سفينة فرنسية بـ 12 شراعا تسير في اتجاهات إبداعية متنوعة

مؤسسة للموضة تحتفي بالثقافة العالمية وتستثمر فيها

متحف «لويس فيتون»
TT

يجدر بزوار العاصمة الفرنسية باريس، منذ الآن، إضافة مبنى مؤسسة لويس فيتون إلى قائمة الصروح التي ينبغي زيارتها. فالعاصمة التي تحوي برج إيفل، وقوس النصر، ومتحف اللوفر، والقوس الأبيض الشهير في منطقة الأعمال (la defense)، إلى متحف بومبيدو للفن المعاصر.. إلخ. فالمبنى الجديد الذي يتوسط Jardin d’acclimatation في غابة بولون المطلة على العاصمة من جهات عدة، سيكون مركز استقطاب فني وثقافي عالمي، أسوة بغيره من المتاحف التي تمتلئ بها العاصمة.

والحق، إنها المرة الأولى في فرنسا، التي تتكفل بها مؤسسة (تجارية) بإقامة صرح ثقافي على هذا المستوى من الضخامة والإنتاج. فقد بلغت تكلفة المبنى النهائية 100 مليون يورو، لن تكون على غرار غيرها من المشاريع الضخمة التي تمول من الضرائب. كما أن عملية البناء التي بدأت عام 2006، مرت بصعاب كبيرة جدا؛ إذ هي المرة الأولى التي تصدر فيها بلدية العاصمة، استثناء، يسمح بموجبه بتخصيص أراض تعود للملكية العامة لمصلحة مؤسسة خاصة. كما أن قانونا كان صدر في هذا الخصوص سمح بإكمال الأعمال في عام 2011، إضافة إلى أن بعض القوانين الخاصة كانت سنت من أجل السماح للمهندس المعماري فرانك جيري (مصمم المبنى ومنفذه)، بإضافة الأشرعة الزجاجية الـ12 التي صممت من الفولاذ والخشب، وتحمل 3600 قطعة زجاج صنعت من خامات خاصة بهذا المبنى. كما أن الأشرعة الزجاجية المنتفخة بفعل اصطدام الهواء، ركبت على المبنى الأساسي الذي تبلغ مساحته 11700 متر مربع بارتفاع 40 مترا، مما يجعل من المبنى سفينة إسمنتية تجرها أشرعة زجاجية عملاقة، ركب كل شراع منها بشكل يعاكس الآخر، كما لو أنها سفينة تسير في كل الاتجاهات.

على مثال الأعمال الكبرى التي نفذها فرانك جيري، مثل متحف غوغنهايم في إسبانيا، أو والت ديزني في لوس أنجليس، أو متحف وايزمان في مينيسوتا، وغيرها الكثير من الصروح المعمارية التي تشكل علامة استثنائية في عالم الهندسة المعمارية، يعد مركز لويس فيتون في باريس رمزا عالميا لا يضاهيه آخر. وهو بجماله وتعقيدات بنائه يذكرنا بالصروح الخالدة في تاريخ العمارة مثل مسجد السليمانية في إسطنبول، وقصر فرساي، وقبة كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان. كتلة بصرية ترتفع وسط الغابة، تدخل إلى باريس وتخرج منها، الفروقات بين الداخل والخارج لا شيء، لا فرق بين السماء في الأعلى والماء في الأسفل، كل شيء يذوب بعضه في بعض لتأليف سيمفونية من الحديد والباطون المسلح والخشب والزجاج. نقف أمامه تتملكنا الدهشة، ندخل مندهشين ونخرج مثقلين بحمل المكان الذي يبدو كأن يدا من عالم آخر وضعته وغابت عن الأعين الفضولية التي تستجدي معرفة المزيد من أسراره.

ولا يقتصر عمل المتحف على عرض الفنون فقط. يحتوي المبنى على 11 قاعة لعرض الفنون، كل واحدة من هذه القاعات مخصصة لنوع خاص، كما يحتوي على أوديتوريوم (مسرح) يحتوي على 400 كرسي، إضافة إلى أماكن أخرى للعزف الموسيقي الحر. كما تعرض المؤسسة في أماكن محددة، جزءا من مجموعتها الخاصة، يعتبر ثروة حقيقية، وإن دل فإنه يدل على دأب المؤسسة على اقتناء أندر الأعمال الفنية لفنانين مثل غيرهارد ريشتر، وبيرتراند لافيير، وكريستيان بولتانسكي، وأولافور إلياسون، وتوماس شوت، وبيار هاي، وسارة موريس، وألبيرتو جياكوميتي، وتاسيتا دين، وولفغانغ تيلمان، وآنيت ميساج، علما أن المؤسسة أعلنت أن هذه المجموعة ستعرض 4 أشهر فقط، تليها مجموعة أخرى مغايرة تملكها المؤسسة.

يضعنا هذا المتحف، أمام ظاهرة فريدة من نوعها عالميا، تتجلى في قدرة المؤسسات الخاصة على الاهتمام بالفن. ليس الاهتمام فقط، فالحقيقة هي أن صرف مبالغ طائلة، سواء على المبنى أو على اقتناء كل هذا العدد الضخم من الأعمال الفنية، يومئ لنا بأن للفن قيمة مالية توازي قيمة الأشياء الأخرى. فأن تعمل مؤسسة على نزف هذه المبالغ، لا يعني فقط أننا أمام عمل تجاري بحت يفهم إمكانات السوق الذي يدخل إليها، إنما أمام حالة جديدة وخصوصا من الاستثمار في الثقافة، بما يجعل منها قيمة مضافة على العمل التجاري الصرف. وأنها، أي الثقافة، تدخل في العمل النفعي الترفيهي المربح، إذا افترضنا أن المؤسسة، سعت لربح المال من وراء إنجاز بهذا الحجم. وأن هذا النوع من الأعمال، يخرج عن سيطرة المتاحف التي تملكها الدول.

إن ما أنتجته الحداثة وما بعدها، من تراكم فكري وفلسفي وفني هائل، يتجلى من خلال هذا العمل: دخول سلطة المال وسلطة السياسة إلى إنتاجات الحداثة نفسها. لقد أدى هذا الدخول من بوابة هذا المتحف، أقله في فرنسا، إلى فتح الأعين على اتساعها على عامل جديد من عوالم الإنتاج الثقافي، لن يكون بمستطاع الفكر ولا حتى الفلسفة مجاراته بسهولة. فإذا كان التوحش المالي الذي تتمتع به المؤسسة، يمكنها، من دخول عالم لم تطأه أرجل أصحاب الأموال من قبل، فإن المؤسسات العابرة للقارات، وهي كثيرة، بإمكانها تتبع «لويس فيتون» والاستثمار في الثقافة على أنواعها، علها بهذا الفعل تعطي القليل مما تأخذه، لهذا العالم الذي يوما بعد يوم، يتحول إلى غابة مالية يجهد الداخلون إليها بقطف المزيد من الأرباح، من دون التخلي عن القليل الذي يمكن أن يساهم في بناء حالة ما بعد حداثية لعالم التجارة الدولية، ربما، في مكان ما، تساهم في خلق حالة من التصالح ما بين جشع المال وكنوز الحضارة الإنسانية الباقية وحدها حين يزول كل شيء.