الحضارة العربية والإسلامية مجسدة في متحف فرانكفورت

أكثر من 800 آلة ومجسم في مجالات مختلفة أعيد صنعها طبق الأصل

من معروضات المتحف - من معروضات المتحف
TT

تزخر المكتبات العالمية المشهور بالمراجع والملفات التاريخية في مختلف المجالات، والسبب في ذلك إدراك المشرفين عليها أهمية حفظها، لأنها تمثل جزءا لا يتجزأ من التقدم البشري في أي مرحلة من المراحل. فهذه الملفات تعتبر مرجعا لما تم إنجازه قديما في مجالات مهمة، في الطب أو العلوم الإنسانية أو الكيمياء أو الفيزياء، وساهم من توسيع مدارك الإنسان وتحسين حياته أو التخفيف من مشكلاته المختلفة. في الوقت نفسه، فإن هذه الإنجازات أفكار توارثتها شعوب الأرض وطورتها حسب إمكانياتها.

لكن، يجب القول بأن بعض الشعوب تمكنت من تحقيق إنجازات أكثر من شعوب أخرى، وهذا يظهر على المعروضات التي يضمها متحف مؤسسة «بحوث العلوم الإسلامية والعربية» في مدينة فرانكفورت بهدف إبراز ما طوره العرب والمسلمون عندما كانوا في قمة مجدهم ونافسوا في اختراعاتهم وإنجازاتهم شعوب الأرض أو أكملوا ما عجز عن تحقيق علماء من حضارات سابقة.

وعندما يتجول الزائر في قاعات المتحف للتمعن في المعروضات الموزعة على طابقين، يخال نفسه في مختبر لأحد الأطباء العرب القدماء أو غرفة عمليات جراحية لوجود معدات جراحية كانت تستخدم قبل قرون طويلة أو مجهر لفحص الدم وغيره، وإذا ما تغول في التجول يتفاجأ بأجهزة لمسح الأرض أو مجاهر لمراقبة الفلك ودراسته، فالعرب كانوا روادا في هذه المجالات.

ويعرض المتحف أكثر من 800 آلة ومجسم في مجالات مختلفة أعيد صنعها طبق الأصل على يد حرفيين خبراء لتعمل بالشكل الذي كانت عليه وقت اختراعها واستعملها العلماء والباحثون العرب والمسلمون في الفترة الممتدة ما بين القرنين التاسع والسادس عشر الميلادي، ولقد تم البحث سنوات طويلة عن صور لها في المراجع التاريخية إلى أن عثر عليها في بعض دهاليز المكتبات أو أرشيف مؤسسات علمية والمكتبات القديمة، خصوصا في الهند وباكستان وماليزيا، وأوروبا مثل ألمانيا وهولندا والنمسا، مما مكن من صنع نسخ عنها بشكل دقيق جدا.

وهذه الثروة العلمية الضخمة جعلت المتحف اليوم مرجعا ليس فقط للعلماء والباحثين، بل أيضا لطلاب الطب والعلوم الإسلامية، وغيرهم، والفضل في كل ذلك يعود إلى جهود البروفسور التركي الأصل فؤاد سيزكين الذي كرس نفسه قبل نحو ربع قرن لكي يبرهن للعالم على أن العرب والمسلمين لهم فضل كبير في تطوير مجالات كثيرة، فهم كانوا سباقين في مجالات الطب والكيمياء والفيزياء والجبر والفلك والعمارة وصناعة الساعات والسلاح وعلوم البحار وصناعة السفن والخرائط، فرسموا خرائط العالم القديم قبل ألف عام لا تختلف كثيرا عن الخرائط التي اعتمد في رسمها على التقنية المتطورة.

فإذا ما تحدثنا عن وضع خرائط العالم وعلم الخرائط، فإن المتحف يضم نسخا كثيرة، فهذا العلم كان من الدراسات المهمة عند المسلمين، واعتبروا من مؤسسي الجغرافية البشرية خارطة، أحد هذه الخرائط واحدة لشمس الدين أبو عبد الله المقدسي الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وأظهر صورة الأرض ودرجات الطول والعرض وبأن البحار والمحيطات تحيط بالكرة الأرضية.

