ترجمتان عربية وفرنسية لكتاب احتفى فيه غويتسولو بـ«مصارعة الزيت» التركية

«قوي مثل تركي».. حين يصبح فعل الرياضة أدبا وفنا

الكاتب الإسباني خوان غويتسولو جالسا في أحد المقاهي المحيطة بساحة جامع الفنا
TT

بمناسبة صدور الترجمتين العربية والفرنسية لكتابه «قوي مثل تركي»، حل خوان غويتسولو، أحد أبرز كتاب اللغة الإسبانية في العصر الحاضر، ضيفا، يوم الخميس الماضي، على معهد سرفانتيس الإسباني والمعهد الفرنسي بمراكش في لقاء أدبي.

و»قوي مثل تركي» هو روبورتاج روائي، يحتفي فيه غويتسولو بفن مصارعة «الزيت» التركية، راصدا ومدونا ما رأت عيناه. ولم يكن لمضامين الكتاب إلا أن تختصر جانبا من شخصية كاتبها، الذي سبق أن قال عن تجربته في الأدب وفي الحياة: «حاولت أن أجعل المغامرة أساس كتاباتي، وعشت أكثر حياتي خارج إسبانيا، فكان أن عشت بلادي ولغتي في بلدان ولغات الآخرين، ولذلك رأيت بلادي بطريقة مختلفة».

وكانت مضامين الكتاب قد نشرت على حلقات في جريدة «الباييس» الإسبانية سنة 1985، قبل أن تصدر في كتاب في 1998.

ويكتشف القارئ، في مؤلف الكاتب الإسباني، كيف يصبح فعل الرياضة أدبا وفنا؛ حيث يتصارع الأبطال بعد أن يدهنوا أبدانهم بالزيت، ويقدم الراوي، أثناء تنقله في المكان، وصفا شعريا للمكان والناس هناك؛ إذ لم يترك للعين، بعد أن وصل إلى مدينة «أدرنة» التركية حيث تقام مباريات مصارعة «الزيت» كل عام، إلا أن تقتفي آثار الأشياء والتفاصيل، كأنها كاميرا تصور المشهد.

هكذا، يحتفي الكاتب في كتابه برياضة شعبية عريقة، تمتد جذورها في تاريخ القرن الرابع عشر، كتراث عريق توارثه الأتراك عن أجدادهم منذ أزيد من 6 قرون، حين كانوا لا يزوجون بناتهم لرجل لا يجيد ركوب الخيل والمصارعة.

وينقل عدد من المصادر التاريخية أن 40 محاربا من جند السلطان سليمان باشا نظموا، خلال استراحة للمحاربين، مسابقة في المصارعة، تواجه خلالها متصارعان طوال النهار واستمر التحامهما حتى الليل، تحت ضوء القناديل الزيتية والشموع، من دون أن يسفر تصارعهما على فوز أي منهما، حتى خارت قواهما وماتا متلاحمين، ليتم دفنهما من طرف رفاقهما تحت شجرة تين، ثم ذهبوا للقتال. وفي طريق عودتهم سيجدون 40 نبعا قد انبثقت من مكان دفنهما، ليطلق الأهالي على المنطقة اسم «قيرق بينار»، وتعني 40 نبعا.

وينظم في مدينة «أدرنة» التركية، بشكل دوري، مهرجان مصارعة «الزيت» التركية، وهي رياضة تستلزم جسارة ورشاقة، كما تستدعي قوة ومهارة، وقدرة على الصمود، وهي تبدأ بصلاة ودعاء، وتفرض قواعد اللعب على المصارعين ارتداء سروال من جلد الجاموس ودهن سائر الجسد مع السروال بالزيت؛ مما يجعل الإمساك بالمنافس وتثبيته مهمة في غاية المشقة والعناء، وتنتهي المباراة مع لمس ظهر أحد المتنافسين للأرض، وتبيح قواعد اللعبة للمصارع أن يشد غريمه من كامل جسمه وحتى من تحت الحزام، وتجري المباريات فوق أرض جافة أو معشوشبة، ويكون ذلك، غالبا، في شهري أبريل (نيسان) وسبتمبر (أيلول). وأدرجت منظمة اليونسكو «مهرجان مصارعة الزيت التركية» عام 2010 على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية.

