من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر

TT

أذكر أنني تناولت حياة بطرس الأكبر مؤسس روسيا الحديثة في هذا الباب، وقد كنت أدرك دوما أهمية هذا الرجل بالنسبة لروسيا وتاريخها، وكيف أنه أخرجها من ظلمات عصور الجاهلية إلى الحداثة من خلال عملية «تغريب» استمرت منذ اعتلائه سدة الحكم بشكل مطلق في عام 1696 وذلك بعد قضائه على كامل نفوذ أخته صوفيا التي كانت وصية عليه وعلى أخيه إيفان الخامس الذي توج قيصرا إلى جانب بطرس. وبمجرد أن اعتلى الرجل سدة الحكم في البلاد بعد موت أخيه وقيامه بنفي أخته صوفيا، قرر أن يغير روسيا ليخرجها من عزلتها الشرقية ويجعلها دولة أوروبية شكلا ومضمونا وسياسة.

وقد واجه هذا الرجل مشكلات كثيرة في سعيه هذا، إلى الحد الذي جعله يدرك، ضمن أمور أخرى، ضرورة تغيير العاصمة الروسية موسكو لصالح مدينة أخرى بعيدة عنها كل البعد؛ ليس فقط من حيث المسافة، ولكن من حيث الفكر والتقاليد.. فلقد كانت موسكو رمزا للفكر والتقاليد المحافظة، فكانت ترفض كل أنواع الحداثة أو التطوير، التي رأتها نوعا من الخروج على الكنيسة الأرثوذكسية وتقاليد الشعب الروسي. وبالتالي، وصل الرجل لقناعة بأن فرص تطبيق مشروعه التحديثي لن تتأتي إلا بترك موسكو التي لم يكن لها في قلبه حب كبير بسبب طفولته البائسة وسط مؤامرات الكرملين وخيالة «السترليتزي» أو الحرس القيصري، الذين كادوا يودون بحياته بسبب ثوراتهم الممتدة وتحالفهم مع أخته صوفيا، وحتى بعد القضاء عليهم وإعدام 1183 منهم (تروى القصص التاريخية أن الرجل شارك في قطع رقابهم بنفسه انتقاما مما فعلوه به والخوف الذي أدخلوه في قلبه وهو صغير) فإن القيصر الجديد كان يريد الخروج من موسكو بأي ثمن نحو مدينة تكون «نافذة روسيا على العالم»، فتكون أول مدينة تطل على البحر.

كان لا بد للرجل أن يجد المدينة المناسبة لبداية مشروع الحداثة، وهو ما قرره في عام 1703م عندما استقر رأيه على بناء مدينة سان بطرسبورغ على نهر نيفا Neva، التي تطل أيضا على بحر البلطيق لتصبح منفذا بحريا ومركزا للتفاعل مع القارة الأوروبية بعدما كانت روسيا دولة قارية منعزلة لا موانئ لها إلا بعد الحملات الجنوبية في البحر الأسود للاستيلاء على ميناء أزوف من الدولة العثمانية. وقد بدأ الرجل رحلة بنائه للمدينة بنفسه، وقلما نجد قائدا يقوم ببناء البيوت بنفسه وبهذه السرعة، فلقد تعلم الرجل النجارة والعمارة خلال رحلة له في أوروبا لمدة عام ونصف العام وهو قيصر تاركا ملكه في سبيل العلم. ويقال إن الرجل بدأ في بناء المدينة ببناء كوخ خاص لإقامته في 3 أيام فقط. وحقيقة الأمر أن رحلة بناء المدينة كانت صعبة للغاية لأن القيصر الشاب قد اختار منطقة استراتيجية، ولكنها كانت على مستنقعات، بالتالي كانت عملية تجفيف هذه المدينة صعبة للغاية وتحتاج لجهود مضنية، ولكن الرجل لم يتورع عن استخدام كل الأساليب الإنسانية وغير الإنسانية لبناء مدينته في أسرع وقت، بما في ذلك السخرة، والأسرى، وأبناء الشعب، والجنود، وكل ما استطاع أن يضع يده عليه من رجال، بل تورد بعض المصادر التاريخية أن الرجل فرض على ضباط جيشه الحديث العمل بأيديهم، وهو ما كانوا على أتم استعداد لفعله ما داموا قد رأوا قائدهم وقيصرهم يفعل الشيء نفسه، بل إن كثيرا من البناة استخدموا أياديهم لهذا الغرض لقلة الأدوات وكثرة ضغط القيصر عليهم.. وفي أشهر قليلة، بدأت معالم المدينة تتضح، وخلال السنوات القليلة التالية استطاع الرجل بضغطه وقوة شخصيته أن يفرض على العاملين الانتهاء منها، وأصبحت سان بطرسبورغ العاصمة الجديدة للقيصر الروسي الذي توج نفسه إمبراطورا بعدما أصبح له جيش حديث على الطراز الغربي ومعه أسطول لا بأس به ينافس به القوى المتوسطة في أوروبا. وقد نصره الله على عدوه اللدود الملك شارل الثاني عشر في معركة بولتافا الشهيرة في عام 1708 التي حسمت نهائيا الأطماع السويدية في الأراضي الروسية وجعلت روسيا القوة البحرية الأساسية في الشمال وفي بحر البلطيق.

