عصمت داوستاشي.. يمزج الخيال الرمزي ببعد ثالث للواقع في أحدث معارضه الفنية

حول منزله بالإسكندرية إلى متحف لأعماله

الفنان عصمت داوستاشي امام إحدى لوحاته
TT

لا يزال الفنان التشكيلي السكندري الكبير عصمت داوستاشي في حالة عطاء فني متدفق، حيث افتتح يوم الثلاثاء معرضه الفني «لوحات جديدة ولوحات قديمة» بمتحف الفنون الجميلة في محرم بك بالإسكندرية، وهو المعرض الـ150 على مدار مسيرته الفنية، التي بدأها حين أقام معرضه الأول عام 1962 بمسرح مدرسة الإسكندرية الثانوية الزخرفية، وافتتحه حينها أستاذه الفنان الكبير سيف وانلي.

افتتح المعرض الفنان أحمد عبد الغني رئيس قطاع الفنون التشكيلة بوزارة الثقافة، بحضور عدد كبير من الفنانين المصريين من أجيال مختلفة. ويشكل هذا المعرض علامة فارقة في الفن التشكيلي المصري والعربي عامة، ويمثل نقله فنية نوعية ومحطة جديدة للفنان الكبير يقدم فيها لوحات بالبعد الثالث، إلى جانب تلك التي تعكس رحلته الفنية منذ الستينات وحتى الآن..

يأخذك المعرض إلى عالم داوستاشي المفعم بالمشاعر المتضاربة، كل لوحة تستوقفك لتنقلك بخفة إلى أخرى فتجد نفسك لا شعوريا تحاول فك شيفرة هذا الفنان وتحلق مع أفكاره، كأن تلك اللوحات تمثل سردا فنيا مرئيا. يتلاعب داوستاشي بالرموز والموتيفات كفيلسوف ويوظفها في كل لوحة بشكل مغاير فتتبدل دلالاتها، مثال استخدام يد الإنسان «الكف» الذي يتناوب دوره كدلالة على قيم الخير والجمال ودلالة على السلام والمحبة، والحاجة إلى الدفء، وتارة أخرى يبدو مجسدا القوة والصراع البشري، فتجد هذا الكف البريء يعيث في رأس بشرية أو يكبلها أو يحاول قنصها، هكذا هي لوحات داوستاشي، تستثير الوعي وتتخطى الواقع المعيش تاركة الرائي مع معان عميقة تطارده.

وخلال الافتتاح، قال الفنان لـ«الشرق الأوسط»: «يسعدني أن أعرض 12 لوحة جديدة بحجم كبير، منها 6 لوحات بعنوان (تجليات المستنير دادا) من وحي معرض قديم وأعيد رسمه بحالة مختلفة في كل لوحة، و6 لوحات أخرى مستوحاة من الأساطير المصرية والموروثات الشعبية بعنوان (نساء حائرات) و33 لوحة من أعمالي السابقة».

تجسد لوحات «نساء حائرات» المرأة ومشاعرها وهواجسها، وهي تمثل 3 نساء حائرات في حالة حوار تجمعهم علاقات جمالية، مزج فيها الفنان بين التراث المصري بمختلف تجلياته الفرعونية والقبطية والإسلامية ببراعة لافتة مع لمسات حداثية تجعل الرائي يقف متأملا في هويته الثرية وحضارته الغنية، وقد طعمها بالخط العرب.

اللوحات في مجملها تنتمي إلى التعبيرية الرمزية بألوان زيتية على توال 120×100 سم. وقد تم عرضها في شكل ثلاثيات مختارة من معارض سابقة، يقول داوستاشي: «أخذت من كل معرض 3 أعمال؛ ومنها معرض (الكف)، ومعرض (السهم) ومعرض (الثورة)»، لكنه آثر عدم عرض أي أعمال من أول معرض له، الذي يحتفظ به ويرفض بيع أي من لوحاته.

يرى داوستاشي هذا المعرض خطوة فنية جريئة جدا بالنسبة له وإضافة إلى مسيرته: «أعمالي السابقة كلها كانت تميل إلى المسطحات الزخرفية، الأعمال الجديدة بها شكل محدد (فورم) وتجسيد، وهي محاولة لاستشارة الآراء حول النقلة الفنية».

وتجسد اللوحات ثقافة الفنان الموسوعية والمؤثرات التي انعكست عليه فكريا وفنيا، حيث خالط كبار الفنانين العالميين الذين كانوا يأتون للإسكندرية في أواخر حقبة الخمسينات ويتفاعلون مع التشكيليين المصريين مثل أدهم وسيف وانلي، ومحمد ناجي وعفت ناجي، الذين تشرب منهم عشق الفن.

وبنظرة على أعمال عصمت داوستاشي، ستجد نفسك أمام فنان شامل له فكر، يمارس النحت والتصوير الضوئي والرسم والعمل الفني المركب؛ وهو معني بالإنسان وعلى الأخص المرأة المصرية، التي جسدها بشكل مغاير في كل حالاتها، ويتميز أسلوبه بطابع خاص متأثرا بملامح البيئة المصرية ومسلتهما للرموز الشعبية.

