معركة فيلم «المقابلة» مع كوريا الشمالية تتفاقم

«سوني» تلقي الكرة في ملعب صالات العرض.. وأوباما يعتبرها أخطأت بسحب الفيلم

«المقابلة»: الديكتاتور في الصورة - من الفيلم المقرصن «آني»
TT

«القائدة كيم تطير» و«أبدع عاليا» و«أبطال مجهولون» و«قائد أعلى في قَـدَرنا» و«هم مقاتلون عاديون» هي بعض عناوين أفلام كورية شمالية مُنتَجة في السنوات القليلة الماضية. تحمل كلماتها حبا في الصدام وتعميق الشعور العاطفي ذي المنوال الساذج. بعض العناوين الأخرى يحمل على الأعداء مباشرة «بروباغاندا»، وبعضها الآخر يحمل ذلك المنوال الساذج («طائرات الورق تطير في السماء»، إذا ما كان لديك شك).

هذه أفلام متـفق عليها. يؤمها الرقباء، وتُكتب في غرف النوم، وحين تُقدم لنيل الرخصة ثم وهي تصور حيث يحضر رقيبان يمضيان الوقت في متابعة التصوير وشرب القهوة والشاي وأكل الساندويتشات، ثم بعد انتهاء الفيلم، وحتى لما بعد عرضه. خلال العرض، يقولون لك: «هناك من يفتح عينيه على المشاهد لكي يرقب ردات فعله حيال النبرة الصوتية التي تحيي الوطن والقائد. وهل ابتسم أو عبس».

كل هذه الأفلام تُطلق كل عام منذ عقود. الحال السينمائي راكد ولا يتغير، لكن هناك فيلما واحدا هز الركود، فيلما ليس من إنتاج كوري شمالي وصاحبه الآن في السجن ألإنفرادي، ولا حتى من إنتاج الجارة العدو كوريا الجنوبية، بل من إنتاج أميركي قامت به شركة «سوني»، تحت عنوان «المقابلة». كتبه دان سترلينغ (وشارك في تأليف قصته مع أحد بطليه سث روغن) في مطلع عام 2013. في نهاية خريف العام ذاته وضعته «سوني» في عجلة الإنتاج. في الـ14 من أكتوبر (تشرين الأول) بوشر بتصويره ليدخل مرحلة ما بعد التصوير في الخامس من فبراير (شباط) هذه السنة. العمل عليه انتهى في العاشر من سبتمبر (أيلول) 2014. العرض حُدد بتاريخ 16 الشهر الحالي.

لقد اتضح أن كوريا الشمالية التي كانت هاجمت الفيلم أول ما عرفت به كونه يحكي قصة صحافيين تلفزيونيين (روغن وجيمس فرانكو) يصلان إلى كوريا الشمالية لإجراء مقابلة مع الديكتاتور كيم يونغ - أون (يؤديه الكوري الجنوبي راندال بارك) واغتياله خلال ذلك بطلب من المخابرات الأميركية. طريقة الاغتيال بسيطة: لصقة تحمل سمـا تُوضع على كف أحدهما (فرانكو)، وعند مصافحة الرئيس الكوري تبث اللصقة سما قاتلا. في البداية لم يكن هدف هذين الإعلاميين سوى إجراء المقابلة. عندما التقت بهما مسؤولة في المخابرات المركزية طلبت منهما أن يعدماه. استخدمت عبارة Take him out وهما يفهمان العبارة معكوسة. يعتقدان أنها تسألهما دعوة الديكتاتور إلى العشاء؛ حين يفهمان المطلوب يوافقان، وبعد ذلك هناك سلسلة من المواقف؛ إذ إن دخول الفرن الساخن ليس كالخروج منه بسلام.

* صالات السينما لا تريده لكن كيم جونغ - أون رئيس دولة، وكبرياءه تدخـلت سريعا لشجب الفيلم ووصفه بـ«حالة حرب». هذا من رئيس أمر كل رجال شعبه بقص شعر رأسه بالطريقة ذاتها التي يهواها لنفسه، وذلك بينما كان فرانكو وروغان يمثـلان ما كان عليه أن لا يكون أكثر من فيلم ساخر وعابر لن يصدقه أحد. عندما اقترب موعد إطلاق الفيلم تجاريا، أطلق الديكتاتور صاروخا باتجاه شركة «سوني» وأصابها في معقل؛ تسلل خبراء عملوا لحسابه إلى ملفـات الشركة ونقـبوا فيها ونشروا أسرارها على الملأ كما جاء في «الشرق الأوسط» التي كانت أول صحيفة عربية تتناول هذه الواقعة.

