استراتيجية مقترحة للدول الغنية: استوعبوا مزيدا من المهاجرين

النسب السكانية المتراجعة في بعض الاقتصادات المزدهرة تضر بالناتج العام

من الصعب تخيل كيف ستتمكن أعداد سكان آخذة في الانكماش من التعامل مع عبء الديون بدون مهاجرين جدد (أ. ف. ب)
TT

غالبًا ما تركز الجدال الاقتصادي الدائر منذ الأزمة المالية وفترة «الركود الكبير» على قضايا مثل السياسة النقدية والمحفزات المالية والبطالة والتنظيمات المالية. ورغم أهمية جميع هذه القضايا فإننا بحاجة لأن نولي في المستقبل اهتماما أكبر لمجال مهمل نسبيا، ألا وهو اقتصاديات السكان. ويحمل هذا المجال أهمية كبرى لفهم ما إذا كانت الدول ستتجه نحو مزيد من الثراء أم سيصيبها الجمود وتفقد أهميتها عالميا.

والتساؤل الآن: إلى أي مدى تعرض هذا المجال للتجاهل؟ في الواقع يكفي القول إن أهم الأنباء الاقتصادية التي وردتنا هذا العام مرت في معظمها من دون أن يعبأ أحد بتحليلها. في مقال نشره مؤخرا في «جورنال ساينس»، أجرى باتريك غيرلاند، الباحث لدى الأمم المتحدة، بالتعاون مع عدد من زملائه، مراجعة للتوقعات المرتبطة بسكان العالم، وخلصوا إلى أنه على النقيض من تقديرات سابقة، فإنه من غير المحتمل أن يصل عدد السكان العالم لذروته في أي وقت قريب. على العكس، لقد رأوا أن هناك احتمالية بنسبة 80 في المائة لأن يرتفع عدد سكان العالم، البالغ حاليا 7.2 مليار نسمة، إلى 12.3 مليار نسمة بحلول عام 2100. وأشاروا إلى أن السبب وراء ذلك أن التراجع في معدلات الخصوبة في أفريقيا يجري بوتيرة أبطأ عن المتوقع.

وللأسف، فإن المناطق ذات النمو السكاني السريع، مثل أفريقيا وجنوب آسيا، تتسم بمستويات معيشة أدنى. وفي إطار الصورة العالمية المستقبلية المتوقعة، ستضم هذه المناطق أعدادا من البشر تفوق قدرتها على إعالتهم، بينما ستعاني الكثير من دول الغرب وشرق آسيا من نقص شديد في أعداد الشباب، بما يهدد اقتصادياتها المزدهرة. وكخبير اقتصادي أرى حلا واضحا لهذه المعضلة، وهو أن تقدم الدول المتقدمة ذات أعداد السكان الضئيلة نسبيا على استيعاب مهاجرين شباب من أفريقيا وجنوب آسيا، مما يعود بالنفع على الجانبين.

بيد أنه من غير الواضح ما إذا كانت جميع الدول التي يمكنها الاستفادة من هذه السياسة ستتقبلها أم لا، وذلك لأسباب منها استمرار التحيزات العرقية والثقافية. وهناك أيضا التساؤل المشروع المتعلق بمدى سرعة تكيف المهاجرين الجدد مع البيئات الجديدة، خاصة عندما يفدون للبلدان الجديدة بخلفيات تعليمية هزيلة في وقت تتطلب سوق العمل فيه مهارات أقوى باستمرار.

الواضح أن الدول المتقدمة التي بإمكانها استيعاب مهاجرين جدد بتكلفة متواضعة ينتظرها مستقبل مشرق، ذلك أن هؤلاء المهاجرين سيساعدون كوكبا بأكمله. في المقابل، فإن الدول المتقدمة التي تعتنق أفكارا جامدة نسبيا حيال الهوية الوطنية، وبالتالي تنتهج سياسات صارمة حيال الهجرة، قد تشهد انكماشا في أعداد سكانها وتفقد نفوذها.

وبالطبع، لا تمثل الهجرة سوى علاجا واحدا محتملا. ويتمثل علاج آخر في إمكانية أن يؤدي خلق الدول لمرونة أكبر في ظروف العمل وجعل نفقات المعيشة معقولة نسبيًا، لتنامي رغبة الأسر في إنجاب مزيد من الأطفال.