وتبرز صور الفنانة الفوتوغرافية الإسبانية الشهيرة إيزابيل مينوز، الموجودة في كتاب غويتسولو، مصارعين بالأبيض والأسود. وتحتفي مينوز في أعمالها بالإنسان، لذلك صورت أجزاء الجسم والراقصين والمحاربين. أما الكاتب غويتسولو فيصنف، بحسب النقاد، واحدا من أهم الكتاب الإسبان المعاصرين، عرف بمساهماته الكثيرة في التعريف بالعالم العربي والإسلامي، سواء من خلال كتاباته ومقالاته الأدبية أو عبر البرامج التلفزيونية والإذاعية، كما يعتبر من المبدعين القليلين في العالم، الذين يلتزمون بخط واضح في الإبداع الأدبي ويحرصون على الانتصار لحقوق الشعوب، ولذلك رسم كثيرا من الخطوط الرابطة بين مآسي القصف والحصار في البوسنة والعراق وفلسطين، وغيرها من نقط الدمار والقتل، وركام الزيارات إلى دم العالم المراق، هنا وهناك.

وولد غويتسولو في برشلونة سنة 1931، واختار بداية من 1956 فرنسا منفى اختياريا، حيث عمل مستشارا أدبيا لدى دار النشر «غاليمار». وفي الفترة ما بين 1969 و1975 عمل أستاذا للأدب بجامعات كاليفورنيا وبوسطن ونيويورك، قبل أن يختار الاستقرار نهائيا بمدينة مراكش المغربية، التي سيهديها مخطوط «مقبرة»، إحدى أهم رواياته، والتي كان استلهم عالمها من فضاء ساحة جامع الفنا، بإيقاعاتها وأصواتها ومتخيلاتها، ومن الحرية التعبيرية لكل ما يتحرك فيها. واعتبر الإهداء تقديرا رمزيا من غويتسولو، لما يشكله المغرب، بشكل عام، ومدينة مراكش، بشكل خاص، في حياته وكتاباته، وتكريما لروح المكان وأهله.

وسبق لليونسكو أن منحت الكاتب الإسباني شرف كتابة نص إعلان اعتبار ساحة جامع الفنا ضمن التراث الثقافي غير المادي للإنسانية، اعترافا منها بجهوده في الدفاع عن حق الساحة في التحلي بكثير من الحس الجمالي عند كل محاولة لتوسيعها أو التغيير في ملامحها.

وقال غويتسولو إن «مراكش صارت جزءا لا يتجزأ من حياته»، بعد أن شكل انجذابه للمغرب ومعايشته اليومية لأمكنته وتنوعه الهائل انعطافة أساسية في حياته ومساره الأدبي، الشيء الذي ساعده على تجاوز الحدود القائمة بين الكتابة والتراث الشفوي، وبين الأفكار وتعبيرات الحواس المشاعة في الساحات والحواري، كما مكنه من تشكيل رؤية جديدة للإبداع ودوره في بناء الجسور بين الثقافات.

وخلال مسيرته الأدبية، عرف غويتسولو بغزارة إنتاجه الأدبي وتنوعه، حيث كتب المقالة التحليلية والرواية والتحقيقات والمذكرات، كما ساعده عمله بدار النشر الفرنسية للانتشار بين الأوساط الثقافية فأصبح أكثر الإسبان تأثيرا في الخارج.

ونقرأ في تقديم «حدود زجاجية»، من أواخر كتبه، أن «غويتسولو لم يكن يوما كاتبا عاديا، ليس فقط لأن كتبه كانت معروفة في مخافر الشرطة أكثر منها في المكتبات خلال فترة الديكتاتورية في إسبانيا، بل أيضا لكونه أدرك مبكرا أن امتطاء صهوة الكتابة يفرض عليه التحلي بقيم المحاربين النبلاء والسفر إلى أشهر مناطق التوتر لمعرفة ما يجري على أرض الواقع، ومصافحة المنكوبين قبل الكتابة عن أحزانهم».

يشار إلى أن «قوي مثل تركي» هو أول كتاب يصدر ضمن سلسلة «البركة»، وهي سلسلة أدبية جديدة تسعى لأن تكون جسرا للتواصل ما بين الثقافتين؛ العربية والإسبانية، تصدر بلغات كثيرة، بينها العربية والفرنسية والإسبانية. ويدخل مشروع هذه السلسلة ضمن نفس برامج وأهداف منظمة اليونسكو، أي دعم تعدد اللغات داخل الكتابة الإبداعية، وإقامة حوار بين الأدب والفنون الأخرى؛ مثل المسرح والرقص والموسيقى والرسم.