يقع أي حدث، فإن السكون ذاته خطر ماحق لا هروب منه.

* ميلييس سبق «ناسا»

* أي حديث عن أفلام الفضاء لا يكتمل من دون التطرق إلى «رحلة إلى القمر» كما أنجزه الفرنسي جورج ميلييس سنة 1902. السؤال حول ما إذا كان القمر مسكونا أو غير مسكون سبق هذا الفيلم بسنوات غير محصورة، لكن هذا الفيلم الذي أكد وجود مخلوقات شريرة فوق ذلك الوجه الناعم المسمّى «القمر»، سبق «ناسا» في الوصول إلى ذلك الكوكب البعيد القريب.