«الناشر المبدع» في مواجهة «الناشر التاجر»

كتاب وشعراء مصريون يؤسسون دور نشر خاصة بهم

الروائي إبراهيم عبد المجيد صاحب دار «بيت الياسمين» و الكاتب والمترجم طاهر البربري صاحب دار «أرابيسك» و الشاعر فارس خضر صاحب دار «الأدهم»
TT

لماذا يلجأ مبدعون، هم في الأصل شعراء وكتاب ونقاد وفنانون، إلى احتراف مهنة النشر فجأة، هل المسألة تتعلق بمعايير الربح والخسارة؟ أم تتعلق أساسا بمحاولة عدل الميزان المختل في سوق النشر؟ خصوصا العلاقة بين المبدعين والناشرين؛ حيث يرى الفريق الأول أن حقوقهم دائما ضائعة ومهدرة، أو على الأقل معطلة من قبل الفريق الثاني، ناهيك عن فرض وصاية ما على الإبداع، خصوصا تجارب الكتابة الجدية، التي غالبا ما تواجه بعدم القبول من قبل دور النشر الحكومية، تحت دعاوي كثيرة، من بينها اجتراح المقدسات، وعدم مراعاة أعراف وتقاليد المجتمع.

ورغم أن هذه المهنة ليست جديدة في عالم النشر، فإنها في مصر تكاد تشكل ظاهرة؛ حيث شهدت السنوات الأخيرة ميلاد الكثير من دور النشر الخاصة على يد شعراء وكتاب ونقاد، الأمر الذي يجعل الكثيرين يتساءلون، عن الدور الذي ستلعبه هذه الدور، والجديد الذي تقدمه، ورؤيتها لعملية النشر في ضوء الهم الثقافي العام؟

«الشرق الأوسط» ناقشت هذه القضية مع عدد من الشعراء والكتاب يخوضون مغامرة النشر عبر دور خاصة أطلقوها في مصر.

يقول الكاتب والروائي والمترجم طاهر البربري، صاحب دار «أرابيسك»، إن «فكرة دخول أفراد من الجماعة الإبداعية، من كتاب وفنانين ونقاد (على اختلاف أعمارهم وتوجهاتهم)، إلى عالم النشر ليس بالأمر الجديد، سواء على المستوى العربي أو العالمي، لكن حضور سطوة الدولة ومؤسساتها على الفعل الثقافي في سياقه العام، جعل هذا الدخول أمرا ضروريا، حتى من بعض الكوادر الفاعلة في الجماعة السياسية نفسها، وهناك الكثير من الأسباب التي تجعل اقتحام حقل النشر أمرا حتميا؛ حيث تتمترس الدول ذات الصبغة الأمنية، مثل مصر، خلف مجموعة من المؤسسات الثقافية البيروقراطية، في محاولة منها لجعل الثقافة فعلا متكيفا مع النظام؛ ومن ثم يتضح العوار في عملية النشر، وخصوصا في حقل الكتابة الإبداعية والفكرية، وفي كل الأحوال تكون دور النشر الخاصة هي نافذة الخروج للكثير من الكتابات الإبداعية الرافضة لفكرة التكيف مع الواقع الأمني أو الاحترازي من فكرة الثقافة عموما والكتابة على وجه الخصوص.

ويرى طاهر أن دخول فرد من الجماعة الإبداعية إلى عالم النشر يشبه نزع فتيل لغم لا علم له به، لافتا إلى أن «تحول الكاتب أو الفنان أو الناقد إلى ناشر، ليس بالأمر الهين، وعليه أن يبدأ في استقبال ملامح الوجه القبيح للعالم، فهو على وشك التصادم مع تاجر الورق، وظروف المطابع الخاصة الكثيرة في الأزقة والضواحي البعيدة للعاصمة، وعلى وشك التصادم مع كاتب آخر سيتأخر موعد إصدار كتابه، هذا بالإضافة إلى كمية (الخوازيق الأمنية) والتعسفات الضريبية التي تنتظره في مكان ما غير معلوم، وفي النهاية منافذ البيع التي تتعامل مع الناشر على أنه كتلة فائضة عن الحاجة في سوق بيع الكتاب، رغم أن الناشر هو المحرك الأول لكل هذه السوق.

ويخلص طاهر إلى أن الأمر جد معقد، ومثير لكثير من المواجع؛ إذ إن الناشر بعد قليل سيكتشف أنه في عالم عبثي لا بداية له نهاية، وكثيرا ما ينتهي الأمر بإغلاق دار النشر كلها والاسترخاء في بيته بعد سنوات من تجربة مريرة يتمنى نسيانها بكل ما بها من تفاصيل.

وأصدرت «أرابيسك» الكثير من العناوين المهمة، خصوصا في الشعر والرواية والترجمة، ويسعى طاهر الذي يعمل حاليا بإحدى الدول الخليجية، إلى توفير قاعدة مالية تتيح للدار العمل باستقلالية، بعيدا عن كل هذه المعوقات، ويقول: «طموحي بسيط وواقعي جدا، وهو أن يكون لدى الدار مطبعتها الخاصة، حتى تستطيع أن تدير مجريات النشر بحيوية وحرية، وهو ما ينعكس على الكاتب المبدع والناشر معا، ويجعل العلاقة بينهما علاقة مبدعة على كل المستويات».

