قراءة سينمائية في رواية عراقية

اللغة الأدبية تساوقت مع لغة السيناريو في النص

غلاف حصار العنكبوت
TT

تُعد الكتابة للسينما جنسا إبداعيا مستقلا بذاته، كونها تقدم رؤية مكثفة للأحداث من خلال تتابع مشاهد تحل فيها الرؤية البصرية مكان الجملة البلاغية المكونة من حروف وكلمات يشتغل عليها كاتب النص الأدبي. إننا أمام آليتين في التناول للحدث نفسه مختلفتان كليا. الأولى (الأدبية) تعنى بالصياغات والمفردات المناسبة، أدواتها الحروف والكلمات والجمل، بينما الثانية (السينمائية) تعنى بالمشاهد البصرية وأداتها الكاميرا. الآليتان تشتغلان على العناصر ذاتها (المكان، الزمان، الدراما أو الصراع، المضامين الفكرية التي تتجلى من خلال الحوار - الديالوغ - أو الحوار الداخلي - المونولوغ - الخطة)، لكنهما يفترقان في الوسيلة.

في رواية «حصار العنكبوت» للكاتب العراقي كريم كطافة الصادرة عن دار «نون» للنشر في الإمارات العربية المتحدة 2014، تصدى الكاتب لأحداث ملحمية شهدها الواقع العراقي إبان ثمانينات القرن الماضي. رصد أحداثا تراجيدية عايشها لحظة بلحظة مع آخرين من الأنصار المشاركين في حركة الكفاح المسلح في كردستان العراق. افترق عن كثيرين تناولوا الأحداث ذاتها، وقدموها بطريقة توثيقية على درجات متفاوتة من الصرامة، إنه نسج عمله وفق رؤية أدبية، امتزج فيها الخيال مع الواقع، عبر معالجات فنية سبر فيها أعماق الشخصيات، مقدما كل منها نمطا فكريا له مرجعياته الثقافية والبيئية التي تدفعه إلى اتخاذ مواقف محددة وأحيانا صارمة من تلك الأحداث. الأمر الذي جعل هذا النص ينأى بنفسه عن التأرخة والتوثيق، مشغولا بعملية تحليل تدريجي للحدث التاريخي الواقعي، وهو يعود إلى عناصره الأولية، تلك العناصر الصغيرة والبعيدة التي لا تعني في العادة المؤرخين وكتاب السير واليوميات، العناصر المتعلقة بحيوات ومصائر الشخصيات الإنسانية.

بهذا أختلف مع كثيرين من الذين تناولوا هذه الرواية باعتبارها رواية تسجيلية أو توثيقية أو تأريخية. وأقول: إنها كانت رواية فنية، نجح كاتبها بتحويل ما هو تاريخي وواقعي إلى روائي. وهذا التناول معروف ومطروق في الأدب العالمي؛ «الحرب والسلام» لتولستوي لا يمكن اعتبارها بأي حال رواية تأريخية وثقت أحداث حرب سنة 1812 في روسيا، رغم أنها تناولت الأحداث ذاتها، كذلك الحال مع «الدون الهادئ» لشولوخوف و«وداعا للسلاح» لهمنغواي، وغيرها كثير من الروايات التي انطلقت من أحداث تاريخية معلومة، كان كتابها ليسوا مجرد شهود بل مشاركون في الأحداث، لكنهم حولوا ما هو واقعي إلى روائي، خرجوا من التاريخ ودخلوا إلى الفن، امتزج عندهم الخيال مع الواقع، والفن مع التاريخ.

في الغالب تعتمد السيناريوهات المعدة للسينما على كتابات أدبية في الأصل؛ روايات، قصص قصيرة، نصوص أدبية أخرى، منها ما يتزمت في التزامه بالأصل الأدبي، ومنها ما ينطلق من الأصل الأدبي يلاحق تفسيرا أو تأويلا مغايرا قد يجتزئ من النص الأدبي حدثا بعينه ويهمل ما تبقى. في كل الحالات، ستخرج السيناريوهات بقراءة مغايرة للقراءة الأدبية، قراءة بصرية سداها ولحمتها ما تنطق به الكاميرا.