يقول: «انحصرت رؤيتي في تراث بلدي الحضاري والشعبي واستلهمت الفنون التشكيلية بكل أبعادها بصرية وحركية وسمعية وصوتية وأصبح العمل الفني عندي عملاً شاملاً بخامات مختلفة وأفكار محورها الإنسان المصري في زمننا الحاضر، معبرًا عن معاناته وأحلامه وطموحاته بتقنيات حديثة».

بطبيعته، يحرص داوستاشي على الاشتباك مع الواقع المصري بتفاصيله والأحداث السياسية المتواترة، لذا اختار هذا التوقيت لإطلاق معرضه بهدف إنعاش الحركة الفنية المصرية، وليضع أمامنا رحلة وتجربة فنية فريدة بدأت قبل نحو أكثر من 50 عاما، ولا تزال مستمرة.

يوجه الفنان رسالة خاصة من خلال هذا المعرض: «على جميع الفنانين أن ينتجوا ويبدعوا ولا يتوقفوا، ها أنا أقف على أعتاب نهاية تجربتي الإبداعية، بما فيها من تلقائية وفطرية ورغبة في التعلم والإجادة، وسأظل أنتج وأعمل من أجل الأجيال القادمة، علينا بالسعي الدائم لتوصيل الفن للناس، علينا أن نقاوم بالإصرار والتعلم والممارسة الفنية المستمرة، يمكن لأي صاحب موهبة أن يحقق وجوده».

وببريق من الأمل، يضيف: «عملية الإبداع نفسها أصبحت تحتاج لطاقة وتوهج كبير، لكن أتمنى أن أقدم المزيد، لأن الظروف التي نمر بها، لا تسمح بمعارض وتظاهرات فنية، لكن لا بد من الوجود وبث الأمل في مستقبل أفضل، لذا دائما ما أقول للشباب ألا يهدروا طاقتهم في أي شيء سوى في الإبداع والفن، وأن يحمدوا الله على تلك النعمة ويوظفونها بالشكل الصحيح».

يؤمن داوستاشي بأن «الفن تطهير للنفس البشرية من كل الضغوط والأحزان» وهو ما تعكسه لوحاته بالألوان الزيتية، ما بين البورتريهات واللوحات التجريدية التي تنوعت ما بين التجريد العشوائي والهندسي مثل: الطرد من الجنة، وحب كاريكاتيري.. وهي اللوحات الموقعة باسم عصمت عبد الحليم قبل أن يمهر لوحاته بالاسم الفني الشهير «داوستاشى»، أو اللقب الذي يعود إلى أسرة والده، فقد ذهب جده «داود» إلى جزيرة كريت أيام حملة محمد علي باشا، وتزوج هناك وعاد مرة أخرى إلى الإسكندرية، مضيفا (ستاشي) إلى الاسم.. ومن هنا أصبح «داود ستاشي» لقبا فنيا يوقع به أعماله الفنية.

كما يضم المعرض الذي يستمر حتى نهاية هذا العام، أغلفة الكتب التي أصدرها الفنان ومنها «ذكريات سكندري»، و«الرملة البيضاء»، ومجلد كتالوج الفنان محمود سعيد، وكتاب «حلاوة الروح»، الذي يجمع معظم كتاباته وكتاب «معرض في كتاب».

عطاء داوستاشي لم يتوقف عند معارض جديدة فقط، وإنما استطاع بجهده أن يجعل من مرسمه أصغر متحف للفن المصري الحديث، ففي ختام المعرض اصطحب الفنان عددا من عشاق فنه لزيارة متحفه في فيللته التي يقطنها وتضم مرسمه بالبيطاش بضاحية العجمي القريبة من الإسكندرية. يضم المتحف نحو 500 من أعماله ما بين لوحات وكتب وتماثيل، عكف على تجميعها وعرضها بشكل جذاب على مدار سنة كاملة، ويقدم مكتبته الخاصة ينهل منها كل محب للفن والثقافة، فتصبح الزيارة للمتحف متعة غامرة. ويرحب داوستاشي بأي زائر لمتحفه رغم أنه ينوي افتتاح متحفه رسميا في شهر مارس (آذار) مع حلول فصل الربيع.

ولد داوستاشي في حي بحري في 14 مارس (آذار) عام 1943، وتخرج في كلية الفنون الجميلة قسم نحت بجامعة الإسكندرية عام 1967 وتخصص في التصوير، وبدأ عمله مخرجا مساعدا في البرامج الثقافية بالتلفزيون المصري، وذلك عام 1968، وبعدها بعام انتقل إلى ليبيا ليعمل بها مخرجا ومهندسا للديكور بالتلفزيون الليبي، وعاد إلى مصر عام 1973 وعمل مشرفا على الأنشطة الثقافية والمعارض بالمراقبة العامة للفنون الجميلة بمتحف محمود سعيد بالإسكندرية. وانتدب في عام 1993 من وزارة الثقافة مديرا لمتحف الفنون الجميلة والمركز الثقافي بحي محرم بك في الإسكندرية، وشغل منذ ذلك الوقت عدة مناصب قيادية.