رحلات: من أميركا الشمالية إلى جبال الهيمالايا.. اختلاف الشجاعة والرغبة في الاستكشاف

ستاينبك وهمبلمان ـ آدمز في كتابين من أدب الرحلات

TT

كتابان يندرجان في باب أدب الرحلات صدرا في هذا العام (2014) يتضمنان عناصر من السيرة الذاتية، ويكشفان عن جوانب من حياة مؤلفيهما وتوجهاتهما الفكرية والوجدانية ما كانت لتتسنى لنا بغير الاطلاع عليهما.

الكتاب الأول عنوانه: «في أميركا: أسفار مع جون ستاينبك In America: Travels with John Steinbeck» من تأليف جيرت ماك (Geert Mac)، صدر عن دار «هارفيل سيكر Harvel Secker» للنشر، كما صدرت منه طبعة إلكترونية.

ولهذا الكتاب قصة، حيث إنه «كلام على كلام» كما يقول الأقدمون، فهناك كتاب للروائي الأميركي جون ستاينبك - الحاصل على جائزة نوبل للأدب في 1962 - عنوانه «أسفار مع تشارلي». وتشارلي اسم كلب من فصيلة البودل كان الروائي يقتنيه وقد اصطحبه معه في رحلته. صدر كتاب ستاينبك في 1960 (أي منذ أكثر من نصف قرن) وهو يطرح هذا السؤال: «ترى كيف يبدو الأميركيون اليوم؟»، وخرج عابرا القارة في محاولة للإجابة عن هذا السؤال. كان آنذاك في الثامنة والخمسين من عمره، بدأت صحته تتدهور كما أخذت قدراته الإبداعية تضمحل (ربما كان «أسفار مع تشارلي» هو آخر كتاب مهم له). لقد شعر بأنه في هذه المرحلة العمرية قد فقد الاتصال بتربة وطنه التي ألهمته في الماضي خير رواياته وأقاصيصه. وقد نجح كتابه، بل غدا من أكثر الكتب مبيعا، وهو ما زال يقرأ حتى اليوم ويثير اهتمام أجيال جديدة من القراء، منهم جيرت ماك.

وماك صحافي ومؤرخ قرر أن يسير في أعقاب ستاينبك وأن يتتبع مراحل رحلته، خطوة خطوة، ليرى أميركا «بعيون اليوم وآذانه». إنه هولندي ولكن أميركا ظلت دائما «حبه السري» كما يقول منذ عام 1978 حين سافر إلى بركلي بولاية كاليفورنيا فاحتضنه زوجان أميركيان وحبباه في البلد. ثم عاد إلى أميركا مرة أخرى في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته مخبرا صحافيا يغطي كل ما تقع عليه عيناه ابتداء من الانتخابات الرئاسية حتى الحرب على تجارة المخدرات.

وماك - بوصفه هولنديا - يعد نفسه قادما من العالم القديم (أوروبا) إلى العالم الجديد. إنه امتداد للمؤرخ الفرنسي ألكسيس دي توكفيل الذي زار أميركا في ثلاثينات القرن التاسع عشر وكتب عنها كتابا أصبح الآن من الكلاسيات عنوانه «عن الديمقراطية في أميركا» (1835 - 1840) ولكن ماك يشعر بالتهيب ويسأل نفسه: ما الذي يمكن أن أضيفه إلى ما قاله ستاينبك؟

والإجابة: لقد أضاف كتابه هذا المؤلف من 500 صفحة على حين أن كتاب ستاينبك لم يكن يتجاوز 210 صفحات. فهل تراه (كما يقول مايكل كر في مقالة له عن الكتاب) قد نسي قول ستاينبك إن إطار سيارته الخلفي قد انفجر لأنه أثقل السيارة بحمولة زائدة؟

استخدم ستاينبك في رحلته شاحنة خضراء اللون سماها «روزنانتي» (وهو اسم جواد دون كيشوت!) مصطحبا كلبه تشارلي. أما ماك فقد سافر بسيارة جيب فضية اللون مصطحبا زوجته ميتسي، وذلك على الرغم من نصيحة ستاينبك القائلة إن وجود «شخصين أو أكثر يزعج التوازن البيئي (الإيكولوجي) لأي منطقة» (تجاهل ستاينبك ذاته نصيحته هذه، فمع أنه يصور نفسه في كتابه في صورة المسافر الوحيد، المشتاق إلى بيته وزوجته، فإنه في الواقع قد اصطحب زوجته إلين على الأقل لأكثر من نصف مدة رحلته التي استغرقت شهرين ونصف شهر).