ويمكن تفحص خرائط لأفريقيا والمحيط الهندي والبحر المتوسط والبحر الأسود رسمت قبل أكثر من 5 قرون، ولا تختلف بتفاصيلها عن الخرائط الموجودة في يومنا الحالي، كما تتصدر القاعة خريطة رسمها العرب للعالم القديم عام 217 ميلاديا، وضعها الخليفة المأمون للمحيط الأطلسي، لذا فإن الاعتقاد السائد إمكانية وصول العرب إلى القارة الأميركية في قرابة عام 1400 ميلاديا؛ أي قبل كريستوف كولومبوس بأكثر من نصف قرن واستعان هو نفسه حسب تخمينات باحثين دوليين بالخرائط التي وضعها علماء عرب ومسلمون.

وعلى المستوى نفسه، يمكن التحدث عن المعروضات التي تصور إنجازات العرب والمسلمين أن في مجال العمليات الجراحية أو العلاجات الدوائية، مما يدفع إلى القول بأن بعض الآلات المستخدمة اليوم قد صنعت على أساس الآلات والأجهزة القديمة، وهذا ما يشير إليه أيضا البروفسور سيزكين في الكثير من أدبياته ومقالاته، فالعرب على سبيل المثال حققوا نتائج لا توصف قبل اختراع المجهر (التلسكوب)؛ حيث اكتشفوا الدورة الدموية الصغرى على يد ابن النفيس في القرن الـ13 ميلادي وكيفية انتقال العدوى من مريض إلى آخر.

ولقد اعتمد المنفذون في المتحف عند صنع الآلات والأجهزة على مخطوطات كثيرة لأطباء عرب ومسلمين قدماء، وجودها في مكتبات قديمة منها كتاب لأبي قاسم الزهراوي، والصور التي فيه لآلات استخدمت في العمليات الجراحية، وكان الزهراوي طبيبا له خبرة طويلة في علم الصيدلية والولادة وعلاجات الأنف والحنجرة والأذن والعيون. ومن الأدوات الطبية المعروضة واستخدمها العرب والمسلمون نسخا عن ملاقط لعلاج أمراض العيون مصنوعة من معدن مقاوم للصدأ (ستانل ستيل)، واحد طوله 1.22 سنتم متحرك من طرف واحد استخدمه الأطباء العرب في القرن الـ13 لإزالة الشوائب داخل العين، وآخر من النحاس الأصفر لإزالة الأجسام الغريبة من قناة الأذن وكان يستخدم في القرن العاشر الميلادي.

ومن الآلات التي كان يستخدمها أطباء العرب قبل آلاف السنين آلة لمعالجة مشكلات المجاري البولية وانسدادها، أنبوب أملس من الفضة في نهايته جيب، ويدخل الطبيب خيطا معقما من القطن أو الصوف يدفع طرفه عبر سلك إلى أن يصل إلى المكان المسدود، فيحرره ويجري بعدها البول، وتتكرر العملية إلى أن تفرغ المبولة.

وتظهر عدة آلات وسائل معالجة العرب لأمراض العامود الفقري، منها الشد بواسطة سرير خشبي حيث يربط المريض من قدميه ويشد بيديه بالاتجاه المعاكس كي ترتاح الفقرات في العامود الفقري، وهذه وسيلة تستخدم اليوم بواسطة آلة تشد العنق بالاتجاه الأعلى بعكس بقية الجسم، وعرفت هذه الآلة منذ القرنين الرابع وحتى العاشر الهجري. وفي مجال الولادة وعلاج الأمراض النسائية اخترع العرب كثيرا من الآلات، منها كرسي تجلس فيه الحامل لتسهيل عملية الوضع، يحاكي في شكله النموذج التي يستخدم اليوم، وهو مصنوع من الخشب وله ذراعان كي تضع الحامل ساقيها عليهما؛ مما يؤيد إلى فتحهما، وبالتالي مراقبة الطبيب عملية الولادة أو إجراء فحص نسائي. وآلة أخرى على شكل كماشة لتسهيل إخراج الجنين من رأسه ثم سحبه إذا ما تعثرت الولادة أو للإجهاض أو إذا ما كان الجنين ميتا لإنقاذ الأم الحامل وطول الجهاز نحو 21 سنتم ومصنوع من المعدن المقاوم للصدأ واستخدمه الأطباء العرب في القرن الـ10 الميلادي. والجهاز الآخر التي لا يقل أهمية هو لقياس كمية الدم لدى المريض ويعمل على قاعدة فيزيائية لتحديد كمية الدم في الجسم وعلى أساس مبدأ أن حركة الأجسام العائمة التي تنشطر بعد ذلك وتدفع إلى وعاءين بناء على نسبة اللزوجة. ويوجد كثير من ملاقط الكي منها المكواة الزيتونية من أجل كي أوارم في الرأس أو معاجلة شلل الوجه بالكي أو لإيقاف النزيف في الجروح أو بعد بتر عضو في الجسم لمنع الالتهابات، وكان الكي بمثابة مضادات حيوية.

