جدل وسط مثقفين أميركيين: ثقافة الإنترنت.. بناء أم تدمير إبداعي؟

مؤسسات عريقة بدأت بالانهيار وأخرى تنتظر

TT

ليس جديدا الجدل حول تأثير الإنترنت على الثقافة. لكن له طابعا خاصا وسط المثقفين الأميركيين، وذلك بسبب دور شركات أميركية عملاقة (مثل: «غوغل» و«فيسبوك» و«مايكروسوفت») في تأسيس الإنترنت، وفي تطويره: وبسبب قلق مثقفين أميركيين على مستقبل الثقافة الأميركية، التي يرونها رائدة للثقافات العالمية.

في الفترة الأخيرة، كتب د. بول ديماغيو، أستاذ علم الاجتماع بجامعة برنستون، وخريج جامعة هارفارد، ومدير مركز دراسات المؤسسات الاجتماعية، ما يلي: «الإنترنت إصلاحي وتخريبي بالنسبة للثقافة الأميركية: في جانب، إصلاحي لأنه يوفر معلومات أكثر، ويوفر طرق اتصالات ومناقشات أكثر. وفي جانب، تخريبي لأنه قلب الموازين القديمة، خاصة بالنسبة لإسهامات الفنون، والآداب، والصحف».

وسمى رأيه هذا «كرييتيف دستركشن» (تدمير إبداعي).

وسريعا، تلقف الموضوع مثقفون في جامعات أخرى، منها: هارفارد، وييل، و«أم إي تي» (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا).

من بين هؤلاء: د. ديفيد سيلفار، أستاذ الإعلام في جامعة سان فرانسيسكو، الذي كتب: «ليس هذا أول نقاش حول تأثير الإنترنت على ثقافتنا. بدأ هذا النقاش منذ أكثر من 30 عاما، وحتى قبل ظهور الكومبيوتر الشخصي، عندما كان البنتاغون وشركات كبيرة هي فقط التي تستخدم الكومبيوتر».

وقسم سيلفار ثقافة الإنترنت إلى 3 أقسام:

أولا: ثقافة شعبية، بدأت بتأسيس مواقع في الإنترنت لصحف كبيرة، وانتقلت المناقشات الثقافية فيها إلى الإنترنت. واشترك عامة الناس في هذه المناقشات. وثانيا: ثقافة أكاديمية، بدأت عندما أسست جامعات ومؤسسات أكاديمية مواقع في الإنترنت لمثقفين مهنيين. لكن، هذه «دراسات» أكثر منها «مناقشات».

ثالثا، ثقافة نقدية، تعالج هذه كل جوانب الإنترنت: الرقمية، والرقابة، والأمن، والحرية، والإبداع، والفردية، إلخ...

واشترك في النقاش، أيضا، د. جون تاليماديو، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا (لوس أنجليس). وعاد إلى أساس كلمة «ثقافة الإنترنت». وقال إن أول من استعملها كان أستاذا جامعيا وهو الآن هيلتون، الذي كتب في عام 1963: «سنصل لثقافة الإنترنت عندما تحرث المحاريث من تلقاء أنفسها، وعندما يطير الدجاج المطبوخ من الصحون أمامنا». وكتب تاليماديو نفسه: «ليست ثقافة الإنترنت نتاج الكومبيوتر. إنها هي التي تستعمل الكومبيوتر».

لهذا، قدم تفسيرا عاما يشمل نشاطات مثل: «جات رومز» (غرف النقاش)، «فيرشوال ويرلدز» (عوالم خيالية)، «بوليتين بورد» (لوحات الأخبار)، «سوشيال نيتويركز» (شبكات التواصل الاجتماعي).

