من التاريخ: الجنون والتمريض ومأساة الحرب في القرم

TT

تابعنا كيف قررت كل من فرنسا وبريطانيا الزحف البحري والبري على شبه جزيرة القرم التابعة لروسيا من أجل حسم الحرب الدائرة معها وحمايةً للدولة العثمانية بشكل نهائي حتى لا يصبح الأسطول الروسي مصدر تهديد لهذه الدولة الضعيفة، وعلى الرغم من عدم توافر الإمدادات اللازمة لهذين الجيشين وتفشي مرض الكوليرا بين جنود الحلفاء، والذي حصد ما يقرب من عشرة آلاف روح وحده قبل بدء حملة القرم، فإن القيادتين الفرنسية والبريطانية قررتا في سبتمبر (أيلول) 1854 التوجه إلى القرم لنقل الحرب إلى هناك بعد انسحاب الجيش البري الروسي من شرق أوروبا نتيجة للصمود غير المتوقع للدولة العثمانية. وقد تحرك الأسطولان دون أن تكون لهما دراية كاملة بالأماكن التي سيتم الإنزال فيها، وعندما قرر القائد البريطاني «راجلان» (Raglan) إنزال جيشه على بعد خمسة وعشرين ميلا شمال «سيفاستوبول»، فإنه تأخر كثيرا في إعداد جيشه لحصار المدينة برا، ولم يستغل فرصة أن القائد الروسي «مينشيكوف» كان يتوقع معركة بحرية وليست برية، ومن ثم إغفاله التحصينات البرية اللازمة للمدينة، لكن القائد البريطاني تحرك ببطء حيث احتاج إلى ثلاثة أسابيع لتحريك جيشه غير مدرك لمقولة نابليون الشهيرة «قد أخسر معركة لكنني لن أخسر دقيقة»، لكن الرجل خسر ثلاثة أسابيع لتجهيز الجيش للحرب، وهو الوقت الذي كان القائد الروسي يحتاجه لتدشين تحصيناته البرية، وهكذا بدأت الحرب الممتدة.

استعد «مينشيكوف» بأربعين ألف جندي لمواجهة جيوش التحالف الثلاثة، فبدأ باشتباكات ممتدة مع الجيش العثماني الذي كان يشارك فيه بقوة لا بأس بها الجيش المصري، خاصة أن مصر كانت تابعة للدولة العثمانية في ذلك الوقت، وكانت أولى المعارك تلك التي خاضها الحلفاء حول نهر «ألما» الذي كان يمثل أهمية خاصة بالنسبة للروس لكونه يقع على منطقة مرتفعة. وعندما انتصر الحلفاء على الجيش الروسي وانتزعوا هذه المنطقة المرتفعة، بسبب ضعف الأداء العسكري الروسي أكثر منه عبقرية قيادة التحالف، قرر «راجلان» في مناورة غير مفهومة التخلي عن حصار المدينة لصالح السيطرة على ميناء «بالاكلافا» الجنوبي، معتقدا أنه سبب مباشر في وصول الإمدادات الروسية لـ«سيفاستوبول»، وكان هذا خطأ تكتيكيا فادحا، حيث أضاع مزيدا من الوقت لملاحقة هدف أقل قيمة، وهنا قرر القائد الروسي إغراق بعض سفنه الحربية في مدخل خليج المدينة لعرقلة وصول الإمدادات البحرية للقوات المحاصرة لميناء «بالاكلافا»، وبدأت مناوشات الروس للجيش البريطاني المتحرك جنوبا، كما اشتبكوا مع القوات العثمانية المرابطة بالقرب من الطريق المؤدي للمدينة. وقد دار قتال شرس في هذه المواقع استطاع بعده الروس كسر المقاومة العثمانية والاستيلاء على الموقع ومعه المدفعية الثقيلة، وعندئذ قرر «راجلان» أن يمنع انتقال المدفعية إلى الجانب الروسي، فأصدر أوامره للخيالة بالهجوم على هذا الموقع، وهنا جرى سوء فهم وتفسير لهذه التعليمات المبهمة، فاعتقد القائد الميداني البريطاني أن الهدف كان الهجوم على المدفعية الروسية الملحقة بالجيش الممتد. وقد سجل التاريخ العسكري هذه الواقعة باعتبارها من أكثر القرارات جنونا، وكان ذلك في الخامس والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) 1854، في ما عرف بـ«هجوم اللواء الخفيف» (Charge of the Light Brigade).

لقد بدأ هذا الهجوم العابث بنحو ستمائة وثلاثين من الفرسان توجهوا مباشرة إلى المدفعية الروسية، بلا أي دعم من المشاة أو حتى المدفعية، مما جعلهم عرضة للقصف المدفعي الروسي كخطوة أولى، إلى أن اقترب الهجوم من الجيش الروسي فاشتبك الفرسان الروس معهم بعد أن وصلوا منهكين من المدفعية والمسافة، وكانت النتيجة الحتمية هي انسحاب اللواء على الفور، والذي تعرض من جديد لهجمة أخرى عند انسحابه، بقذف مدفعي روسي فتك به. وقد أسفر هذا الهجوم عن مقتل مائة وعشرة فرسان وإصابة مائة ستة وتسعين آخرين، وأسر سبعة وخمسين، وهو ما دفع الشاعر الشهير «تينيسون» لكتابة قصيدته الشهيرة والتي يبدأها بمقولته الرنانة «ركب الستمائة جميعا نحو وادي الموت»، وقد علق القائد الفرنسي على هذا الجنون العسكري وهو ينظر له بجملة معبرة خلدها التاريخ العسكري بقوله «هذا أمر عظيم للغاية، لكنها ليست الحرب.. هذا جنون».