وفي الفترة التي أعقبت صدور كتاب ستاينبك تعرض لكثير من الانتقادات. ذهب نقاده إلى أنه لم يكن صادقا في رواية الأحداث التي مر بها وإنما خلع عليها ثوبا مثيرا من الخيال ليجعلها أكثر تشويقا، ومن ثم لا يمكن الاعتماد على كتابه بوصفه وثيقة لمرحلة تاريخية بعينها وإنما هو أقرب إلى الأدب الإبداعي. إن بعض القصص التي يرويها أجود من أن تصدق، وردوده التي يفحم بها خصومه أبرع من أن تكون من وحي اللحظة. على أن ماك يصف كتاب ستاينبك بأنه «مليء بالألوان وأصوات البشر، ذو فطنة وخفة في الحركة». وقد سبق ستاينبك عصره في حفاوته بالتوازن البيئي والمحافظة على الطبيعة (كان دارسا لعلم الأحياء) ومن ثم فإن كتابه ما زال ذا قيمة وإن كان من اللازم تناول ما يقوله بحرص.

ننتقل الآن إلى الكتاب الثاني في قائمتنا، وهو ليس لمؤلف مشهور شهرة ستاينبك، لكنه رحالة ومستكشف كان على قدر عظيم من الشجاعة وقوة الاحتمال. إنه كتاب «لا شيء اسمه الفشل» أو «ما من معلم كالفشل»، فالعنوان الإنجليزي يحتمل المعنيين، أو ربما أراد المؤلف به - عن طريق المفارقة - أن يجمع بين المعنيين. وعنوانه الفرعي «الحياة غير العادية لمغامر بريطاني عظيم» (No Such Thing as Failure: The Extraordinary Life of a Great British Adventurer)، من تأليف ديفيد همبلمان - آدامز (David Hempelman - Adams)، وهو صادر عن دار «كونستابل» (Constable) للنشر.

يقول المؤلف: «ليس الموت بالأمر الغريب على مستكشف للقطب الشمالي ومتسلق للجبال. وخلال حياة رحلت فيها بمفردي إلى كلا القطبين وإلى قمة أعلى الجبل، دنوت على نحو مروع من الموت مرات أكثر عددا من أن أستطيع أن أحصيها». لقد كاد - في إحدى المرات - يدفن تحت انهيار جليدي. وفي مرة ثانية قاتل دبا قطبيا جائعا وقتله. وفي مرة ثالثة وجد نفسه معزولا على قشرة نحيلة من الجليد فوق شق ثلجي لا قاع له بالقطب الجنوبي.

وعلى الجانب المقابل حملته أسفاره إلى وسط آسيا فرأى الموت رأي العين وهو في خيمة، يرتعد من البرد ويهلوس - تحت قمة جبل إفرست، أعلى قمم جبال الهيمالايا - ولكن الموت غض الطرف عنه في آخر لحظة. كان ديفيد في الرابعة والخمسين حين وصل - للمرة الثانية - إلى قمة أعلى جبل في كرتنا الأرضية، وذلك في نحو الساعة الثامنة من صباح 21 مايو (أيار) 2011، وكان صباحا هادئا، برودته منعشة، وشمسه مشرقة. على أن نشوته لم تدم طويلا، فحين بدأ الهبوط عن قمة الجبل - وكان معه مرافقون هذه المرة - بدأ الجفاف يتهدد بدنه، ولم يكن قد احتسى شرابا غير فنجان صغير من الشاي قبل ذلك بـ24 ساعة. أصبح يلهث طلبا للماء، ولم يكن لديهم قطرة واحدة منه، فقد استهلكوا كل ما كان لديهم من طعام وشراب في رحلة الصعود. ثقلت ساقاه وأصبح يجاهد من أجل التنفس، وكان البرد قارسا حتى إن جثث المتسلقين التي كانوا يمرون بها - والذين لقوا حتفهم في رحلات سابقة - ظلت مجمدة ومحتفظة بشكلها الآدمي في قلب الجليد، رغم أن بعضها قد مرت عليه سنوات. ولم يكن ثمة سبيل لدفن هذه الجثث أو نقلها من مكانها في الجبل.