في البداية، ارتاب معظمنا (إن لم يكن كلنا) بأن يكون هناك بين الكوريين الشماليين من يمتلك القدرة التقنية الفائقة لعمل إلكتروني بالغ الصعوبة يقوم على هدم جدر المواقع الرئيسية كلها لشركة «سوني»، منتجة الفيلم، بكل شيفراتها وحواجزها الأمنية وفتح كل تلك الملفـات التي كانت عصيـة وسرية حتى على الكثيرين من موظـفي الشركة أنفسهم. فما هو طي كتمان قسم الحسابات ليس في متناول موظفي قسم التوزيع وهؤلاء محصـنون ضد الأقسام الأخرى، ناهيك عن القسم الإداري الأول، ذلك الذي بمثابة رأس الهرم بالنسبة للشركة، والذي قلـة محدودة ممن فيه تملك وسائل فتح الشيفرات السرية لمختلف الأقسام. عندما تأكد للمسؤولين الرسميين («إف بي آي» و«سي آي إيه») أن كوريا الشمالية وقفت وراء هذه العملية اعتبروا أن ذلك نوع من إعلان حرب. طبعا لن تؤدي إلى حرب فعلية، لكن الضربة الإلكترونية كانت فادحة.

المأزق هو أن «سوني» قررت أن تلغي عرض الفيلم تماما (تكلـف 44 مليون دولار، ونحو نصفها على شغل الترويج). قبلها سارعت صالات السينما المختلفة للإعلان أنها لا ترغب في عرض الفيلم. ليست صالات فردية، بل غالبية الشركات التي تملك كل منها مئات وربما ألوف الصالات، مثل AMC Entertainment وCinemark وRegal.

هنا تأكد لإدارة «سوني» أنها لن تجني شيئا من عرض الفيلم سوى المزيد من الخسائر المعنوية والمادية. نعم، قد يقبل الناس على مشاهدته بحجم كبير، لكنه بات فيلما معطوبا قد يتسبب عرضه في المزيد من عمليات القرصنة الإلكترونية لا عليها فقط بل على استوديوهات هوليوود الأخرى.

* الكرة في الملعب الآخر الورطة الحقيقية في سحب الفيلم من العروض أنه إذعان لدولة خارجية. ليس لدولة حليفة (وإن كان ذلك غير مقبول في المبدأ أيضا) بل دولة عدو. الرئيس الأميركي انتقد الاستوديو الكبير لسحبه الفيلم من التداول. الممثل شون بن كتب قائلا: «سحب الفيلم هو فوز لـ(داعش)، على اعتبار أنه إذعان سيعرض أميركا لأخطار مماثلة في المستقبل».

لكن «سوني» قد تكون على حق من نواحٍ لا يدركها سوى المدققون. في الأساس، رفض شركات صالات السينما عرض الفيلم لم يترك لـ«سوني» أي خيار فعـال. أمر يقارب تكميم الفم قبل الأكل أو خلع أنيابه وأضراسه. صحيح أن هناك خيارات أخرى متعددة، مثل إطلاقه عبر شركات العرض الإلكتروني المباشر مقابل مبلغ مالي، إلا أنها خيارات محدودة تقدم عليها هوليوود بعد حين من استيفاء الأفلام القابلة للرواج من عروضها السينمائية، أو إذا ما كان الفيلم لا أمل له بعرض ناجح. أكثر من ذلك، أن «سوني» لا بد لها أن تتفادى المواجهة الطويلة. لديها مستقبل تدافع عنه. مصالح تجارية تقدر بمليارات الدولارات في هيئة أفلام مكلفة تخشى أن تقرصن مستقبلا، إذا ما أمعنت في الموقف الداعي لعرض الفيلم. كما هو الحال، خسرت شهر الميلاد ورأس السنة بعدما تم السطو على أحد أهم أفلام الموسم للمناسبة، وهو الفيلم الاستعراضي «آني» الذي بات متوفرا الآن على كل المواقع الإلكترونية بنسخة عرض ممتازة.

أما في نطاق الرد على الرئيس أوباما، قالت «سوني» في مذكرة رسمية: «قرار سحب (المقابلة) من العرض كان نتيجة أن غالبية أصحاب دور العرض اختاروا أن لا يعرضوه. هذا كان قرارهم هم».

على واقعية هذا الرد وصحـته، فإنه يضع «سوني» أمام مشكلة أخرى، إذ هي تلقي، بذلك، الكرة في ملعب أصحاب صالات العرض الذين رفضوا قبول الفيلم على شاشاتهم. فجأة تجد جمعية «أصحاب دور العرض الأميركية» نفسها وقد أصبحت هي المتهمة بالتنازل عن المبدأ وبالإذعان لسلطة غير أميركية عوض تحديها. وفي آخر المستجدات، أن «سوني»، ممثلة برئيستها آمي باسكال، استأجرت خدمات مؤسسة تديرها جودي سميث المتخصصة في «إدارة الأزمات»، وذلك للأخذ بيد الشركة في هذه المرحلة. كل هذا، وهناك في كوريا الشمالية زعيم يضحك طربا لما استطاع إنجازه. صحيح أن أحدا لم يقدم الدليل بعد على تورطه ودولته ولا أعلنت كوريا الشمالية مسؤوليتها أو مدت بلسان الشماتة، لكن ما حدث يغبط القصر الجمهوري هناك، في حين يكشف لنا هشاشة العصر الإلكتروني الذي نحن فيه، ويؤكد أن للحروب أشكالا كثيرة، وهذا من أكثرها تأثيرا كونه يتعامل واقتصاديات العالم الحر.