البولندي توسك «ابن النجار».. رئيسا للاتحاد الأوروبي

أول شخصية من أوروبا الشرقية تتولى هذا المنصب الرفيع

TT

عاصفة من التصفيق كانت هي رد فعل الحضور، داخل المجلس الوزاري الأوروبي ببروكسل، عندما تحول البولندي دونالد توسك، الرئيس الجديد للاتحاد الأوروبي، من التحدث باللغة الإنجليزية إلى الفرنسية، حتى ولو بعبارات قصيرة. كأنه أراد أن يرد على المشككين الذين انتقدوا اختياره للمنصب بسبب عدم إجادته للغتين الفرنسية والإنجليزية. حدث ذلك أثناء الاحتفال بعملية تسليم وتسلم رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي، قبل أيام في بروكسل. وجرى انتخاب توسك رئيسا للاتحاد الأوروبي في أعقاب انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو (أيار) الماضي. وسيعمل توسك إلى جانب رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، ورئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز، لإدارة شؤون الاتحاد الذي يضم 28 دولة أوروبية.

يخلف توسك الرئيس المنتهية ولايته للاتحاد هيرمان فان رومبوي، الذي يترك منصبه بعد 5 سنوات فيه. يذكر أن رومبوي رئيس وزراء بلجيكا السابق هو أول رئيس دائم للاتحاد الأوروبي.

ووعد توسك رئيس وزراء بولندا السابق، في خطاب تنصيبه، بالعمل بقوة وتصميم من أجل تنشيط الاقتصاد والدفاع عن الاتحاد الأوروبي من التهديدات الخارجية والداخلية. وقال إن «الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مسؤولة عن المزيد من اندماج اقتصادات الاتحاد». وأضاف أن «اليورو ميزة لدينا وليس عيبا»، رغم أن بولندا لم تنضم إلى العملة الموحدة حتى الآن. كما اعتبر توسك العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أولوية قصوى بالنسبة له.

ويخوض الجانبان الأميركي والأوروبي مفاوضات تستهدف عقد اتفاقية للشراكة التجارية والاستثمارية بين جانبي الأطلسي، حيث تواجه المفاوضات صعوبات كبيرة. وقال توسك «العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة هي العمود الفقري لتجمع الديمقراطيات»، مضيفا «العام المقبل سيكون حاسما» بالنسبة لمستقبل العلاقات بين جانبي الأطلسي.

رومبوي أشاد بخليفته توسك الذي بدأ حياته السياسية كناشط مناوئ للشيوعية في بولندا قبل انهيار الكتلة الشيوعية في أوروبا أواخر الثمانينات في القرن العشرين. وقال فان رومبوي قبل تسليم توسك الجرس الرمزي الذي يستخدم لبدء قمم الاتحاد الأوروبي «لقد أصبح الابن المفضل لبولندا على رأس أهم مؤسسة في الاتحاد الأوروبي».

وتوسك هو أول شخصية من أوروبا الشرقية يتولى هذا المنصب، وهو يتسلم مهامه في فترة توتر مع روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية. وقال خلال حفل التسلم والتسليم إن الاتحاد الأوروبي يواجه تحديا «من الأعداء». وأضاف «لقد عادت السياسة إلى أوروبا. وعاد التاريخ».

توسك، الذي ولد في 22 أبريل (نيسان) في 1957 في غدانسك التي انطلقت منها نقابة تضامن، ليبرالي معروف. وهذا المؤرخ الذي يهوى رياضة كرة القدم وصل إلى السلطة عام 2007 خلفا للأخوين المحافظين كاتشينسكي. وقد عين في نهاية أغسطس (آب) رئيسا للمجلس بعد سبعة أعوام في رئاسة الحكومة البولندية.

وكما فعل يونكر، يريد توسك ممارسة الضغوط اللازمة لتجنب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو التهديد الذي لوح به رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون مجددا عند الإعلان عن خطته حول الهجرة.

وتوسك ولد لأب يعمل في مجال النجارة وأم ممرضة، وسمته جدته باسمه الأول «دونالد» تيمنا بلورد إنجليزي كانت معجبة به، وهو أب لابن وابنه وحفيد كذلك. وكانت النشأة في غدانسك التي انطلقت منها نقابة تضامن البولندية. وميناء غدانسك غرب البلاد ظل لفترة طويلة موضع نزاع حدودي بين ألمانيا وبولندا. وتنتمي عائلته للأقلية الكاشوبية السلافية. وفي مراحله الدراسية الأولى توفي والده. وإثْر قمع النظام الشيوعي البولندي لإضراب واحتجاجات عمال حوض بناء السفن بميناء غدانسك عام 1970، انخرط توسك البالغ من العمر حينها 13 عاما في الأنشطة المعارضة للنظام.