هذا الطموح نفسه، ومن زاوية أخرى يؤكده الشاعر فارس خضر صاحب دار «الأدهم» للنشر، التي استطاعت خلال أقل من 3 سنوات أن تلفت أنظار الكتاب والشعراء، وتحتل مكانة خاصة في سوق النشر.. يقول فارس: «خوض تجربة النشر كانت حالة من الهروب إلى حلم قديم، لم يحتمل رأسي التقلبات العنيفة بعد الثورة، فاخترت زاويتي، كنت أحلم بأن أكون صانعا للكتاب، أعرف أنواع الأوراق وروائحها، وأدركها بلمسة صغيرة من أصابعي.. وأظنني اقتربت من الحلم بعد ما يقرب من مائتي عنوان، وإهدار عامين ونصف، بلا عائد مادي تقريبا، وبكثير من المحبة والتشجيع ممن يرصدون كل خطوة في الطريق الثقافي».

ويبلور فارس رؤيته لعملية النشر في الدار متابعا بقوله: «دور النشر الصغيرة تفتح مجالا واسعا أمام الكتابات الجديدة الشابة، لأن سقف حرياتها أعلى من تلك الدور الكبرى المرتبطة مع مؤسسات الدولة بعلاقات متشابكة، كما أنها، وإن كانت مهضومة الحقوق، فلا تحصل على عائدات البيع من معظم المكتبات ومنافذ التوزيع التي تمارس دور (البلطجى)، فإنها أحدثت حراكا باختياراتها النوعية الدقيقة لما تنشر وأجبرت الكثير من دور النشر الكبرى على إجراء تعاقدات مع بعض الكتاب الشبان، بعد أن كانت تدور في فلك أسماء بعينها».

و بنبرة لا تخلو من مسحة شجن يتابع فارس، وهو رئيس تحرير مجلة «الشعر»، إن «أقصى ما يمكن أن تفعله دار نشر صغيرة لمبدع أن تعد له عدة حفلات لتوقيع ديوانه، فليس لدينا الناشر القادر على صناعة نجم أدبي وتسويقه، ويبقى الرهان الأول والأخير لأي دار صغيرة هو تقديم كتاب مختلف في جوهره عما تقذفه المطابع العامة في وجوه القراء ليل نهار.

ويأسف فارس على واقع الحال الذي تعمل فيه هذه المؤسسات الوليدة، مطالبا في الوقت نفسه مؤسسات الدولة القادرة على تقديم الدعم لها، أسوة بما «تقدمه طائعة للدور الكبرى، كنوع من تبادل المصالح، بينما تجاهد الدور الصغرى لكي تظل على قيد الحياة».

ويؤمن معظم أصحاب دور النشر المبدعين بأن النشر رسالة، تساهم في تنمية الوعي الثقافي والمعرفي بشكل حضاري مستنير، ويرفضون فكرة الناشر التاجر الذي كل ما يهمه في مقاييس النشر تلبية متطلبات السوق، بصرف النظر عن المحتوى أو المضمون الذي يقدمه الكتاب، وهو العامل الفيصل الذي يحكم عملية النشر لديهم، حسبما يقولون.

من هؤلاء الروائي والمترجم ياسر شعبان صاحب دار «نوافذ»، مشيرا إلى أن انبطاح وزارة الثقافة في مواجهة التيارات الدينية المتشددة ساهم في تردي وتراجع عملية النشر في المؤسسات الحكومية، وهو ما حدث إبّان «أزمة الروايات الـ3» الشهيرة التي تم مصادرتها قبل سنوات بعد صدورها من الهيئة العامة لقصور الثقافة، رضوخا لمطالب هذه التيارات، وكانت روايته «أبناء الخطأ الرومانسي» ضمن هذه الروايات.

ويشير ياسر إلى «افتقار مؤسسات الدولة المعنية بالنشر إلى خطة عملية ذات سياق ومتطلبات وأهداف محددة، تستهدف التراكم المعرفي النوعي وليس الكمي في النهوض بالثقافة، وفي الوقت نفسه تستعين بالمواهب والكفاءات، بعيدا عن التكريس للشللية والمحسوبية».

في الخندق نفسه يقف الشاعر الجميلي أحمد صاحب دار «وعد» ويؤكد أنه لم يفتح دار النشر الخاصة به لنفسه فحسب، هربا من عبودية القطاع الخاص أو طوابير النشر في القطاع العام، وإنما لديه رسالة يؤمن بها، ويسعى لأن تكون الدار تجسيدا حيا لهذه الرسالة، ويناشد الناشرين الجدد من المبدعين بضرورة الإلمام بآليات النشر والإدارة واختيار نوعية الكتب، حتى يضيفوا لعملية النشر، ولا يضروا بسمعته، أو يصبحوا عالة عليه.

ويؤكد الروائي إبراهيم عبد المجيد صاحب دار «بيت الياسمين»، أن السبب الذي دفعه إلى إنشائها أنه لاحظ وجود الكثير من المواهب الشابة، المتواجدة بكثرة سواء في الحياة العامة أو على شبكة الإنترنت، تحتاج إلى من يتبناها وينشر إبداعاتها لجودة الإنتاج الأدبي الذي تقدمه. إلى جانب أنه يمتلك الآن الكثير من الوقت الذي لا يفعل فيه شيئا لعدم امتلاكه وظيفة تشغل وقته بالإضافة إلى أن ابنه شجعه على الفكرة من خلال تواجده معه مصمم أغلفة، معتمدا على خبرته السابقة في أقسام التنفيذ في مجموعة من الصحف المصرية.

لكن السؤال يظل قائما حول هذه المغامرة الجديدة، قياسا على تغير الظروف الموضوعية في الواقع الثقافي والمجتمع، وتوسع النشر الحكومي والخاص.. البعض يشير إلى أنها ظاهرة فردية، تقوم على أموال المبدعين، وتتبع آليات دور النشر الأخرى نفسها دون جديد، والبعض الآخر، يرى أن اهتمام دور النشر هذه بمعيار الكم، سينعكس على آليات النشر الحكومي ودور نشر خاصة كبرى، لحساب القيمة والجودة.