رواية «حصار العنكبوت»، تبدو وكأنها منذ البداية قد كتبت بلغتين؛ الأولى أدبية (لغة رواية)، وهي الطاغية، والثانية سينمائية (لغة سيناريو). تساوقت اللغتان في جسد النص بانسجام وتكامل واضحين. اختار الكاتب إحدى الشخصيات، جاعلا منه عين الكاميرا التي يرى من خلالها الأحداث، حتى أنه سماه «حيدر كاميرا». بين الحين والآخر يستعين بهذه الشخصية؛ يجعل «حيدر كاميرا» الحالم بالسينما يدوّر كاميرا خياله الوهمية بزوايا تختارها عين السيناريست هذه المرة وليس عين الأديب، ليقدم مشاهد مكتوبة بلغة السيناريو لا باللغة الأدبية، لكنه رغم هذا ولا ندري إن كان هذا خطأ وقع فيه الكاتب أم هو يقصده كي لا يوهمنا بحرفية شخصيته، وبالتالي حرفية ما يقوم به، إذ يورد مصطلح سينمائي معروف بتهجئة خاطئة، وفي أكثر من مكان، إذ نقرأ Zoomind بينما الصحيح هو Zoom in، تلك اللقطة المعروفة في عمل السينمائيين «اللقطة الانقضاضية» التي تنتقل فيها الكاميرا بصورة تدريجية من اللقطة العامة للمشهد إلى اللقطة الكبيرة «كلوز آب»، سأجتزئ من الرواية مشهدين كانت الكاميرا فيهما هي السارد من بين مشاهد أخرى كثيرة حفل به هذا النص الروائي.

(1) مشهد البغل النورس

تململ حيدر كاميرا وأحس أن زووم كاميرا خياله أخذ بالاشتغال تلقائيا هذه المرة. صار يستعرض اللقطات:

«لقطة عامة من فوق -

نساء، أطفال، بيشمركة، شباب، شيوخ، معوقون. ينوءون بأجسادهم وهم يجاهدون صخور الطريق والتواءاته الحادة - لقطة قريبة - الحيوانات تلهث مع البشر، سقط بغل بحمله إلى عمق هاوية الوادي ولعله انتحر Slowmotion الكاميرا تلاحق سقطة البغل. بطن البغل ناصعة البياض مثل نورس عملاق مغسول بماء البحر يفرش جناحيه في الهواء. انفتاح الخرج الذي كان مشدودا على ظهره بفعل السقطة بدا كجناحين للبغل، يتهاوى البغل النورس بجناحيه المفتوحين إلى الهاوية. يعترض السقطة لسان صخري ناتئ من خاصرة الجبل. يتدحرج البغل على اللسان الصخري. يصل إلى الحافة. ليواصل سقوطه الحر إلى هاوية الماء. zoomind عيون الرجال تبكي، صراخ امرأة شقت ملابسها عند الصدر وأخذت تلطم على وجهها. إلى جانبها رجل يحمل طفلا على رقبته يحاول تهدئتها. صراخ أطفال يصل من خارج الكادر. أنين مكتوم يصل من داخل الحشد البشري يتماهى تدريجيا مع نحيب عزف على الزرنة. دبكة الرجال والنساء تتواصل بقوة وعنفوان على وهج نار تلفظ دخانا كثيفا. يتلون الدخان بقوس قزح الألوان حتى يستقر أصفر. يبتلع الدخان الأصفر وجوه الرجال والنساء. يظل عازف الزرنة منتفخ الأوداج ينفخ. ينفخ. ينفخ».