التحق توسك عام 1976 بجامعة غدانسك، وأسس لجنة طلابية لنقابة عمال «تضامن» ردا على قتل طالب معارض للحكم الشيوعي بمدينة كاراكاو، وانتهت دراسته عام 1980. وتحمل توسك مسؤولية نفسه في سن مبكرة، فعمل بالبناء أثناء دراسته الجامعية، وامتهن الصحافة بمجلة أسبوعية بعد شهور من إضراب أغسطس (آب) 1980 بميناء غدانسك، وأصبح رئيسا للجنة التشغيل الممثلة بدار النشر. وتسببت أنشطة دونالد توسك المعارضة في طرده من دار النشر الحكومية، فاشتغل عاملا عاديا بين عامي 1984 و1989.

وبعد سقوط النظام الشيوعي عام 1989، أسس توسك حزب المؤتمر الليبرالي الديمقراطي الذي انتخبه رئيسا له عام 1991. وفي العام التالي دخل البرلمان البولندي للمرة الأولى. وفي الفترة بين عامي 1997 و2005 شغل دونالد توسك منصب نائب رئيس البرلمان. وإثر خسارته نزاعا على رئاسة حزب المؤتمر خرج منه وأسس حزبا جديدا هو المنتدى المدني. وشغل توسك بين عامي 2003 و2006 رئاسة كتلة حزب المنتدى بالبرلمان، وشكل في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 2007 الحكومة البولندية بالائتلاف مع حزب الشعب البولندي وحزب الأقلية الألمانية باعتبار الثلاثة أصحاب أكبر المقاعد بالبرلمان المنتخب.

وتكرر تشكيل توسك للحكومة البولندية بعد فوز حزبه للمرة الثانية بانتخابات البرلمان عام 2011. وحسب تقارير إعلامية غربية فهو ليبرالي معروف، ويهوى رياضة كرة القدم ووصل إلى السلطة عام 2007 خلفا للاخوين المحافظين كاتشينسكي، وأصبح واحدا من الشخصيات السياسية البارزة في المشهد البولندي. تولى رئاسة الحكومة في البلاد لمدة سبع سنوات، قبل أن يتم تعيينه رئيسا لمجلس الاتحاد الأوروبي. ووصفه العديد من المراقبين بأنه قيادي صلب، ترأس حكومة بلاد تخوض مواجهة مع روسيا منذ بدء النزاع في أوكرانيا.

وتقول جانيس إيمانويلديس، من مركز السياسة الأوروبية في بروكسل، إن «توسك براغماتي.. إذا رأى ضرورة وفرصة للتفاوض مع روسيا، فسيقوم بذلك». وقالت إيمانويلديس «إنه يتمتع بخبرة طويلة ويعرف كيف يتواصل مع زملائه» لكن عليه أن «يتعلم كيفية التفاوض على المستوى الأوروبي»، وأضافت «إذا لم يكن على اطلاع على طريقة عمل الهيئات الأوروبية فيمكنه الاعتماد على مدير مكتبه اللامع بيوتر سيرافين وزير الخارجية البولندي السابق للشؤون الأوروبية».

ودونالد توسك يعرف جيدا المجلس الرئاسي الأوروبي، وقد شارك في اجتماعات القادة الأوروبيين منذ سبعة أعوام كرئيس لوزراء بولندا، وتربطه علاقات وثيقة بالمستشارة الألمانية ميركل، ورئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون. وبفعل قدومه من أكبر بلد أوروبي شرقي ينظر إلى دونالد توسك وكأنه الشخصية التي تستطيع أن تؤثر بشكل إيجابي على الحلول التي قد تطرح من أجل حل الأزمة الروسية الأوكرانية.

ويقول محلل سياسي في بروكسل، إن «مواقف فان رومبوي اتسمت بالبحث المستمر عن الحلول التوفيقية، وتمكن من الحفاظ على توازنات دقيقة داخل الاتحاد الأوروبي طول أزمة اليورو، إلا أن توسك قد يتبنى بحكم انتمائه لبولندا وانحيازه لمواقف الدول الشرقية موقفا متشددا تجاه أهم معضلة تواجه الأوروبيين حاليا وهي العلاقات مع الجار الروسي.

ويتولى رئيس المجلس الأوروبي الإشراف على سير الاجتماعات الوزارية وترؤس قمم الاتحاد وتمثيل أوروبا في المحافل الدولية، وله حق القيام بمبادرات محددة عند الضرورة أو الدعوة لاجتماعات استثنائية وإصدار بيانات تتعلق بالسياسة الخارجية. ويرى المحللون أن تكليف أحد رعايا بولندا للمرة الأولى بمنصب رفيع المستوى في المؤسسات الاتحادية في بروكسل يعكس تنامي نفوذ الدول الشرقية التي انضمت تباعا للاتحاد الأوروبي منذ عام 2004 وباتت تمثل مجالا سياسيا واقتصاديا مهما.

