نظرة واسعة جديدة.. إلى عالم الجينات

علماء أميركيون يرصدون تماثلا مذهلا بين الحمض النووي للإنسان وذباب الفاكهة والديدان

TT

في تاريخ علم الأحياء هناك حيوانان صغيران ظهرا كبيرين، ففي أوائل القرن الـ19 شرع العلماء بدراسة «دروسوفيليل ميلانوغاستر» Drosophila melanogaster ذبابة الفاكهة المعروفة. وقد بين البحث على هذه الحشرات السريعة التناسل، أن الجينات تكمن في الـكروموسومات، وهو ما تبين صحيحا في الحيوانات الأخرى، بما فيها البشر. ولأكثر من قرن استمر العلماء في جمع الأدلة واستخلاصها، من الذبابة البدائية في سلسلة المخلوقات، إلى الألغاز الأخرى في علم الأحياء (البيولوجيا)، مثل لماذا نخلد إلى النوم؟ وكيف يتطور مرض القلب؟.

وفي الستينات من القرن الماضي، انضم حيوان آخر إلى قائمة هذه الدراسات، ألا وهو دودة صغيرة تدعى «كيانورهابديتس إليغانس» Caenorhabditis elegans. وتبين لسيدني برينر العالم البيولوجي أن جسم هذه الدودة مكون من خلايا لا تتعدى الألفين، مما يوفر فرصة نادرة لمعرفة كيف أن بيضة واحدة من شأنها أن تنمو إلى حيوان كامل. واليوم يقوم الكثير من العلماء بدراسة الدودة بحثا عن دلائل حول كيفية تركيب أدمغتنا وعملها، ولماذا نتقدم بالعمر ونشيخ.

* نظرة علمية عميقة وتقوم هاتان الفصيلتان حاليا بتأمين حتى نظرة أعمق في علم الأحياء. وقام فريق مكون من مئات من العلماء، بتسجيل خريطة عن جيناتهما مع تطورهما من بيوض إلى حيوانات كاملة بالغة. أن «الأمر لا يتوقف على هذا الجين أو ذاك»، كما يقول روبرت واترستون عالم الجينات في جامعة واشنطن، الذي كان من بين العلماء الذين عملوا في هذا المشروع الذي دعي «مود إنكود» modENCODE، والذي أضاف أن الدراسة «تمكننا الحصول على صورة شاملة» للجينات.

وقام واترستون ورفاقه بنشر آرائهم عن نتائج هذا البحث على 5 صفحات من مجلة «نيتشر» قبل أشهر. ووفقا إلى تحليلهم المبدئي، وجدوا تشابها مذهلا بين خريطة الجينات في ذباب الفاكهة والديدان، وبين حمضنا النووي نحن البشر. وقد يؤمن التوسع في اكتشاف هذا التشابه، للعلماء نظرة مستقبلية عن الاختلال الجيني وأمراض كالسرطان مثلا.

وفي عام 1998 وضع واترستون مع فريق كبير من زملائه العلماء كتالوغا لجميع الجينات المرمزة بروتينيا الخاصة بدودة «كيانورهابديتس إليغانس»، وعددها 19 ألفا مع دليل عام لبقية حمضها النووي. وفي عام 2000 أجرى العلماء المسح ذاته بالنسبة إلى ذبابة «دروسوفيليل ميلانوغاستر». وشكل هذان المسعيان مساعدة كبيرة للعلماء الذين يدرسون الخصائص البيولوجية لهذه الحيوانات. بيد أن هذه الجهود كشفت القليل عما تفعله الجينات في الكائن الحي. وبدا الأمر كما لو أنهم قاموا بوضع جردة كاملة لجميع الآلات الموسيقية التي تتألف منها الأوركسترا، من دون أن يتمكنوا من رؤية نوتة الموسيقى هذه.

إن الجين يتضمن معلومات يمكن للخلية استخدامها لتكوين جزيئة معينة، لكن الحيوان ككل قد يستخدم جينا معينا في وقت معين في حياته، أو في عضو محدد. والحمض النووي الخليوي Cellular DNA يلتف حول جزيئات تشبه البكرة، أو الملف، تدعى الـ«هستونات» histones. وعندما يكون الحمض النووي مدسوسا بعيدا، فإنه لا يمكن للجزيئات القارئة للجين أن تصلها. ولدى إضافة مركبات معينة تعرف بعلامات، أو إشارات الـ«هيستون» إلى تلك الـ«هيستونات»، تفتح الخلية جزءا من الحمض النووي.

