أعمال فاروق حسني.. بين التجريد والتشخيص والرمزي

جمع بين تناقضات هيغل وبيتهوفن في أول معرض له بمصر بعد 4 سنوات

فاروق حسني لدى افتتاح معرضه - .. وأمام إحدى لوحاته
TT

ضربات فرشاة متفاوتة بين القوة والهدوء، تشعر معها بحنينه إلى ساحل الإسكندرية وثقافته الأورومتوسطية التي تدمج بساطة «بحري» (الحي الإسكندراني الشعبي الذي عاش فيه) وغموض فينيسيا (التي انتقل إليها بعد ذلك)، والمحاربين الرومان، والصحراء المصرية. هكذا أبهر الفنان المصري، ووزير الثقافة الأسبق، فاروق حسني، زوار معرضه «السنوات الأربع»، وهو الأول له في مصر منذ 4 سنوات، ويشكل عودة قوية لفضاء الفن التشكيلي المصري والعربي، ممسكا من خلاله بالمجرد والرمزي.

افتتح المعرض، الاثنين الماضي، في قاعة «أفق» بمتحف محمد محمود خليل، بحضور نخبة من مشاهير مصر في مختلف المجالات، بينهم الممثلات: سميرة أحمد، وسميحة أيوب، ويسرا، وإلهام شاهين، والممثلون محمود عبد العزيز، ويحيى الفخراني، وتامر عبد المنعم، والمخرجة إيناس الدغيدي، والمحامي فريد الديب، والإعلامي عمرو عبد السميع، والفنان جورج بهجوري، والكاتب والأديب محمد سلماوي، والكاتب الصحافي محمد عبد القدوس، وزاهي حواس، وزير الآثار الأسبق، ورجل الأعمال محمد أبو العينين.

ولعلها مصادفة غريبة أن يتوافق افتتاح المعرض وعودة الفنان فاروق حسني، مع الذكرى الـ148 لرائد الفن التجريدي الفنان الروسي فاسيلي كاندينسكي، فقد عاد حسني بأعماله التجريدية الفريدة التي احتل بها مكانة خاصة في تاريخ الفن المصري الحديث، بعد أن ظل متنقلا بين دبي وفرنسا وإيطاليا، يقيم معارضه بشكل سنوي.

استهل المعرض بسيمفونيات لبيتهوفن ولتشايكوفسكي قدمها 4 من عازفي الأوركسترا، فأضفت سحرا على أجواء المعرض، الذي يضم 40 لوحة تمزج بين التجريد، والتشخيص، والفلسفة، والموسيقى، وحافلة بتشعبات اللون وتداخلاته وتقلباته العنيفة، التي استخدم الفنان فيها ألوان الأكوريل والأكريلك والزيت.

وكان لافتا لمتابعي فن فاروق حسني، تلمس تلك النقلة النوعية والتجربة الجديدة؛ حيث تتخاطف الأنظار الألوان المبهجة التي تنبض بالحياة، في حين تطل شخوص فاروق حسني باحثة عن وجود لها، وكأنها تحاول النجاة من التلاشي أو النسيان، في تقاطع مع فكر هيغل حول تجليات «الروح المطلقة».

استناد حسني إلى فلسفة «الديواليزم» (Dualism) الفنية، وجمعه بين حالتين في مساحة واحدة، جعل كل لوحة من لوحاته يثير تساؤلات حول ما كان يراوده من أفكار خلال رسمها. قال حسني: «الفنان متقلب، وحينما يطرح نفسه في أوج تقلباته يظهر نتاج فني معين، وتتجلى فيه المشاعر المعتملة في داخله».

وهذه هي المرة الأولى التي يعطي فيها فاروق حسني لوحاته أسماء، حيث نجد لوحة «آدم»، ولوحة «حواء»، التي تبرز فيها شخصية الفنان المتفردة، ولوحة «العظيم»، و«ظل المحارب»، و«هي»، و«المراقب»، و«ملكة الصحراء» التي نلمس فيها تأثره بـ«بيكاسو» وشخوصه، ووجوه «بيكون» التي تأتي بملامح طغت عليها الفرعونية المصرية في صرامتها ونظراتها العميقة.

كما جاءت اللوحات عناصر واقعية انتزعها حسني ليضعها في فضاء مغاير، مما أعطى اللوحات أبعادا ميتافيزيقية، تعكس تفسيره للكون ككيان مليء بالتناقضات.

وتتجلى قراءات فاروق حسني الفلسفية وعشقه لموسيقى بيتهوفن، في لوحة «هيغل وبيتهوفن» التي تمثل الوحدة والتكامل، ما بين عقل الإنسان وروحه وبين الفلسفة والموسيقى. عن هذه اللوحة، قال حسني لـ«الشرق الأوسط»: «رسمت الوحدة ما بين هيغل وبيتهوفن، حيث تتلاقى موسيقى الفكر عند هيغل وموسيقى الفكر عند بيتهوفن. في هذه اللوحة استعنت بالتجريد مع التشخيص لتجسيد التناقضات التي جمع بينها بيتهوفن (السفورداتو) الارتفاعات العنيفة و(الدانيسمو) الانخفاضات الهادرة والهادئة».

تتوزع أعمال حسني المعروضة على 3 اتجاهات: التجريد اللاشكلي، والتجريد الهندسي، والتشخيص بالتعامل مع التجريد. وحول سبب التوجه إلى التشخيص للمرة الأولى في أعماله، قال حسني: «التشخيص حنين للأساس وبداياتي الفنية منذ سنوات الدراسة في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، حيث بدأت علاقتي بالفن التشكيلي».