وفي الجناح المخصص للعلوم الكيميائية يعرض جهاز، عثر على نموذج له في دمشق، كان يستخدم لتقطير ماء الورد استعمله، واستخدمه فيما بعد الإيطاليون في القرن 16 للهدف نفسه، إضافة إلى جهاز دقيق جدا لتحديد الوزن النوعي اخترعه أبو الريجاني البيروني وكان عالم كيمياء وفيزياء في أوائل القرن الـ11.

ويعرض المتحف نماذج لآلات موسيقية استخدمت لمعالجة الأمراض العقلية؛ مما يدل على أن العرب أدركوا أهمية الموسيقى في علاج الحالات النفسية، كما نقرأ الطبيب الأندلسي أبو القاسم الزهراوي الذي تحدث في كتبه عن أهمية الموسيقى في علاجات الأمراض النفسية والعقلية، وأصبحت اليوم وسيلة يتبعها أطباء النفس في الغرب.

ويبدو أن الحروب الصليبية دفعت العرب لقدح الأذهان من أجل الدفاع عن أنفسهم باختراع أسلحة ليس باستطاعة العرب اليوم صنعها رغم التقدم التقني منها أسلحة هجومية وأخرى دفاعية وقنابل يدوية، ووجدت النماذج التي اعتمد المتحف عليه عند تصنيعها في مراجع عسكرية حربية، ولقد ساعد العرب في استخدام هذه الأسلحة اكتشافهم للبارود الأسود، ويعرض في المتحف أيضا نموذج لمدفع ودبابة تعود إلى القرن السابع الهجري، وعثر على صور لها في مراجع تاريخية قديمة جدا من أجل إعادة صنعها.

والى جانب الأسلحة، توجد نماذج صغيرة لسفن كان يسافر على متنها العرب في القرن الثالث الهجري، وكانت تصنع في قرية أبولا بالقرب من البصرة واستخدمها التجار في رحلاتهم من المغرب إلى الصين، وكانت سفنهم محملة بالسلع الشرقية ليعودوا من هناك محملين بالأقمشة والحرير والبخور. واستعان العرب في رحلاتهم بالبوليصات التي صنعوها منها نموذج لبوليصة صنعها أحمد ابن ماجد النجدي في القرن الرابع عشر الميلادي، وبرع في علوم الملاحة والفلك والبحار وأطلق البرتغاليون عليه اسم «أمير البحار»، وحسب بعض المراجع التاريخية فإن اسمه ارتبط بالرحلة الشهيرة حول رأس الرجاء الصالح إلى الهند بمساعدة فاسكو دي غاما لاكتشاف طريق جديد إلى الهند.

ويعرض المتحف أدوات كثيرة لرصد النجوم منها أسطرلابات من الصفيح الأصفر يسهل العثور على المجرات والنجوم والكواكب والمجرات بعضها صغير والبعض الأخرى يصل قطره إلى متر ونيف، لكن لا يعرف حتى الآن من هو أول مخترع لأسطرلاب وتاريخ اختراعه مع ذلك اعتمد المتحف في صنع نسخ عنها على مخطوطات قديمة جدا وضعها المسلمون، واستعان فلكيون بها ليتمكنوا من قياس ارتفاع الشمس في السماء وتقدير الوقت في النهار أو الليل وتحديد بزوغ الشمس وأوقات الصلاة. ولقد طور علماء الفلك المسلمون هذا الجهاز في القرن السادس الهجري، ويعتقد بأن أبو الحسن علاء الدين الأنصار الملقب بـ«ابن الشاطر» تابع تطويره في القرن السابع الهجري.

وبعد افتتاح المتحف عام 1982 وضع البروفسور فؤاد سيزكين المشرف عام 2003، فهرسة المراجع والدراسات العربية والإسلامية المعروضة بهدف تسهيل الحصول على المعلومات للباحثين والدارسين، ولتكون أيضا مرجعا للمستشرقين؛ حيث يضمن كل باب شرحا للآلة المعروضة وفائدتها وتاريخ صنعها التقريبي، سواء في مجال الطب أو العلوم الإنسانية أو الفلك أو التقنيات، مرفقة بصورة فوتوغرافية للنماذج أو رسوم أصلية مع شرح إما بالعربية أو الفارسية أو التركية.