وعلى الرغم من هذه الانتكاسة فإن المعركة اندلعت على مدار الأيام التالية، وكادت الجيوش البريطانية تلقى الهزيمة خاصة بعدما رفض القائد البريطاني المساعدة الفرنسية في لحظة عجرفة لازمته كثيرا في هذه الحرب، لكن القائد الفرنسي تدخل على الفور دون أن يأبه له لحسم الأمر لصالح الحلفاء، لكن النصر لم يكن حاسما فلقد ظلت «سيفاستوبول» مستعصية على الحلفاء، كما أن الشتاء بدأ يدخل بقوة في ذلك العام، مما اضطر الجميع لوقف العمليات العسكرية، لكن الحلفاء كانوا في حالة يرثى لها لأن الإمدادات لم تصلهم، وعندما أرسلت بريطانيا إحدى وعشرين سفينة إمدادات شاءت الأقدار أن تغرق هذه السفن بسبب العواصف العاتية في البحر الأسود تاركة الجيش البريطاني في حالة يأس وإحباط. لكن مشاكلهم تضاعفت أيضا بسب تفشي المرض وعدم وجود تمريض، وهو ما جعل الأمر محل تحرك سريع من قبل المجتمع المدني البريطاني، حيث سارعت شخصية معروفة باسم «فلورنس نايتنجيل» بتجهيز حملة من الممرضات تمكنت من الذهاب إلى إسطنبول لبدء علميات التمريض في ظروف قاسية للغاية، وهو ما دفعها بعد ذلك للذهاب إلى الجبهة ورعاية المصابين والمرضى استعدادا للمعارك التالية في الربيع. وقد كانت هذه الحملة الإنسانية سببا في ظهور «الصليب الأحمر» بعد حرب القرم مباشرة، فضلا عن بدء العمل بمعاهد التمريض خارج نطاق كليات الطب المعهودة. وتشير بعض التقديرات إلى أن المرض والبرد كانا مسؤولين وحدهما عن حصد أرواح خمسة جنود من الحلفاء مقابل جندي واحد للآلة العسكرية الروسية.

استؤنفت المعارك بعد ذلك، وقد بدأت ظروف الحلفاء تتحسن تدريجيا خاصة بعد وصول الإمدادات والقوات الإضافية وتحسن أحوال التمريض، مما جعلهم على أهبة الاستعداد للعدو الروسي الذي كان محاصرا بشكل شبه كامل في «سيفاستوبول»، وعندما رأى القائد الروسي استحالة المقاومة عرض على الحلفاء الاستسلام، وعندما حاول القائد البريطاني رفض الاستسلام ومواصلة الحرب، ضغط القائد الفرنسي الذي عانت قواته أكثر من غيرها فاستسلمت «سيفاستوبول» بشروط ميسرة، وبهذه الخطوة انتهت الحرب بعدما حصدت قرابة ربع مليون جندي ما بين قتيل وجريح.

وكما هو معروف، فإن كل حرب تنتهي بالمفاوضات السياسية، وحرب القرم لم تكن لتخرج عن هذه القاعدة، وقد استغل الإمبراطور الفرنسي هذه المناسبة لتمجيد ذاته من خلال استضافة باريس للمؤتمر الدولي لتسوية الأزمة في القرم في فبراير (شباط) 1856، وقد تعمد الإمبراطور جعل باريس مركزا للسياسة الدولية وإقامة الاحتفالات، وامتلأت مسارح باريس بالساسة الأوروبيين، فكانت هذه بداية مرحلة جعل باريس البؤرة الثقافية الأساسية لأوروبا، وهو وضع تبوأته هذه المدينة إلى يومنا هذا.

وقد أسفرت نتائج المؤتمر عن عدد من القرارات الأساسية وعلى رأسها استقطاع جزء من الأراضي الروسية وضمها لولاية مولدوفا كنوع من العقاب، وإقرار استقلال الدولة العثمانية والتعهد بعدم التدخل في شؤونها الداخلية خاصة مسألة رعاية الجاليات الأرثوذكسية في ممتلكاتها، كذلك تقرر عدم السماح لوجود الأسطول الروسي في البحر الأسود باستثناء بعض السفن الخاصة بحماية السواحل والشرطة، كما تقرر فتح البحر الأسود للتجارة الدولية وكذلك الملاحة في نهر الدانوب. وقد رأى بعض المحليين التاريخيين أن الحلفاء كان يمكن لهم فرض مزيد من الشروط على روسيا واستقطاع مزيد من أراضيها، لكن حقيقة الأمر أن الهدف النهائي كان إعادة توازن القوى لشرق القارة الأوروبية، ومن ثم فلم يكن من المستحب إجراء تغييرات واسعة النطاق، والتي كان من شأنها إخلال التوازن بإعادة توزيع هذه الخريطة، وهو ما كان يمكن أن يصبح مصدرا لمزيد من المشاكل.

وهكذا انتهت هذه الحرب الغريبة في ظروف سياسية معهودة ترتبط بآليات التوازن السياسي الأوروبي، والذي ظل على ما هو عليه حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عندما أعيد توزيع هذا التوازن بعد القضاء على الدولة العثمانية كلاعب سياسي في أوروبا والشرق الأوسط وفرض سيطرة دول التحالف على مجريات الأمور في الشرق الأوسط، ولكن تظل حرب القرم عالقة في الأذهان الأوروبية على اعتبارها حربا غير ضرورية دفعت فيها أوروبا أثمانا باهظة، لكن هذه سنة السياسة الدولية والتاريخ، فالحرب ما هي إلا امتداد للسياسة ولكن بوسائل أخرى، كما قال عنها مؤسس علم الاستراتيجية «كارل فون كلاوز يوس».