رغم التهديدات.. روسيا تتمتع بصحافة نشطة

هل عادت للحقبة السوفياتية مع إحكام بوتين قبضته على وسائل الإعلام؟

TT

تصور بعض الدوائر الغربية أن روسيا قد عادت للحقبة السوفياتية مع إحكام فلاديمير بوتين قبضته على وسائل الإعلام. وتروج هذه الدوائر لأن بوتين بنى حول نفسه هالة من التقديس التي رغم أنها لم تصل لمستوى فجاجة التقديس الذي حظي به جوزيف ستالين، فإنها على الأقل لا تقل إسفافا عن تلك التي أحاطت بليونيد بريجنيف.

إلا أن السير في شوارع موسكو التي تزخر بأعداد من الصحف المعروضة للبيع تفوق ما تجده بأي عاصمة أخرى، يرسم ملامح صورة مغايرة تماما. الحقيقة أنه ما من شك في أن الصحف المرتبطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالكرملين وحلفائه من كبار أصحاب النفوذ تحاول الإبقاء على دائرة الضوء حول بوتين قدر الإمكان.

بيد أنه لدى إمعان النظر أكثر سنجد أنه حتى إذا رغب بوتين في إحياء الاتحاد السوفياتي، فإنه لن يفلح سوى في خلق صورة كاريكاتيرية من الوحش القديم، ذلك أن جني الصحافة الذي خرج من القمقم بسقوط الإمبراطورية السوفياتية لا يمكن إعادته للقمقم مجددا. وعلى أقصى تقدير، يمكن وصف نظام بوتين بأنه نظام استبدادي شعبوي، مما يضعه في مكان بعيد للغاية عن النظام الديكتاتوري السوفياتي الذي كانت الاستخبارات السوفياتية (كيه جي بي) في قلبه.

مقابل كل صحيفة تشدو في عشق بوتين، هناك صحيفتان على الأقل تتبعان نهجا متشككا حيال إنجازاته المزعومة، أو تعدانه مصدر خطر لنفسه وروسيا والعالم. وخلال الأيام القليلة الماضية، طالعت مقالات بعناوين مثل «روسيا تلعب بالنار»، والذي يتناول سياسات بوتين الاستفزازية، و«على بوتين التوقف عن دعم انفصاليي أوكرانيا».

اليوم، يوجد في روسيا أكثر من 28000 إصدار صحافي يومي وأسبوعي وشهري، ناهيك عن 332 قناة تلفزيونية، وذلك حسب الأرقام الصادرة عام 2013. أضف إلى ذلك وسائل إعلامية أخرى مثل محطات الراديو والمواقع الإخبارية ومواقع الرأي عبر شبكة الإنترنت، مما يجعل إجمالي العدد قريبا من 100 ألف.

وانطلاقا من اعتقاده بأن الصحف محكوم عليها بالفشل، ركز بوتين اهتمامه على التلفزيون، حيث يسيطر حاليا على 3 قنوات تلفزيونية رئيسية تجتذب العدد الأكبر من المشاهدين.

بيد أنه خارج هذه الدائرة، يجد بوتين نفسه مضطرا لاستخدام مزيج من الترهيب والترغيب لإبقاء وسائل الإعلام داخل حدود مقبولة له. وبوجه عام، يمكن القول إن 3 تغييرات أساسية طرأت على روسيا تجعل من عودة الرقابة والدعاية على الطراز السوفياتي أمرا صعبا، إن لم يكن مستحيلا.

أولا: بناء مهنة الصحافة كمهنة صادقة. منذ أيام قلائل، مرت الذكرى الـ25 لندوة نظمها المعهد الدولي للصحافة على امتداد يومين لإقرار الرؤى الغربية للصحافة داخل الحقل الإعلامي الروسي.

وأتذكر أنه خلال تلك الندوة، تحدث محررون من بريطانيا وفرنسا والبرتغال والسويد حول عدد من القضايا المتنوعة المرتبطة بالصحافة وأخلاقياتها، والصحافة الاستقصائية، وإدارة العلاقات بين وسائل الإعلام والحكومة ومجتمع الأعمال. وبوصفي أحد المشاركين، طرحت ورقة حول فن إجراء المقابلات. ومن خلال المناقشات التي أعقبت حديثي، اتضح لي أن القليل فقط من بين الحضور، الذي تضمن مشاركين من دول حلف وارسو السابق، اعتبروا أنفسهم صحافيين مهنيين، بينما كانت الغالبية أعضاء بأحزاب ويقومون بمهام صحافية. ومن الواضح أنه من الممكن أن ينتهي بهم الحال في مهن أخرى حسب متطلبات عملهم.