أما إذا لم تكن مقتنعا بأن انكماش السكان يمثل مشكلة، فعليك بالنظر إلى اليابان. تكشف الإحصاءات أنه بالنسبة لإجمالي الناتج الداخلي الفعلي بالنسبة لكل ساعة عمل، لا تزال اليابان تبلي بلاء حسنا. إلا أنها تواجه مشكلة جوهرية: أعداد السكان المنتمين للفئات العمرية العاملة في انحسار منذ قرابة عام 1997. كما أن إجمالي سكان اليابان آخذ في التقدم في العمر. وبالتالي فإنه مع تضاؤل أعداد العمال الذين يعولون هذا العدد الكبير من المتقاعدين، ستبدأ المدخرات الوطنية في التراجع ويجري تحويل الموارد بعيدا عن مهام ملحة مثل إعادة تحفيز الشركات وإنعاش الاقتصاد. يذكر أن اليابان تحولت بالفعل من دولة مصدرة للمعجزات إلى دولة تعاني عجزا تجاريا مستمرا. وربما لا تتوافر وصفة طيبة بسيطة للإبقاء على نموها الاقتصادي، وهو ما أعرب عنه إدوارد هيو في كتابه الإلكتروني الأخير «أ.ب.هـ. الاقتصاد».

حاليًا، تقف اليابان في مواجهة خيارين أساسيين، أولهما: تشجيع المزيد من المواليد.. وثانيهما: تعلم كيفية قبول واستيعاب مزيد من المهاجرين، لكن لا يبدو أنها على استعداد للاضطلاع بأي من المهمتين.

في الواقع، اليابان ليست الدولة الوحيدة التي تواجه هذه المعضلة، كل ما في الأمر أن المصادفة جعلتها أول من يعاني هذه المشكلة. من بين الدول الأخرى التي في طريقها نحو معاينة تراجع سكاني الصين (بإرثها من سياسة الطفل الواحد) وكوريا الجنوبية وبعض الدول الأوروبية المطلة على البحر المتوسط. في إيطاليا، على سبيل المثال، من الصعب تخيل كيف ستتمكن أعداد سكان آخذة في الانكماش من التعامل مع عبء الديون، أو كيف سيتمكن زوجان عاملان من إعالة والدين ووالدتين وطفل لهما.

على الجانب الإيجابي، بمقدور دولة تعاني من انحسار أعداد السكان حل مشكلاتها البيئية بصورة أيسر. ومع ذلك، فإن الدول الديناميكية الآخذة في النمو أكثر احتمالا لأن تتمتع بالإبداع بالمجال البيئي، مما يمكنها من حل مشكلاتها.

لحسن الحظ، تسير الولايات المتحدة على طريق النمو السكاني المعتدل. ومع ذلك، فإنها تواجه بعض المشكلات الكبرى هي الأخرى، مثل عدم وجود ضمانات باستمرار معدلات الخصوبة المرتفعة نسبيا بالبلاد. وقطعا فإن سياسات العمل التي تثبط الإنجاب غير مفيدة على هذا الصعيد. ومن المحتمل أن يستلزم ضمان نمو سكان الولايات المتحدة إصلاح سياسات الهجرة، وهو أمر لم يمثل أولوية كبيرة للجمهوريين الذين سيطروا بالكامل على الكونغرس عبر انتخابات الأسبوع الماضي. وفي الوقت الذي نادرا ما يتحدث فيه القادة الأميركيون علانية عن هذا الأمر، فإنه ربما تتوافر أمامهم أسباب جيوسياسية تدعو لتجنب انكماش أعداد الأميركيين بدرجة بالغة مقارنة بالصين. وقد تتطلب مجابهة هذه المخاطرة الوصول لمعدل نمو سكاني متسارع، وليس مستقرا فحسب.

من ناحية أخرى، تمثل فرنسا وإسرائيل وسنغافورة ثلاث دول يجري تناول قضية السكان داخلها بصراحة كبيرة، وتتبع الدول الثلاث سياسات عامة معلنة لتشجيع مزيد من المواليد. وقد تلحق بها مزيد من الدول في هذا المسار. إن تشجيع الأسر على إنجاب مزيد من الأطفال والسعي للفوز بالمهارات البشرية قد يشكلان جزءا من السياسات الاقتصادية في المستقبل.

ونعاين حاليا بالفعل بعض الدلائل التي توحي بحدث تحول باتجاه ارتفاع أعداد المواليد ببعض أجزاء العالم. مثلا، شهدت بريطانيا انتعاشا متواضعا في معدلات الخصوبة لا يقتصر على المهاجرين حديثا فحسب. بيد أن الملاحظ أن هذه التطورات لا تحظى بتغطية ودراسة كافية.

واللافت كذلك أن الكثير من الخبراء الاقتصاديين لا يشعرون بالارتياح حيال تناول قضايا السكان، ربما لأن هذه القضايا لا يجري تناولها بعمق في المناهج الدراسية، أو لتماسها مع قضايا أخرى قد تكون مثيرة للجدل ثقافيا أو حتى من غير الصائب الحديث عنها سياسيا. وهذا أمر مؤسف. أما في المستقبل، فإن اقتصاديات السكان - والقضايا الاجتماعية المرتبطة بها - من المحتمل أن تأتي في مقدمة وقلب اهتماماتنا.