ولدى تعرض الجين لأسلوب كهذا يقوم بروتين يدعى عامل النسخ (ترانسكريبشن) بالتعلق به مجندا جزيئات أخرى لـ«قراءته» وإنتاج بروتين جديد، أو جزيئة من الحمض النووي الريبي RNA. وقد يقوم عامل نسخ واحد أحيانا بإطلاق وتشغيل عشرات من الجينات الأخرى، بينما في أحيان أخرى تقوم هذه الجينات بترميز عوامل نسخ خاصة بها، لتمكين خلية واحدة لإنتاج مئات من الجزيئات الشبيهة بها دفعة واحدة.

* جينات بشرية وكان فريق «مود إنكود» قد أخذ على عاتقه عملا جبارا، ألا وهو وضع صورة مفصلة لعمل الجزيئات هذه. فخلال الـ5 سنوات المنصرمة انهمك مئات من البيولوجيين في تسجيل نشاط الحمض النووي في الذباب والديدان، وبالتالي مقارنة النتائج منهجيا بنتائج ما يرونه في البشر.

ولدراسة الجينات في البشر، ركز العلماء على تشكيلة واسعة من الخلايا المتنوعة، مثل خلايا الأعصاب والدم والكبد، أما في التجارب التي تناولت الذباب والديدان، قام العلماء بتفحص أجسامها الكاملة، وهي تصل مرحلة البلوغ انطلاقا من البيض.

وقام العلماء بوضع كتالوغ لأجزاء الجينوم (ألخريطة الوراثية) التي تستخدمها الخلايا. كما قاموا بوضع خريطة لعلامات الـ«هيستون»، مع تحديد موقع عوامل النسخ التي تتعلق بالحمض النووي. ونظرا لأن العلماء استخدموا الأساليب ذاتها لجمع البيانات من الفصائل الحية الـ3. تمكنوا من مقارنتها على نحو لم يسبق له مثيل.

ويأتي الذباب والديدان والبشر من فروع بعيدة عن بعضها البعض في شجرة التطور. فآخر جد مشترك لهذه الكائنات عاش قبل 700 مليون سنة. ورغم الفارق الكبير بين هذه الفصائل الـ3، وجد فريق «مود إنكود» بعض الجوانب المتوازية والمتشابهة في عمل حمضها النووي. فقد تبين أن الكثير من جينات هذه الفصائل تميل إلى العمل والتوقف بالنمط ذاته متبعة إيقاعا يمكن توقعه. فقد وجد الباحثون أن كلا منها يحتوي على 16 مجموعة من هذه الجينات، تتضمن كل منها مئات من الجينات التي تعمل سوية. وعلى الرغم من عدم وضوح ما الذي تفعله هذه الجينات في جميع هذه الفصائل، لاحظ العلماء أن عشرات من التجمعات منها كانت ناشطة بشكل خاص في بعض مراحل تطور الدودة والذبابة. وقد يكون ذلك أمرا أساسيا في تحول البيضة إلى حيوان كامل بالغ.

كذلك وجد العلماء أن علامات الـ«هيستون» تقوم بالتحكم بالحمض النووي بالطريقة ذاتها في جميع هذه الفصائل. فإذا ما وجدت بعض العلامات المعينة حول الجين، يمكن للعلماء توقع مدى نشاطها، سواء كان ذلك عائدا للذبابة، أو الدودة، أو البشر. والأمر العجيب أن هذا التوقع يعمل جيدا، كما يقول مارك غيرشتاين من جامعة ييل في أميركا، وأحد أعضاء فريق «مود إنكود».

وتقوم عوامل النسخ بالإمساك بالجينات بطريقة معقدة مذهلة، كما فهم علماء الأحياء. وتقوم عوامل نسخ أخرى مختلفة بتنشيط الجينات ذاتها في خلايا مختلفة، وفي مراحل التطوير المختلفة، ومع ذلك فإنه تحت هذا التعقيد تقوم الفصائل الـ3 هذه بإتباع الكثير من القوانين ذاتها لتنظيم جيناتها. «فالكثير من المبادئ الأساسية هي نفسها»، يقول مايكل سنيدر خبير الجينات في جامعة ستانفورد في أميركا، وعضو فريق «مود إنكود».

* خدمة «نيويورك تايمز»