في ذلك الوقت، عقد الوفد الذي شاركت فيه لقاءات مع قيادات من الحزب الشيوعي بالاتحاد السوفياتي، بما في ذلك ألكسندر يافكوفلف، مهندس سياسية «غلاسنوست» (سياسة كانت تدعو لمزيد من الشفافية داخل المؤسسات الرسمية)، وفالنتين فالين، رئيس القسم الدولي باللجنة المركزية. وخلال اللقاءات، ضغط الوفد الذي كنت به من أجل إلغاء قانون يجبر الصحافيين السوفيات على استخراج بطاقة عضوية بالحزب الشيوعي كي يتمكنوا من ممارسة مهنة الصحافة.

من جانبهم، أبدى القادة استعدادهم لقبول الكثير من الإصلاحات، بما في ذلك تغيير اسم الحزب الشيوعي إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، لكنهم أصروا بعناد على ضرورة وجود «حلقة ربط بين الحزب والإعلام».

على النقيض، نجد أن روسيا اليوم تتمتع بعدد وافر من الصحافيين المهنيين ممن لا يسعون لأي عمل آخر خارج الحقل الإعلامي.

وتشير الإحصاءات الصادرة عن «اليونيسكو» أن روسيا بما تضمه من أكثر من 100 ألف صحافي، تأتي في المرتبة الأولى عالميا على هذا الصعيد، متقدمة على الصين والولايات المتحدة. ورغم وجود بعض العناصر السلبية داخل الحقل الصحافي، فإن السوق الإعلامية شبه المفتوحة التي تطورت على امتداد ربع القرن الأخير قادرة على التمييز بين الصالح والطالح.

في الواقع فإن عشق الصحافة أشبه بداء إن أصيب الإنسان به يتعذر عليه التعافي منه بسهولة، والصحافي الحقيقي لن يضحي بقصة جيدة لنيل رضا حكام استبداديين أو حيتان من كبار رجال الأعمال. عام 1989، لم نعاين سوى حفنة من الصحافيين السوفيات الذي أصيبوا بداء عشق الصحافة، وكانوا في معظمهم في بداية الـثلاثينات من العمر. اليوم، هناك المئات، بل وربما الآلاف، مثلما يتضح من مجرد المرور السريع عبر الصحف والمجلات الروسية. بالطبع، ينتهي الحال ببعض هؤلاء في السجن، أو التعرض للضرب، بل وأحيانا القتل. إلا أن غالبية الصحافيين يعدون هذه المخاطر جزءا أساسيا من المهنة، حتى داخل أعرق الديمقراطيات، ناهيك عن روسيا التي لا تزال تحاول التعافي من ماضيها.

ثانيا: تسمح السوق الإعلامية بقدر من الاستقلال الاقتصادي كان يبدو في حكم المستحيل خلال الحقبة السوفياتية. وتعي المؤسسات الإعلامية جيدا أنها لن تبقى على قيد الحياة حال فشلها في جني المال، وأن جني المال يتطلب إرضاء الجماهير، وإرضاء الجماهير بدوره لا يمكن تحقيقه عبر الدعايات المتخفية خلف قناع صحافي. ثالثا: زادت أهمية الاطلاع على معلومات موثوق بها بالنسبة للروس من مختلف المستويات. خلال الحقبة السوفياتية، لم تكن هناك أهمية تُذكر لما يعرفه المواطن العادي عن معظم القضايا المحيطة به. أما الآن، يعي الروس جيدا أنه حال حصولهم على المعلومات، فإن بإمكانهم التأثير على القرارات على المستويين المحلي والوطني. ويعني ذلك أن هناك سوقا متنامية للمعلومات الحقيقية، بينما تبدي أعداد متزايدة من الصحافيين استعدادهم للكشف عن هذه المعلومات، حتى ولو كان الثمن حياتهم.