فرنسا.. هولاند يطوي عاما كارثيا

بين متاعبه العاطفية والسياسية.. وارتفاع أسهم مارين لوبن

الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند يلقي كلمة في الذكري السبعين لتحرير باريس من النازيين يوم 25 اغسطس الماضي.. وفي الإطار صورة صديقته السابقة فاليري ترييرفيلير أثناء توقفها في مطار مدريد الدولي في 27 يناير في طريقها إلى مدينة مومباي الهندية في زيارة مجدولة سابقا ( اف ب) (رويترز)
TT

مع آخر ورقة سقطت من روزنامة 2014. يكون فرنسوا هولاند قد طوى عاما كارثيا لرئاسته الخماسية التي ستنتهي ربيع 2017.

بدأت بكارثة وانتهت بكارثة. وما بين الكارثتين، الأولى مست حياته الشخصية وبما تنطوي على أسرار والثانية اقتصادية - اجتماعية، تخص حياة مئات الآلاف من الفرنسيين الذين انضموا منذ وصوله إلى قصر الإليزيه إلى قافلة العاطلين عن العمل رغم أنه جعل من محاربة هذه الآفة الاجتماعية هدفه العام الأول.

وما بين الكارثتين، الأولى والثانية، توالت الأخبار السيئة على الرئيس الاشتراكي الذي تهاوت شعبيته إلى الحضيض بحيث إنه نصب الرئيس الأقل شعبية منذ انطلاقة الجمهورية الخامسة في العام 1958 على يدي الجنرال ديغول.

في الأيام الأولى من العام 2014، فوجئ الفرنسيون بمجموعة صور وخبر نشرتها مجلة «كلوزر» المتخصصة بشؤون المشاهير وفضائحهم. الصور الأولى تظهر الرئيس هولاند معتمرا قبعة سائق دراجة نارية وهو خارج من مدخل مبنى واقع في شارع يسمى «لو سيرك» على بعد عشرات الأمتار فقط من مدخل الإليزيه أو راكبا الدراجة النارية وراء رجل تبين لاحقا أنه من أفراد حمايته الرئاسية. وتظهر الصور الأخرى الممثلة الفرنسية جولي غاييه خارجة «أو داخلة» من «أو إلى» المبنى نفسه.

هذه الصور التي هزت فرنسا وتحولت إلى الشغل الشاغل لأهل الإعلام والطبقة السياسية ووسائل التواصل الاجتماعي جاءت بالدليل القاطع على أن للرئيس هولاند الذي أراد أن يكون «رئيسا عاديا» عشيقة تقيم على بعد 50 مترا من المدخل الرئيسي لقصر الإليزيه بينما له رفيقة درب «رسمية» اسمها فاليري تريرفايلر تشاركه رسميا حياته وتشغل مكتبا وسكرتارية في الإليزيه وترافقه في رحلاته الرسمية.

لا شك أن الصور أصابت من فرنسوا هولاند مقتلا. ففي اليوم التالي لنشر الصور، علم أن تريرفايلر نقلت إلى قسم الطوارئ في أحد المستشفيات وذاع خبر محاولتها الانتحار. وبعد أيام قليلة أصدر مكتب هولاند الإعلامي خبرا يفيد انفصاله عنها. بيد أن الانفصال لم يضع حدا لهذه القصة التي عادت بقوة إلى الواجهة عندما صدر لسيدة فرنسا الأولى السابقة كتابا بعنوان: «شكرا لهذه اللحظات» كشفت فيه أسرارا من حياتها المشتركة مع هولاند ومعالم من شخصية الأخير ممرغة إياه بالوحول وراسمة عنه صورة مقيتة بحيث بدا أنه يكره الفقراء الذين يسميهم، وفق تريرفايلر «فاقدي الأسنان» وعديم الإحساس تجاه مقربين منه وساعيا فقط لتحقيق مصلحته الشخصية. ورسالة تريرفايلر التي سرقت في العام 2007 هولاند من رفيقة دربه السابقة الوزيرة الحالية ووالدة أبنائه الـ4 سيغولين رويال، أنها هي من صنع هولاند ووقف إلى جانبه وشجعه على خوض المنافسة الرئاسية وسانده يوم غلبته الشكوك... والأسوأ من ذلك كله الشظايا التي أصابت صورة الرئيس الفرنسي حيث إنها أظهرته مهتما بشؤونه الشخصية بينما وضع البلاد يتهاوى إلى الحضيض.