لقد استعرضت كل هذه الحقائق وأنا أخرج من محطة قطار سان بطرسبورغ، وقد كنت على يقين من أنني على لقاء مع التاريخ الذي شممت رائحته منذ أول دقيقة وطأت فيها قدماي المدينة، فهي مدينة لا تختلف شكلا أو موضوعا عن العواصم الأوروبية الكبرى، بل لها طابعها الخاص الجميل سواء من حيث المعمار أو الروح العامة لروسيا؛ فمن المباني ومعمارها يشعر الإنسان أنه في القرن الثامن عشر في أي دولة أوروبية. وقد وجدت نفسي أزور معظم أنحاء هذه المدينة الجميلة ومبانيها المختلفة التي عكست عظمة هذه الدولة العريقة وعبقرية بطرس الأكبر وبعض القياصرة من بعده، وقد تأثرت كثيرا في الساعات التي قضيتها في القصر الخاص ببطرس الأكبر (Peter Hoff)، الذي يبعد عن وسط المدينة قرابة 40 كيلومترا، فهو بكل تأكيد محاولة لتقليد قصر فرساي في فرنسا، ووضح من خلال معماره أنه يعكس الرغبة والتصميم لدى بطرس لجعل العاصمة الجديدة على الطراز المعماري الأوروبي حتى لا تكون روسيا أقل من أي دولة أوروبية أخرى، بل إن مصمم الحديقة الخاصة به كان أحد تلاميذ المهندس الذي شيد هذا قصر فرساي ذاته.

وعند خروجي من هذا القصر العظيم وجدت نفسي أصطدم بحقيقية كنت أعرفها، ولكنني لم أدركها إلا بعد زيارة المدينة والتعلم من تاريخها، فهذه المدينة تعتبر في تقديري نموذجا قليل الوجود للمدن التي تبنى لتغيير المجرى الثقافي لدولة، فسان بطرسبورغ نموذج واقعي للانتقال الحضاري والثقافي آنذاك في روسيا، فهي تعبير عن الحداثة والخروج من العزلة الثقافية والفكرية التي كانت سائدة في روسيا وموسكو، فالمدينة ليست معمارا أو شكلا أو حتى طرازا مختلفا، ولكنها تمثل فكرة وفعل جسد مفهوم التنوير الذي يختلف تماما عن المدن الروسية الأخرى، وقد ساعدها على ذلك أن الله منّ على روسيا بإمبراطورة اسمها كاثرين الكبرى استطاعت أن تستكمل بناء المدينة وتمنحها الوهج الثقافي والمعماري والثقافي العظيم الذي هي عليه اليوم.

وقد وجدت نفسي أقف أمام تمثال كبير يسمي «الفارس البرونزي» وهو لشخصية ضخمة للغاية طويل القامة عريض المنكبين، وهو لبطرس الأكبر، تم إنشاؤه في عهد القيصرة كاثرين الكبرى تخليدا لذكرى مؤسس المدينة، وقد وقفت أمامه متأملا شخصية هذا الرجل العظيم الذي يصعب أن يجود التاريخ بمثله على الدول. وحقيقة الأمر أنني فقدت السيطرة على الزمن ولم يخرجني من حالة الخيال التاريخي والاندهاش والإعجاب إلا شدة البرودة التي زادتني احتراما لبطرس الأكبر الذي استطاع أن يتحدى كل العوامل الطبيعية القاسية في روسيا ليبني هذه المدينة في أسرع وقت اندفاعا خلف حلمه القومي والتنويري لبلاده الحبيبة. ولكنني لم أخرج من هذه الانتعاشة التاريخية إلا وأنا مدرك ليقين بداخلي بدأ يساعدني على إعادة رؤية التاريخ من خلال هذا الرجل ومدينته الجميلة، وهو أن حكام الشعوب في بعض المناسبات قد تكون لهم رؤية أكبر وأعمق من الشعوب التي يحكمونها، خاصة إذا ما تميزت هذه المجتمعات بالتخلف أو العزلة كما كانت روسيا أثناء عهد بطرس الأكبر، وهنا أدركت عظمة المنحة الإلهية للدول عندما يضع لها المولى عز وجل من يقوم بتطويرها ويدفع شعبها نحو الرقي والتحضر، وهي قناعة أدركتها كلما مررت بهذه المدينة الجميلة.