ومن قمة إفرست ينتقل بنا ديفيد في كتابه إلى القطب الشمالي حيث قابل، مرة أخرى، الموت وجها لوجه. ففي فبراير (شباط) 1984 خرج إلى أرخبيل القطب الشمالي في كندا وشرع ينقل خطاه، بمفرده، على جليد المحيط المتجمد الشمالي. كان ذلك أبرد فصل في العام، حيث درجة الحرارة تنزل عن 40 مئوية تحت الصفر، ولكنه اختار القيام برحلته في ذلك الفصل حتى يتجنب انسياق كتل الجليد الطافية على سطح الماء ومساحات الماء المفتوح التي تترتب على ذوبان الجليد إذا كان الجو أكثر دفئا. ودامت رحلته هذه 3 أسابيع.

وفي الليلة الثامنة من ليالي رحلته نصب خيمته في جزيرة كورنواليس. ونحو الثانية صباحا صحا على صوت الرياح المزمجرة في الخارج، وعلى صوت آخر، صوت مخالب تعبث بقماش الخيمة، أعقبها أنف نفذت من فتحتها. لقد كان ذلك دبا قطبيا جائعا. أمسك ديفيد ببندقيته وصرخ آملا أن تفزع الصرخة الدب فيبتعد، ثم أطلق طلقة في الهواء ليحمله على الابتعاد. وخرج من خيمته وفي يده البندقية فوجد - من خلال الظلمة - الدب ما زال واقفا لا يفصله عنه سوى 25 ياردة تقريبا، يحدق إليه. وأطلق طلقة تحذيرية أخرى في الجليد، فبدا الدب وكأنه حائر لم يحزم أمره بعد. بدأ يتحول مبتعدا عن مجال بصره، ثم إذا به يستدير فجأة وينقض على الرحالة. وكان هذا الأخير يعرف ما يجب عليه عمله في مواجهة دب قطبي: أن يوجه طلقته إلى الموضع الصحيح بالضبط، وأن يتنفس ببطء ثم يزفر الهواء وهو يضغط على الزناد، وأن يصوب إلى بدن الدب لا إلى رأسه، حيث إن الرصاصة يمكن بسهولة أن ترتد ساقطة حين ترتطم بالجمجمة الصلبة.

هنا اندفع الدب نحوه خببا فتطايرت من ذهنه كل الإرشادات السابقة. صرخ يسب الدب سبابا قبيحا وأطلق نحوه دفعة من الطلقات، أصابته على بعد عشرين ياردة تقريبا فتوقف عن الجري لحظة ثم استأنف التقدم نحوه وهو يتمايل تمايلا خفيفا قبل أن يسقط على الأرض فعاجله ديفيد بطلقتين أخريين. وكأنما أراد أن يستوثق من زوال الخطر فدنا منه وأفرغ 5 رصاصات أخرى في البدن الميت. وعاد إلى خيمته ولكنه ظل متخوفا من أن يكون ثمة دببة أخرى. وظل مستيقظا ساعة أخرى إلى أن عاودته رباطة جأشه. كان آسفا لأنه اضطر إلى قتل هذا الحيوان الرائع - على ضراوته - والمهدد بالانقراض، ولكن لم يكن من ذلك بُد.

وإزاء هذين الكتابين يتساءل المرء: أيهما أجدر بالإعجاب، ستاينبك أم همبلمان - آدامز؟ أم ماك الذي كرر رحلة ستاينبك من منظور جديد؟ عندي أن كلا منهم يمثل نمطا مختلفا من الشجاعة والرغبة في الاستكشاف. ستاينبك هو الأديب التواق إلى معرفة بلاده معرفة حميمة. وماك هو الباحث المدقق الذي أراد أن يستوثق من خبرة سابقة. وهمبلمان - آدامز هو رجل الفعل الشجاع المغامر. إن الإنسانية بحاجة إلى كل هذه الأنماط من الرجال، فهم يتكاملون ولا يتعارضون.