زواج على خط النار يتحدى داعش بالعراق

التنظيم هدد العروس وعائلتها

عراقيون يغادرون بلدة الضلوعية بعد أن دمر المتطرفون الكباري المطلة على النهر
TT

عندما خُطبت إخلاص محمد إلى الجندي العراقي لطيف المعشر الذي يسكن بلدة الضلوعية كانت تحلم باليوم الذي ترتدي فيه فستان الزفاف الأبيض وتحتفل مع أصدقائها وأفراد أسرتها وتستمتع بالموسيقى والطعام، لكن ليس الأمر بهذه البساطة، فقد استولى متشددون من تنظيم داعش على المنطقة. وحمل خطيبها وقبيلته السلاح لمقاومتهم وطردهم، في الوقت الذي انضم فيه جيرانها إلى «الدواعش» على خط المواجهة الدامي الذي يفصل بين الحبيبين. ورغم خطر الموت والهجمات الانتحارية تزوج الاثنان بعد خطة جريئة أعدها العريس بالاشتراك مع والدة إخلاص لتهريب العروس من البلدة بواسطة قارب في نهر دجلة.

تروي إخلاص ذات الواحد والعشرين ربيعا قائلة: «كانت قصتنا أشبه بفيلم رومانسي حزين. لقد هددنا الأشرار وهربت مع الرجل الذي كان ولا يزال يقاتلهم». وتندلع الاشتباكات بطول الخنادق والثكنات العسكرية التي تقسم بلدة الضلوعية التي تقع على بعد 50 ميلا من بغداد وتعد من البلدات العراقية الكثيرة التي تمزقت خلال العام الحالي بسبب اجتياح تنظيم داعش لها. أصبحت الكثير من مزارع النخيل وبساتين البرتقال في البلدة أماكن خطيرة لكونها أماكن اختباء القناصة التابعين للتنظيم ومرمى لقذائف الهاون. ورغم تحرر جزء من البلدة من الدواعش، يظل سكانها محاصرين ومنقطعين عن المركز التجاري والمباني الحكومية بل وحتى المقابر التي يريدون دفن موتاهم بها.

والوسيلة الوحيدة التي تصلهم بالعالم الخارجي هي القوارب المتواضعة التي تمر عبر المياه الموحلة لنهر دجلة التي تفصل بين حي السنة وبلدة «بلد» الشيعية القريبة. وتنقل تلك القوارب الطعام والوقود والذخيرة والمقاتلين الذي يرغبون في الانضمام إلى صفوف المعركة ضد «داعش». كذلك تعمل تلك القوارب كبديل لسيارات الإسعاف التي تنقل الجرحى نظرا لسيطرة الجهاديين على المستشفى.

ولم تكن الضلوعية مقسمة عندما قرر علي عامر البالغ من العمر 23 عاما الجندي في الجيش العراقي الزواج. وقد اقترح عليه أحد أقربائه الزواج من إخلاص، وفي شهر مايو (أيار) زار عامر إخلاص في منزل أسرتها حيث التقيا للمرة الأولى. ووجدها جميلة وتتحلى بأخلاق حميدة، بينما هي رأته رجلا مهذبا وكانت ممتنة لسماحه له بإنهاء دراستها. وتم إعلان خطوبتهما بعد أيام قليلة من اللقاء، ثم عاد عامر إلى القاعدة العسكرية التي يعمل بها. وكانا يتحدثان كثيرا عبر الهاتف وشرعا في مناقشة موعد الزواج.

لكن في يونيو (حزيران) استولى تنظيم داعش وبعض الجماعات المسلحة من السنة على الموصل، التي تعد ثاني أكبر مدينة عراقية. واختفى الجزء الأكبر من الجيش العراقي، وتقدم المتشددون نحو الضلوعية في الجنوب.

وكما هو الحال في الكثير من المناطق السنة كان السكان معادين لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي واتهموا حكومته التي يقودها الشيعة بممارسة التمييز ضدهم. لذا عندما وصل المسلحون وقدموا أنفسهم كثوار يحاربون من أجل السنة، سمح لهم السكان بالدخول على حد قول الصحافي وأحد سكان المنطقة شعلان الجبوري.

رفع المقاتلون العلم الأسود لـ«داعش» على مركز الشرطة ورأى السكان رجالا في صفوف مقاتلي التنظيم كانوا من المسجونين بسبب انتمائهم إلى تنظيم القاعدة. وكما فعلوا في أماكن أخرى، استهدف التنظيم الرجال الذي خدموا في الجيش أو الشرطة وكذا الذي انضموا إلى مجالس الصحوة المدعومة من أميركا لمواجهة تنظيم القاعدة. أثار هذا غضب قبيلة الجبور التي تعيش جنوب البلدة على شريط من الأرض الزراعية داخل منحنى يشبه حدوة الحصان بجانب النهر.

