أوكرانيا.. أزمة هوية كادت تطلق حربا كونية

بوتين خسر حليفه يانوكوفيتش وكسب القرم.. ويواجه عقوبات الغرب بخيارات محدودة

أوكرانيون يتظاهرون يتقدمون وسط الحرائق في كييف في 29 فبراير في أوج الانتفاضة التي أطاحت بنظام يانوكوفيتش (أ.ف.ب) و جانب من احتجاجات اوكرانيا في 19 فبراير الماضي في كييف ( نيويورك تايمز)
TT

فرضت الأزمة الأوكرانية، منذ اندلاعها في نهاية العام الماضي، واقعا تتباين أطيافه وتأثيراته على مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أوكرانيا نفسها وروسيا، بل وحتى في أوروبا.

وفجرت الأزمة الأوكرانية خلال عام 2014 أكبر أزمة عرفتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وكادت في بعض فصولها تتحول إلى «الأسوأ»، إذ حذر كثيرون من أن الأزمة قد تتطور إلى حرب عالمية إذا لم يجر احتواؤها. وكشفت الأزمة عن وجود أزمة هوية لدى أوكرانيا، إذ يريد سكان مناطقها الشرقية والجنوبية الارتباط أكثر بروسيا بينما يريد سكان العاصمة كييف والمناطق الغربية الارتباط بأوروبا. واندلعت الأزمة الأوكرانية في توقيت مواكب لأحداث «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لتعيد إلى الأذهان موجات «الثورات الملونة» التي اشتعلت في كثير من أرجاء الاتحاد السوفياتي السابق، في مطلع القرن الحالي بداية من «ثورة الزهور» في جورجيا، التي أعقبتها «الثورة البرتقالية» في أوكرانيا في نهاية عام 2004. إلا أن الهزيمة التي لحقت بتلك الثورة والإطاحة برموزها، ومنهم فيكتور يوشينكو ويوليا تيموشينكو، لم تثنِ «أصحاب الفكرة» عن معاودة محاولاتهم.

وبينما يربط المحللون الأوكرانيون والغربيون جذور الأزمة برفض الرئيس المطاح به فيكتور يانوكوفيتش توقيع اتفاق شراكة مع أوروبا وتفضيله تقاربا مع موسكو، مما دفع بقطاعات واسعة من الشعب إلى الانتفاض ضده على غرار ما وقع في بلدان «الربيع العربي»، فإن الروس ظلوا يرددون أن القضية أبعد من ذلك، وأن الهدف من كل ما وقع كان ولا يزال «روسيا المترامية الأطراف المتعددة القوميات»، في إطار الحلم المؤجل منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وهو ما تداركته موسكو، التي أعلنت أخيرا، وعلى لسان الكثيرين من أبرز شخصيات القيادة الروسية، ومنهم سيرغي إيفانوف رئيس ديوان الكرملين وميخائيل فرادكوف رئيس جهاز المخابرات الخارجية، عن وجود مخططات أميركية تستهدف إسقاط حكم الرئيس فلاديمير بوتين.

وأعلنت مصادر روسية نقلا عن مصادر أميركية أن الخطة السابقة تضمنت العمل من أجل تقسيم روسيا إلى 50 ولاية ومقاطعة، وأن دوائر الاستخبارات الغربية بذلت الكثير من أجل تنفيذ الخطة في مطلع تسعينات القرن الماضي، من خلال إذكاء الحركات الانفصالية في الشيشان وشمال القوقاز، وفيما وراء الأوروال وفي سيبيريا. وإذا كانت هذه الخطة فشلت رغم كل ما اعترى القيادة الروسية آنذاك من ضعف وهوان، فقد عادت الإدارة الأميركية الحالية، بحسب الرؤية الروسية، إلى هذه الخطة مع مطلع عام 2012 حين أدركت أن القادم إلى الكرملين هو فلاديمير بوتين لاستكمال ما بدأه خلال ولايتيه السابقتين، وما كشف عنه صراحة في خطابه الشهير في ميونيخ، في مؤتمر الأمن الأوروبي الذي عُقد في فبراير (شباط) 2007.

استغلت الدوائر الغربية محاولات الاتحاد الأوروبي طلب القيادة الأوكرانية حول تأجيل التوقيع على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في قمة فيلنيوس التي عقدت في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، لتبدأ في تنفيذ مخططها للإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش، كمقدمة للتفرغ لتنفيذ الحلم المؤجل بشأن روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين. ولم يكن الرئيس يانوكوفيتش أعلن عن رفض بلاده لما يطرحه الاتحاد الأوروبي، بل طلب مجرد التأجيل نظرا لأن بلاده ليست مؤهلة بعد لتطبيق ما ينص عليه اتفاق الشراكة من إصلاحات في مجال التشريعات الانتخابية والمنظومة القضائية، وغير ذلك من الشروط التي وصفها بـ«المجحفة». وقالت مصادر أوروبية إن «التخلي عن هذه الشروط المبدئية سيؤدي إلى تجريد اتفاقية الشراكة ومنطقة التجارة الحرة من معناها»، مؤكدة أن «هذه الاتفاقية معنية ليس بالاقتصاد ورفاهية الشعب الأوكراني فحسب، بل وبالقيم الأوروبية المشتركة أيضا».

وعزت المصادر الغربية رفض أوكرانيا التوقيع على معاهدة الشراكة إلى ضغوط من روسيا.