ويجادل د. ديماغيو، الأستاذ في جامعة برنستون، بأن تأثير الإنترنت يختلف حسب النشاطات الثقافية. ويقسم هذه إلى 3 أقسام:

أولا: لم يغير الإنترنت ثقافة المسارح، والباليه، والأوركسترا؛ وذلك لأن هذه نشاطات بشرية لا بد من ناس يقومون بها. (لأن الكومبيوتر لا يقدر على التمثيل). ثانيا، غير الإنترنت قليلا ثقافة المتاحف والمعارض، وذلك لأن بعضها أسس مواقع في الإنترنت تكاد تحل محل المتاحف والمعارض نفسها. لكنها، في الوقت نفسه، لا يمكن أن تكون بديلا منها، وثالثا، غيّر كثيرا ثقافة الإعلام والسينما والتلفزيون، وذلك لأن الشركات التي تعمل في هذا المجال تقدر على توفير إنتاجها، ليس فقط ورقيا، وفي دور السينما، وفي شاشات التلفزيون، ولكن، أيضا، في الكومبيوتر (أو آيباد، أو آيفون) الخاص لكل شخص.

وعاد د. ديماغيو إلى عبارة «كرييتيف ديستركشان» (تدمير أبداعي)، التي بدأ بها رأيه، وهو دور الإنترنت في هذه الحالات الأخيرة (خاصة بداية انهيار صناعة الصحف الورقية، وبداية انهيار دور السينما)، وقال الذي حل محل هذه المؤسسات التقليدية يمكن أن يكون هو الأفضل.

وقال: «إذا نظرنا إلى الإحصاءات عن الصناعات الإبداعية في الولايات المتحدة، نرى أنها لم تنهر، أو في طريقها إلى الانهيار. لهذا، يجب علينا التشكيك في الاعتقاد السائد بأن الإنترنت دمر هذه الصناعات الإبداعية. بالعكس، أعتقد أن النظام الإبداعي يظل يزدهر في عصر الإنترنت. نعم، تواجه الشركات المهيمنة تاريخيا على نشاطات ثقافية تحديات خطيرة. لكن، يستمر الازدهار الثقافي».

وأضاف: «تختلف شركات نشر الثقافة في تاريخها، وفي علاقتها بالإنترنت، وفي قدرتها على التأقلم عليه». وقسمها كالآتي:

أولا، شركات الثقافة السينمائية التي تعتمد على مشاريع فردية (أفلام، من وقت لآخر). ولهذا، تستطيع التوصل إلى اتفاقيات مع الموزعين في الإنترنت. وفي الوقت نفسه، تواصل نشاطاتها في دور السينما، مع أضرار طفيفة. وثانيا، شركات الثقافة الموسيقية، التي ازدهرت مع انتشار التحميل غير المشروع، والتحول في السوق من بيع ألبومات وأقراص إلى موسيقى مباشرة عبر الإنترنت، فانقلب الوضع، وتأثرت شركات كبيرة. في الجانب الآخر، زاد الإنترنت انتشار الموسيقى الحية (المباشرة). وثالثا، تراجع شركات تعمل في الثقافة الصحافية الورقية منذ ظهور شبكة الإنترنت، إذ صارت تواجه مستقبلا صعبا بشكل خاص، نظرا إلى عزوف القراء عن شراء منتجاتها عندما يقدرون على الحصول على الكثير منها قانونيا، من مواقعها، أو مواقع أخرى.

وأخيرا، فإن الشركات التي تدافع عن الملكية الفردية تظل تضغط على الحكومات، في الولايات المتحدة وغيرها، لوضع قوانين صارمة تحمى الملكية الفردية، وقد حققت نجاحات كبيرة. لكن، ليس هذا سوى جزء واحد من التوزيع الثقافي. في المدى الطويل، ومع مزيد من تغير هيكل شبكة الإنترنت نفسها، ومع نتائج المناقشات حول حقوق وواجبات المنتجين والمبدعين، يمكن أن يتأثر موضوع الملكية الفردية.

ويبقى السؤال: هل نستفيد من زيادة التنوع الثقافي بسبب الإنترنت؟