الحقيقة أن وضع فرنسا الاقتصادي والمالي لم يكن مبهرا. وليس سرا أن الفرنسيين يصوتون بالدرجة الأولى وفق ما يجدونه في «جيوبهم» التي ألمت بها صواعق الضرائب المتكاثرة منذ عام 2012 «عام وصول هولاند إلى الرئاسة» وآفات خطط التسريح الجماعية من الشركات والمؤسسات الخاصة الأمر الذي ضخم عدد العاطلين عن العمل وزاد من نقمة الناس. هؤلاء وصل عددهم نهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) إلى 5.18 مليون شخص (نحو 11 في المائة من مجموع الأشخاص في سن العمل). وخلال عام واحد، ارتفعت أرقام البطالة بنسبة 6 في المائة. ومنذ انتخاب هولاند انضم نصف مليون شخص إلى جيش العاطلين عن العمل. أما الاقتصاد الفرنسي فإنه في حالة يرثى لها. فالحكومة تجهد لتقديم ميزانية متوازنة تحترم المعايير الأوروبية التي تفرض ألا يتخطى عجز الميزانية نسبة 3 في المائة. ولذا، فإنها تعمد إلى خفض البرامج الاجتماعية والتقديمات وصناديق الرعاية وتوقف التوظيف في القطاع الرسمي وتقلص ميزانية الوزارات بما فيها وزارتا الخارجية والدفاع... ورغم «التضحيات» التي قدمها الفرنسيون، فإن النتائج الاقتصادية لم يحن للأسف زمنها بعد حيث إذ أن النمو يقارب درجة الصفر وآمال الحكومة أن يكون عام 2015 أكثر رأفة بها بحيث تفيد التقديرات أن نسبة النمو قد تصل إلى 1 في المائة.

النتيجة السياسية التي تمخض عنها الوضع جاءت من صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية أواخر شهر مارس (آذار) الماضي حيث مني الحزب الاشتراكي «الحزب الحاكم» بهزيمة نكراء لم يعرف مثلها منذ زمن طويل إذ أنه حل في المرتبة الثالثة على المستوى الوطني بعد اليمين المتطرف ممثلا بالجبهة الوطنية وبعد الحزب اليميني التقليدي المعارض «الاتحاد من أجل حركة شعبية». وبنتيجة الانتخابات، خسر الاشتراكيون وحلفاؤهم الكثير من المدن الكبرى التي كانت تشكل عرينهم الانتخابي التقليدي في الشمال والجنوب الغربي. ولولا فوز مرشحتهم آن هيدالغو في العاصمة باريس لكانت الهزيمة تامة. ثم جاءت نتيجة الانتخابات الأوروبية في مايو (أيار) 2014 لتؤكد تراجع شعبية اليسار والاشتراكيين على وجه الخصوص إذ أنهم حصلوا على 14 في المائة من الأصوات بينما حصلت الجبهة الوطنية على 25 في المائة وحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية على 20 في المائة.

يجمع المراقبون على اعتبار أن عام 2014 شهد تكريس الجبهة الوطنية كلاعب أساسي على المسرح السياسي الفرنسي حيث ذهبت مارين لوبن، زعيمة الجبهة والمرشحة الرئاسية السابقة إلى اعتبار حزبها «أول حزب في فرنسا». وتفيد آخر استطلاعات الرأي أن هذه الجبهة ستحل في المرتبة الأولى مع نسبة 28 في المائة (مقابل 25 في المائة لليمين التقليدي و17 في المائة للحزب الاشتراكي) في الانتخابات المحلية في شهر مارس القادم. أما استطلاعات الرأي - الصاعقة والمتواترة فتجمع على أن مرشح الحزب الاشتراكي مهما كانت هويته سيعجز عن التأهل للدورة الثانية فيما ستحل مارين لوبن في المرتبة الأولى. أما المغزى السياسي والسوسيولوجي لهذه الأرقام والنسب فأهمها انحراف المجتمع الفرنسي نحو اليمين المتشدد والمتطرف وشيوع النظريات والآيديولوجيات المتطرفة التي يدعو إليها والمعادية للمهاجرين والعرب والإسلام بشكل عام.