تتوسط المعرض لوحة «إخناتون» التي تبرز عشقه للفن الفرعوني الذي اعتبره «أستاذ الفنون كلها ويمثل قمة الفن عبر التاريخ». لكن فاروق حسني يقدم فنه للفن فقط، فلا تلوي لوحاته على قضايا بعينها، إذ يقول: «ليست لدي رسالة، أنا أرسم وعاشق للفن، وهو شيء بصري ووجداني.. لا أذهب وراء قضايا معينة. اهتم بقضية الجمال فقط».

ومن اللوحات المثيرة التي تجذب زائر المعرض، «ثلاثية الجدارية الزرقاء»، التي تظهر فيها مهارة الفنان في استخدام اللون الأزرق «الأولترامارين»، الذي يغمر المساحة اللونية في اللوحات الـ3 كذاكرة بصرية، والتي أعطت الخطوط المتقاطعة بها، مسارا إيقاعيا لجسد اللوحة التي تحتفي بالفراغ الكامل.

وحول لوحة «أقنعة فينسيا» التي تجسد شخصا امّحت إحدى عينيه، بينما تنظر الأخرى إلى فضاء لا متناهٍ، قال: «الأقنعة هي التي تميز مدينة فينسيا التي تمثل جزءا هاما من ذاكرتي، وشكلت جزءا من تكويني الفني، بعمارتها التي تعود إلى القرون الوسطى. هذه الأقنعة الجميلة التي تخفي ملامح الوجوه وتخفي أشياء أخرى كثيرة، تمثل لدي، أيضا، حالة نوستالجيا لكرنفالات فينيسيا».

وفي حوارية ما بين شخوصه وتجريدياته، تختمر اللوحات بسنوات مخاضه الروحي ونضجه الفني. ونلاحظ تجسد النوستالجيا في لوحاته «نفسي» التي جسد فيها ملامحه الشخصية، وكأنه يحاول استعادة ذاته، «رسمت ذاتي، لكني لم أرسم وجهي ك(بورتريه)»، كما يتجلى الحنين في لوحته «بنت الصحراء» التي تستلهم منطق هيغل.. «إن مهمة الفن ليست استنساخ الطبيعة، فالفن شيء منفصل عن الواقع الموضوعي».

وعن لوحات فاروق حسني الجديدة، يقول كارمني سينيسكالكو، رئيس مؤسسة روما لمعارض الفن الحديث ومدير استوديو «إس» للفن المعاصر: «هو فنان تجريدي له أسلوبه الخاص، فلم يشبه أحدا أو يقلد أحدا، المجموعة التي أنتجها بوحي من خياله كانت وليدة اللحظة، تستبق رؤيته الشخصية (الصورة) كثيرا من الفنانين المصورين اليوم، فاللوحة متوهجة ببريق متغير من الألوان؛ حيث تتناثر الألوان كنقاط تتلاحق وتتقاطع بعضها مع البعض الآخر، تذكرنا بألوان مصر وطبيعتها، فالرمال بنية، وصخور الصحاري البيضاء، وسحب المساء الزرقاء الكثيفة، وضفتي النيل الخضراوين، والبحر المتوسط بلونه الكوبالتي، والمحيط اللوني الساحر لمدن وقرى مصر. لذا أهنئ قاعة (أفق) على استضافتها هذا المعرض الذي يضم تشخيصاته وتجريداته كحالتين لفنان واحد، أتم نضجه».

وفي تعليق للفنان فاروق حسني على النشاط الفني الذي تشهده مصر حاليا، قال: «مصر كانت في كبوة، ووجود المعارض الفنية والفعاليات الثقافية يعني الاستقرار، وهذا أمر رائع لنا جميعا، وعلينا أن نحافظ عليه ونجتهد بأعمالنا». وأضاف: «أود أن أوجه كلمة للرئيس عبد الفتاح السيسي: شكرا أنك أرجعتنا لحضن مصر الذي افتقدناه، وأخرجتنا من ظلام دامس، والآن أصبحنا في النور، وهذا يستوجب شكر كل مصري للرئيس عبد الفتاح السيسي».

وحول مشروعاته الفنية في الفترة المقبلة، قال حسني: «سوف أقيم معرضا في دبي في فبراير (شباط) المقبل، ولدي معرض في دولة الكويت في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجديد، لكن حتى الآن ليس لدي مشروعات فنية محددة، فهي غالبا ما تكون وليدة اللحظة».

من جانبه، صرح الفنان إيهاب اللبان، مدير قاعة «أفق» للفن التشكيلي: «في هذا المعرض يكشف لنا الفنان فاروق حسني، عن ملامح تجربة جديدة تحمل تحديا كبيرا يتعلق بتناول غير معتاد من الفنان، يمزج في طرحه، بين الأسلوب التجريدي والتشخيص، لأول مرة، في أعمال تعد مفاجأة للجمهور والنقاد؛ لذا أتوقع له مردودا إقليميا ودوليا، وذلك نظرا لقيمة الفنان فاروق حسني، وكذلك دوره التاريخي في المشهد الفني والثقافي بوجه عام».

يذكر أن فاروق حسني أحد أبرز المثقفين المصريين، وشغل منصب وزير الثقافة لمدة تقارب ربع قرن، منذ عام 1987 وحتى 2011.