«ملك السمان».. ميدان في النهار ومطعم في المساء

خلطة سرية ابتكرها صاحبه إلياس اللبناني

ساحة تجمع محبي السمان اللذيذ
TT

مع موسم هجرة السمان من أوروبا إلى مصر، يبدأ هذا المطعم استقبال زبائنه تزامنا مع بدايات فصل الخريف، هذا المطعم الذي اشتهر منذ بدايات القرن العشرين بمطعم الخواجة إلياس اللبناني وذاع صيته في أنحاء مصر كلها بأنه «ملك السمان»، فمذاق السمان هنا مختلف عن أي مكان آخر، ومن هنا تحول اسمه إلى «ملك السمان».

يأخذ المطعم شكلا دائريا في «ميدان السوريين» الذي كان مشهورا باسم «بياصة الشوام» وهي الكلمة التي حرفها السكندريون عن كلمة «لا بياتزا» la piazza الإيطالية التي تعني «الميدان» أو «الساحة»، حيث كان غالبية سكان هذا الجزء من حي العطارين من الشوام التي كانت تشير إلى اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين والأردنيين، وكان أشهرهم على الإطلاق الخواجة إلياس الذي كان صديقا لفريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد ومنير مراد وعدد كبير من كبار الفنانين المصريين الذين كانوا يأتون إليه خصيصا لتذوق السمان الأوروبي.

الغريب في هذا المطعم أنه لا وجود له قبل السابعة مساء، فإذا قمت بزيارة لمكانه، ستجد ساحة صغيرة جدا لا يتعدى قطرها 500 متر، تحفها مجموعة دكاكين صغيرة، وبينهما فرن مبني على الطريقة الإيطالية، كلها مغلقة وحولها مجموعة من باعة الملابس القديمة.

في المساء، تتغير معالم المكان، مع الساعة السابعة ستجد عمالا يعملون كخلية نحل؛ يفتحون كل الدكاكين الصغيرة، يخرجون المقاعد والمناضد الخشبية، لتتراص بجوار بعضها إلى بعض بدقة متناهية وتكتسي بمفارش ملونة زاهية، وهنا يبدأ شيف تجهيز أطباق السلاطات الشرقية والبابا غنوج، والطحينة، والثومية، والجبن القديمة (المش) والجبن القريش بالزعتر، والباذنجان المخلل بالثوم والشطة، وسلطة الطماطم الإسكندراني بالكمون والثوم، وحلقات الخيار، وسلطة البنجر، كل ذلك يتم إعداده أمامك.

ما هي إلا ثوان وتنتشر رائحة الشواء الشهية مع صوت أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، وبحلول الساعة التاسعة لن تجد مقعدا خاليا، يتوافد الزبائن الذين يعرف بعضهم بعضا جيدا، فكلما دلف أحدهم إلى المطعم ستجده يلقي السلام كأنها «عزومة عائلية» في أجواء مرحة؛ الكل يتسامر ويضحك ويلتهم السمان المشوي اللذيذ. ورغم شعبية المنطقة، فإن الزبائن كلها تنتمي إلى أرقى طبقات المجتمع المصري، الذين تبدو الـ«بياصة» معهم كواحة للسلطنة في قلب المدينة تعود بك لأجواء تراثية ساحرة.

يقف أسامة السمرة ليتابع سير العمل في المطعم بدقة متناهية، فهو الذي يحتفظ بسر الخلطة السرية من والده، ويبدأ يومه بتتبيل السمان وإعداد الخلطة، ويتابع كل زبون خوفا من أن يكون هناك شيء لا يعجبه، ويطل من حين لآخر على كل منضدة؛ يلقي النكات ويتبادل معهم أطراف الحوار ويطمئن إذا كانوا يحصلون على القدر نفسه من السعادة الذي اعتادوه من مذاق السمان اللذيذ.