يقول أحد المراقبين «يريد توسك أن ينقل العمل الأوروبي من خانة إدارة أزمة اليورو التي طبعت فترة فان رومبوي، إلى خانة التأثير على السياسة الدولية خاصة في مجل التعامل مع روسيا، وهو يتمتع بالإضافة إلى دعم دول البلطيق والدول الشرقية، التي يعبر عن مصالحها مباشرة بتأييد أيضا من قبل الدول الاسكندينافية والتي تدافع بقوة عن الشراكة الشرقية التي يعمل الأوروبيون على إرسائها مع الدول المتاخمة لروسيا، وهي جورجيا وأوكرانيا وأذربيجان وأرمينيا ومولدافيا».

ويقول الأستاذ الجامعي بيوتر كاشينزكي، في المعهد الأوروبي للإدارة العامة، عن المزايا التي يتحلى بها الرئيس الجديد للمجلس الأوروبي، إن «الرئيس السابق هيرمان فإن رومبوي كان سيد الحلول الوسط، وهذا من الأسباب التي دعت إلى اختيار دونالد توسك لترؤس المجلس الأوروبي، وقد كان رئيسا لحكومة بولندا وقائدا سياسيا، وسنعرف قريبا كيف سيقوم بمهامه الجديدة على رأس المجلس الأوروبي».

وعن أثر اللغة في عمليات التخاطب والتواصل مع القادة الأوروبيين، يقول بيوتر كاشينزكي «لقد أعلن دونالد توسك عن إرادته لتحسين إتقانه للغة الإنجليزية، لكن من المعروف أن الرئيس الجديد للمجلس الأوروبي يتقن الإنجليزية بشكل كاف يمكنه من إيجاد سبل التوافق». وعن إجادة توسك للألمانية يقول الأستاذ الجامعي «هذا أمر مهم جدا، فلقد كان هيرمان فان رومبوي يفاجئ في المؤتمرات الصحافية بتحدثه بثلاث لغات، وربما فعل دونالد توسك الأمر ذاته فيتحدث بالبولندية والإنجليزية والألمانية».

وفي تعليق له على اختيار توسك للمنصب قال جوزيف داول، رئيس كتلة حزب الشعب الأوروبي داخل البرلمان الأوروبي، لـ«الشرق الأوسط»، إنه مقتنع تماما بأن توسك ستكون له مساهمات هائلة في السنوات المقبلة في عمله كرئيس للاتحاد خاصة أنه نجح في قيادة بولندا على مدى سبع سنوات، وقد نجح في وضع بلاده في طليعة دول أوروبا، وسوف ينجح في قيادة المشروع الأوروبي الوحدوي جنبا إلى جنب رئيس المفوضية الجديد جان كلود يونكر. ولمح داول إلى أن تعيين توسك رئيسا لمجلس الاتحاد الأوروبي يظهر أن الأوروبيين يعتقدون فقط في أوروبا الموحدة والتي نجحت في التغلب على الانقسامات السابقة بين بلدان الشرق والغرب.

وأضاف «الأوروبيون لا يريدون جدرانا جديدة، وهناك دور لكل دول التكتل الأوروبي الموحد». وشدد داول على أن توسك سيواصل العمل الممتاز الذي بدأه هرمان فان رومبوي، وسوف يسهم في تعزيز المشروع المشترك لجميع الأوروبيين، وسيقود الاتحاد الأوروبي على طريق الانتعاش الاقتصادي والاستجابة لتحديات المستقبل، مثل تنفيذ سياسة الأمن والدفاع الأوروبية، وتعزيز دور الاتحاد الأوروبي كلاعب عالمي بالغ الأهمية.

ويقول داول إن توسك يواجه تحديا حيث إن سلفه رومبوي الذي تولى المنصب لمدة خمس سنوات يفخر بإنجازات هائلة قدمها للمشروع الأوروبي الوحدوي، واحتفظ بأوروبا على الطريق الصحيح. وقد استطاع أن يمضي قدما على الرغم من الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية، ولعب دورا مهما في إنقاذ اليورو والحفاظ على دول المنطقة معا، كما لعب دورا رئيسيا في تعزيز وخلق أداوت جديدة تسمح للاتحاد الأوروبي بمكافحة الأزمة الاقتصادية. وأضاف «اليوم يمكن القول إن هناك بعض التدابير والإصلاحات لا تزال بحاجة إلى أن تنفذ بالكامل، رغم أن الوضع الآن أفضل بكثير مما كان عليه في 2009، بفضل عمل فان رومبوي إلى جانب القادة والمؤسسات والحكومات في الاتحاد الأوروبي».