عقب كارثة البلديات، عمد هولاند إلى تغيير رئيس حكومته والكثير من وزرائها مستدعيا الأكثر شعبية بينهم وهو وزير الداخلية المتموضع على يمين الخريطة الاشتراكية مانويل فالس ليوكل إليه شؤون الحكومة محل جان مارك إيرولت. وأمل الرئيس الخفي كان أن يستفيد من شعبية فالس. لكن النتيجة جاءت في مرحلة أولى عكسية إذ بدل أن ترتفع شعبية هولاند انخفضت شعبية فالس فيما القاعدة السياسية للحكومة تقلصت مساحتها مع خروج الوزراء الخضر منها وزيادة النقمة داخل الحزب الاشتراكي من استمرار نهج التقشف والابتعاد عن وعود هولاند الانتخابية وإهمال الطبقات الشعبية التي تشكل عادة الخزان الانتخابي لليسار بشكل عام. وتفاقمت الأمور إلى حد ألزم هولاند وفالس، إزاء الانتقادات العنيفة من داخل الحكومة للسياسة الاقتصادية والاجتماعية المتبعة على إجراء تعديل حكومي أخرج بموجبه 3 وزراء رئيسيين ينتمون ليسار الحزب الاشتراكي، كذلك أجبر هولاند على التخلي عن وزراء آخرين لم تكن صفحتهم المالية والضريبية ناصعة البياض ما سدد ضربات موجعة لمبدأ «الجمهورية الفاضلة» والمنزهة عن الأخطاء التي «بشر» بها هولاند في حملته الانتخابية في بداية عهده.

من حظ هولاند أن اليمين الفرنسي التقليدي لم يكن أفضل حالا من اليسار بسبب «حروب أمرائه» وبسبب الفضائح المرتبطة باسم الرئيس السابق نيكولا ساركوزي. بيد أن الأخير نجح، رغم العوائق، من العودة إلى تسلم زعامة حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية من أجل استخدامه مطية لطموحاته الرئاسية في ربيع العام 2017. لكن ساركوزي لن يكون وحده في الساحة حيث ينافسه بشكل أساسي رئيسا حكومة سابقان هما ألان جوبيه الذي شغل، في القسم الثاني من ولاية ساركوزي، منصب وزير الخارجية والثاني فرنسوا فيون، رئيس حكومته طيلة 5 سنوات. كذلك فإن مرشحين من «الجيل الجديد» يطرقون الأبواب وأبرزهم وزير الزراعة السابق برونو لو مير الذي نافس ساركوزي على رئاسة الحزب وحصل على أكثر من 30 في المائة من أصوات منتسبيه ووزيرة البيئة السابقة ناتالي كوسيوسكو - موريزيه وغيرهما.

وبعيدا عن السياسة الداخلية، شغل الفرنسيون عام 2014 بموضوع الإرهاب وامتداداته إلى داخل بلادهم بعد أن قتلت مجموعة «جند الخلافة» في الجزائر أحد مواطنيهم وبعد أن تبين أنه ما لا يقل عن 1200 فرنسي أو مقيم على الأراضي الفرنسية «على علاقة» بالحرب في سوريا وبمنظمات متطرفة مثل داعش وجبهة النصرة. وزاد القلق الشعبي بعد انضمام باريس للتحالف الدولي. وفي الأيام الأخيرة، زادت المخاوف بعد عمليات إرهابية ضربت الأراضي الفرنسية ومنها كان على علاقة بما يجري في الشرق الأوسط.

عندما يسأم الفرنسيون من السياسة يتسلون بقصص «النجوم» وإحداها اسمها نبيلة بن عطية وهي فتاة رشيقة القامة، مزدوجة الجمال «بعضه طبيعي والبعض الآخر من صنع مبضع الجراحين الجماليين». واشتهرت نبيلة بفضل برنامج تلفزيوني وبميلها إلى إظهار أكثر مما تخفي. ومؤخرا، تربعت نبيلة على عرش نشرات الأخبار بعدما طعنت رفيق دربها في صدره العديد من المرات ذهبت بسببها إلى السجن ولم تخرج منه إلا بعد أسابيع بانتظار محاكمتها في الأشهر القادمة.

هكذا تسير الأمور في فرنسا: أرقام اقتصادية كئيبة وأخبار اجتماعية - نجومية محزنة ودعوات لالتزام «الحذر التام» والتعبئة ضد محاولات إرهابية. لكن الفرنسيين، ككل عام، يتناسون ذلك كله ليركزوا انتباههم على سهرة رأس السنة ولسان حالهم يقول: لدينا 365 يوما لننظر فيما يحمله إلينا هولاند وغيره من السياسيين.