يقول: «والدي السمرة شحاتة اشتري المطعم من الخواجة بعد ثورة 1952، ومن ساعتها محافظين على تقاليد المكان، وكل الناس ديه زبايني أبا عن جد، أعرف عائلاتهم جميعا، وهما عارفين أن الخلطة اللي بنقدمها مش موجودة في أي مكان تاني، ومفيش غيري أنا اللي أعرفها عن والدي». وبعد عودة لمتابعة الشواء ومرور سريع بين المناضد، بنظرة فاحصة ينظر إلى زبائن المطعم، يعاود الحديث معي عن السر في تشغيله مساء فقط، يقول: «من أكتر من 60 سنة ودي قوانين المطعم أنه يفتح بالليل لحد الفجر، وكان زمان بنفتح 3 شهور بس؛ سبتمبر (أيلول) ونوفمبر (تشرين الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، وقت هجرة السمان الزباين اللي بتجيلنا من عشرات السنين اتعودت على كده، أنا مش محتاج زباين يكفيني زبايني من الطبقات الراقية اللي اتعودت إن المطعم ده بتاعها وراضية عنه بالشكل ده، لكن لأن بعض الزباين المهمين عندي طلبوا مني أفتح طول السنة فبقينا نقدم السمان البلدي باقي العام ونغلق فقط في شهر رمضان لتجديد المطعم».

ربما لعبت وسائل التواصل الاجتماعي في معرفة البعض بمكان «ملك السمان»، لذلك تغيرت نوعية الزبائن قليلا كما يعتقد السمرة. لكن، الكل يحصل على خدمة ممتازة وسريعة، وطلبك من السمان ستجده أمامك خلال دقائق.

يقف كريم السمرة أمام صورة جده مع الشيخ الشعراوي ومجموعة صور للملك فاروق متباهيا: «كان الشيخ الشعراوي صديقا لجدي وكمان كان دايما في المطعم، وأنا صغير كنت بشوف فريد شوقي وعادل إمام والسيد مكاوي ومحمد الحلو وليلى علوي وثريا حلمي وتحية كاريوكا قبل وفاتها بشهرين كانت عندنا، وممدوح عبد العليم وأسامة أنور عكاشة وعدد كبير من الفنانين والمخرجين، أشرف عبد الباقي والفنانة يسرا وأحفاد الملك فاروق وأحفاد جمال عبد الناصر، أحيانا يأتي أناس مهمين لا نعلم من هم لكن نفاجأ بتأمين ورجال حراسة تغرق المنطقة منذ الثالثة عصرا، لكن لا أحد يعلم من هم».

ويضيف: «كنا نذهب للسيدة جيهان السادات لتجهيز ولائم في المنتزه، ومنزل رجل الأعمال محمد رجب، وماهر أباظة وزير الكهرباء، ووجيه أباظة، والكثير من عائلة الأباظية، وعائلة رشيد محمد رشيد، وعدلي فايد، والكثير من رجال الأعمال بيجيوا من القاهرة ويسافروا في نفس اليوم ومنهم رجل الأعمال أحمد بهجت، والفنانة صفاء أبو السعود والشيخ صالح، والكثير من الإخوة العرب».

ويضحك حينما يتذكر: «يوسف شاهين كان بيحب يجي هنا، وفي أحد البرامج وقال إن المكان المفضل لديه (ملك السمان)، بعدها لقينا زباين كثير جاية بسبب الجملة ديه». يرفض ملك السمان أن يكون له فروع أخرى رغم أنه عرض عليه أن يفتح مطاعم على الكورنيش أو في الدول الخليجية، لكنه رفض: «أنا زبايني بتجيلي من كل أنحاء العالم لحد هنا، وحكاية الفروع ديه ذو حدين أنا هنا بتابع كل حاجة بنفسي، لكن لو في كذا فرع مش حقدر أعمل ده، وكمان سر الخلطة حينتشر وده أنا مش حسمح بيه أبدا»، لكنه بدأ بعمل توسعات وسيتم افتتاح طابق كامل في عقار مطل على «البياصة» لمجاراة عدد الزبائن المتزايد.

يقدم ملك السمان أصنافا أخرى رائعة المذاق أيضا وبها مذاق خاص، ومنها السمان المحشو بالفريك وهو أيضا يتم وضعه على الفحم بعد سلقه وحشوه، والحمام المشوي، والمحشي بالفريك أو بالخضر، وبرام الأرز بكبد الحمام، والسجق المتبل بالزعتر وهو غاية في الروعة، يقدم بعدها ملك السمان الشاي بالنعناع المغلي على الفحم، لكنك لن تكتفي بما التهمته من السمان اللذيذ، فستطلب المزيد لتأخذه معك للمنزل، لأن شهيتك وأجواء السلطنة التي عايشتها مع ملك السمان ستظل ترافقك حتى تشتهي العودة مرة أخرى.

العنوان: 48 ميدان السوريين – من محطة مصر إلى شارع العطارين أمام محلات بريوني.