وفي الوقت الذي انضم فيه كثيرون إلى تنظيم القاعدة بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003. تغيرت توجهات القبيلة وتحالفت مع الأميركيين. ويقول ماهر الجبوري خطيب مسجد يساعد في قيادة القتال: «لقد قاتلناهم في السابق لذا نعلم من هم. ما هذا إلا استمرار للمعركة ذاتها». في منتصف يونيو (حزيران) تولى قائد في قوات الشرطة المحلية قيادة عملية لصد هجوم على مركز الشرطة وطرد تنظيم داعش من الجزء الذي تعيش فيه قبيلة جبور من البلدة. ومنذ ذلك الحين يقول مقاتلو القبيلة إنهم يصارعون من أجل صد هجمات الدواعش دون مساعدة تذكر من الحكومة في بغداد.

في مساء يوم قريب في منزل صغير في بستان البرتقال بالقرب من خط المواجهات، استراح عشرات من مقاتلي القبيلة ونظفوا أسلحتهم. وكانت القوة خليطا من ضباط الشرطة والجنود والمتطوعين، بعضهم يرتدي الزي المموه، بينما يرتدي آخرون ملابس عادية وأحذية بلاستيكية. كانت ماسورة لقذيفة هاون تستقر على العشب، بينما كان أحد المقاتلين يعمل على تحويل ذخائر قديمة إلى قنابل يمكن إلقاؤها على مواقع تنظيم داعش. وفي حين كان بعض أعدائهم من الأجانب، كان القسم الأكبر من القريبين على حد قول ضابط المرور زياد صالح الذي انضم إلى العمليات المناهضة لتنظيم داعش. وتلقى بعض المقاتلين مكالمات هاتفية من أشخاص كانوا يعرفونهم من قبل تتضمن عبارات مهينة وتطلب منهم الاستسلام. وأوضح صالح قائلا: «لا يمكننا التقدم لأنهم زرعوا متفجرات في كل مكان على الطريق وفي المنازل». واستهدف القناصة المتخصصين في المفرقعات الذين تم إرسالهم لتفكيك القنابل.

زادت المعركة من تعقيد الأمور بالنسبة للخطيبين، حيث حصل عامر على تصريح من الجيش للقتال في مدينته على بعد بضعة أميال من مسكن خطيبته، ومع ذلك لم تكن هناك طريقة ليقابلها. وبعد انتشار نبأ خطوبتهما، هدد الدواعش إخلاص بالقتل إن لم تفسخ الخطبة. وازدادت المكالمات الهاتفية بينهما توترا، وباتت إخلاص تقول لعامر: «أسرع وأخرجني من هنا».

وفي النهاية هدد التنظيم بقتل أسرتها أيضا، لذا خططت كل من أمها وعامر لتهريبها، لكن قبل ذلك أرسل الدواعش انتحاريا في سيارة لتنفيذ تفجير في شارع تجاري أسفر عن مقتل 20 شخصا بما فيهم ابن عم عامر وأعز أصدقائه صلاح مجبل. وكان لا يزال في حالة حداد بعد مرور يومين عندما تمكنت والدة إخلاص من تهريبها. وبعد جهد جهيد لتفادي المرور بالخطوط الأمامية، استقلا قاربا لعبور النهر إلى الجانب الجنوبي من الضلوعية حيث كان عامر في انتظارها على الضفة. وقال عامر: «عندما رأيتها من على بعد أدركت أن حلمي بات حقيقة».

وطلب عامر عمل أثاث لغرفة نوم في منزل أسرته، لكن حانوت النجار كان يقع وراء خطوط تنظيم داعش، لذا كان عليه اقتراض الأثاث من أقربائه، وتركت إخلاص ملابسها في المنزل حتى لا تلفت الانتباه إليها وهي تهرب. واضطرا إلى عبور النهر أكثر من مرة في اليوم التالي لشراء ملابس وحلي والذهاب إلى المحكمة، حيث استولى التنظيم على محكمة الضلوعية مما جعل الذهاب إليها لإتمام مراسم الزواج أمرا في غاية الصعوبة.

في 22 سبتمبر (أيلول) ارتدت إخلاص الفستان الأبيض وعبرت النهر والتقت بعامر عند أحد محلات تصفيف الشعر في البلد وذهبوا إلى استوديو تصوير لالتقاط صور الزفاف، ثم استقلا قاربا إلى المنزل وتناولا الطعام مع أسرته. ولم يتمكن أكثر أفراد أسرتها من حضور الزفاف لصعوبة عبور خطوط المواجهة، ولم يكن هناك موسيقى لأن عامر كان في حالة حداد على ابن عمه الذي تم دفنه بالقرب من المنزل. كانت إخلاص سعيدة رغم كل شيء، حيث قالت: «لقد كان أجمل يوم في حياتي. وأنا سعيدة لأن علي إلى جواري». مع ذلك كان عامر، الذي عاد إلى القتال بعد 4 أيام من الزفاف، لا يزال حاد المزاج. وقال: «لم يكن هناك شهر عسل، بل شهرا من الحزن والرصاص».

* خدمة «نيويورك تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»