ولذا كان من الطبيعي ألا تكتفي الإدارة الأميركية بكل ما قدمه الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش من تنازلات بموجب اتفاق 21 فبراير (شباط) الماضي وبضمانات من جانب وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبولندا، فضلا عن نزوله على إرادة المعارضة التي استجاب لكل طلباتها، حيث مضت إلى ما هو أبعد لتبارك خطة الإطاحة بيانوكوفيتش، وتشكيل ما وصفه أرسيني ياتسينيوك رئيس الحكومة الحالي بـ«حكومة المنتصرين». وما إن اندلعت المواجهات في كييف حتى راحت القوى القومية الأكثر تشددا تعيث في أرجاء الدولة الأوكرانية، ترفع راية الثأر من الماضي، وتصفية حساباتها مع «بقايا الإمبراطورية»، على حد تعبير قياداتها.

ومباشرة بعد اندلاع المواجهات في كييف وفرار الرئيس يانوكوفيتش إلى روسيا، أخذت الأزمة بعدا آخر، إذ تفجر الوضع في المناطق الواقعة في جنوب شرقي أوكرانيا، بما فيها شبه جزيرة القرم، حيث توجد غالبية من السكان الناطقين بالروسية والموالين لموسكو.

ومع تسارع الأحداث، نظم «استفتاء شعبي» في القرم بهدف التحاق شبه الجزيرة بروسيا، وهو ما تم بسرعة في مارس (آذار). ورغم «حسم» الأمر بسرعة وبطريقة سلمية في القرم، فإن مناطق حوض الدونباس، وخصوصا منطقتي لوغانسك ودونيتسك شهدت تمردا واسعا تحول إلى حرب حقيقية حصدت آلاف القتلى بين الجانبين.

وكان لافتا أن جاءت خطوة ضم القرم إلى روسيا بما يعني ضم 26 ألف كيلومتر مربعا إلى الأراضي الروسية، في توقيت مواكب لتسليم الأمم المتحدة لموسكو وثيقة تعترف بـ«تبعية بحر أوخوتسك في الشرق الأقصى إلى روسيا» المعروف بموارده الهائلة من الثروة السمكية ومصادر الطاقة.

ولقيت خطوة ضم الرقم استنكارا دوليا واسعا، خصوصا في العواصم الغربية. وتجسد ذلك الاستنكار في إبعاد روسيا من قمة مجموعة الـ8، ومحاولة عزلها دوليا. لكن الخطوة الأكبر كانت فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة سلسلة عقوبات متناغمة استهدفت كثيرا من الشخصيات الروسية، ومنها المقربة من القيادة السياسية.

ومنذ فرض تلك العقوبات عليها، تحاول موسكو الرد بخيارات محدودة، حسبما يرى بعض المحللين في الغرب. وأجرى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اتصالات مع نظرائه، ومنهم الأميركي جون كيري، في محاولة لتأكيد عدم مشروعية المواقف الغربية من استفتاء القرم انطلاقا من مواقف مشابهة سبق للغرب أن تبناها، مثلما حدث في كوسوفو. وكشفت المصادر الروسية لاحقا عن تداركها لمغبة سرعة تدخل حلف الناتو وتحول القيادة الأوكرانية الجديدة إلى مطالبة روسيا بالجلاء عن قاعدة أسطولها في البحر الأسود عن شبه جزيرة القرم، وإفساح المجال أمام تحويلها لقاعدة للناتو لأول مرة في تاريخ المنطقة.

ورغم أن نهاية العام شهدت انفراجة ملحوظة تمثلت في إقرار هدنة بين الأطراف المتحاربة جنوب شرقي أوكرانيا، وبوادر قبول الجانبين المتصارعين بالحوار واستئناف المباحثات السياسية على مستوى مجموعة الاتصال في مينسك، فإن الوثيقة التي أقرها الكونغرس الأميركي تحت اسم «دعم الحرية في أوكرانيا»، وتلويح واشنطن باحتمالات فرض عقوبات جديدة ضد روسيا، أثارا الكثير من التوتر في علاقات القطبين الأعظمين، مما دفع الخارجية الروسية إلى إصدار بيانها الذي قالت فيه باحتمالات اتخاذ إجراءات جوابية، وهو ما لا بد أن ينعكس على الأوضاع في أوكرانيا والعلاقات الأوروبية الروسية.

وكان الرئيس بوتين أعلن صراحة أن واشنطن لو لم تجد أوكرانيا والقرم ذريعة لما اتخذته من إجراءات عدوانية ضد روسيا، لكانت بحثت عن مبرر آخر، لأنها لا تطيق «روسيا قوية مستقلة الإرادة»، مشيرا إلى الرغبة القديمة التي طالما راودت ولا تزال الولايات المتحدة لاحتواء روسيا، وهو ما سبق أن نجحت فيه واشنطن في تسعينات القرن الماضي، إبان عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، وما جاء بوتين لتصحيح ما ارتكبه من آثام وأخطاء، مؤكدا باستعادة القرم أنه يظل عند موقفه من ضرورة إعلاء معايير العالم المتعدد الأقطاب بعيدا عن هيمنة قوى بعينها.

ومع اقتراب نهاية العام، أقر البرلمان الأوكراني الذي باتت تهيمن عليه القوى الموالية للغرب خطوة كبيرة باتجاه الانضمام مستقبلا إلى حلف شمال الأطلسي، وأقرت التخلي عن وضعها كدولة غير منحازة، ولقيت الخطوة ردود فعل غاضبة من موسكو.