(2) مشهد حذاء الضابط

ران صمت على الاثنين جعل دقات القلب تتصاعد لدى المختبئين. ظل الضابط يتلفت ويطالع كل الاتجاهات، إلا الاتجاه الوحيد الذي كان عليه الالتفات إليه اتجاه أكمة القصب الكائنة أسفل وقفتهم. للآن لم يقرر الـ3 كيف سيكون رد فعلهم. هل سيبادرون هم بالرمي. أم يبقون على جلستهم حتى يأتي من يمسكهم مسك اليد. رؤوس الـ3 مفرغة من التصميم لا شيء فيها غير صوت فوران الدماء في العروق، ولعله ذلك السائل الذي يدعونه بسائل الخوف. كان خوفهم ناهشا ماسكا بتلابيبهم معطلا أجسادهم عن المبادرة. بدت النهاية قريبة جدا. لا تبعد سوى مترين تفصلهم عن بسطال الضابط الحنائي. استقر الضابط أخيرا في وقفته، وكأنه اختار الوجهة التي ينظر إليها بدل التلفت يمينا وشمالا، قرفص على حافة الجدول وصار ينظر إلى الماء وأكمات القصب، صار ينظر الآن تماما إلى حيث أكمتهم المتخفين بين سيقانها. ومن جلسته أصدر أمرا لتابعه:

- رئيس عرفاء خالد جمّع الجنود. رح ننسحب.

أجاب رئيس العرفاء:

- تؤمر سيدي.

(3) مشهد انتحار فؤاد

خفضا أصواتهما، بعد أن سمعا لهاث الجنود يصل من أسفل وهم يتسلقون ذات الجدار الصخري الواقع أسفلهم. كانا جنديين لم يدخلا مجال الرؤية بعد، غير أن حديثهما كان قريبا. واضح أنهما قد توقفا ولم يواصلا الصعود. سأل أحدهما زميله:

- الله اشكد كان حلو هذا الشاب. ليش قتلتوه!؟

أجابه زميله:

- والله خوية احنا ما قتلناه. كان مخلي المسدس على رأسه. بس صحنا عليه سلّم نفسك.. قتل نفسه.

هذه وغيرها الكثير من المشاهد السينمائية المبثوثة في تلافيف النص الروائي، لم تكن مصنوعة، وإنما جاءت بالسياق السردي ومن داخل البنية المعمارية للرواية التي تفتح ذائقة القارئ إلى أن يتصور الأحداث وكأنه يشاهدها أمامه، بتقنيات سينمائية حيث نحس بالمكان بكل أبعاده، ونتابع تسلسل الأحداث بسلاسة منطقية، وهي تنطوي على عناصر الصراع الدرامي والتشويق والترقب، وانعطاف الأحداث بشكل غير منتظر مما يزيد من توتر الحالة، وانعكاس كل ذلك على تصرف ومواقف الشخصيات إزاء كل التحولات والانعطافات التي تشهدها الأحداث، والتي تتالى على شكل مشاهد بإيقاعات متساوقة وبطريقة بصرية كأنها تخضع لخطة مونتاجية تنطوي على اللقطات الاستعادية (الفلاش باك) أو المونتاج الفكري حيث تبنى أفكار الكاتب بصياغة صورية واضحة كأن نقرأ عن حدثين يجريان في آن واحد، وهذا ما يطلق عليه السينمائيون المونتاج المتوازي. وهذه شروط كثيرا ما يهملها كاتب الرواية لصالح البلاغة اللغوية والسرد الوصفي، الذي يؤثر بهذا القدر أو ذاك على تحجيم مخيلة القارئ، لدرجة تصل إلى الإملاء في أن يتصور حالة ما.. في حين متلقي كريم كطافة عند مطالعته لـ«حصار العنكبوت» سيخلق الجو الذي يريده هو عبر المتواليات من الأحداث والجو العام الذي يقرره الصراع بين شخصيات المعسكر الواحد وصراعها مع معسكر الآخر المضاد له.