.. الحرب على غولن

بدأها إردوغان مترنحا بفضائح الفساد.. وأنهاها منتصرا بمذكرة اعتقال حمراء لخصمه

مظاهرة لموظفين في أنقرة احتجاجا على السياسات الاقتصادية لحكومة تركيا في 6 ديسمبر الماضي (أ.ف.ب)
TT

دخلت تركيا عام 2014، وهي مترنحة جراء فضائح الفساد التي أثارتها توقيفات الشرطة لعدد من أبناء المسؤولين الأتراك؛ 3 منهم أبناء وزراء في حكومة رجب طيب إردوغان الذي كان واضحا في توجيه الاتهام إلى جماعة «الكيان الموازي»، وهي عبارة سوف تطبع الحياة السياسية التركية طوال العام، وفيها إشارة إلى جماعة الداعية الإسلامي فتح الله غولن الذي كان من أبرز حلفاء إردوغان خلال السنوات الـ10 الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، ويعتقد أن لهذه الجماعة نفوذا واسعا في صفوف الشرطة والقضاء التركيين.. ومن هنا بدأت الحملة.

بعد التوقيفات التي جرت، بدأت حرب التسريبات. كان واضحا أن جماعة غولن تمتلك الكثير من التسجيلات التي توحي بدور ما لإردوغان نفسه في عملية الفساد، خصوصا التسجيل الشهير الذي نُسب إلى إردوغان وابنه بلال، الذي قالت التسريبات إن له دورا في عملية الفساد.

كان رد فعل إردوغان في الثاني من يناير (كانون الثاني) 2014، دعوته الأتراك إلى الاحتشاد حوله لمحاربة ما وصفه بأنه «مؤامرة قذرة تنفذها عناصر مدعومة من الخارج تستهدف (الخبز على موائدكم والأموال في جيوبكم وعرق جبينكم)». وركز إردوغان في كلمته للحديث عن تحقيق في مزاعم فساد، يقول إنه دبر في أروقة الشرطة والقضاء لتقويض حكومته وإضعاف نفوذها في الشرق الأوسط وخارجه.

في 4 يناير: بعد استيعاب الضربة الأولى، من خلال تعديل حكومي واسع، بدأ إردوغان حملة مضادة استهدفت نفوذ جماعة غولن في الشرطة، وانطلق مسار تسريح ونقل ضباط الشرطة وموظفين رسميين آخرين بـ350 شرطيا، بينهم مسؤولون عن مكافحة الجرائم المالية، وفي 29 من الشهر نفسه انتقلت الحملة إلى القضاء، حيث تمت تنحية أكثر من مائة قاضٍ في إسطنبول، من بينهم مدعيان مكلفان التحقيق في فضيحة الفساد التي تطال رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان. وقد توسعت هذه الإجراءات لتشمل خلال 2014 أكثر من 50 ألف موظف حكومي وقاضٍ.

ولمواجهة عمليات التسريب التي كان يقوم بها أنصار غولن يوميا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تبنى البرلمان التركي سلسلة تعديلات مثيرة للجدل تعزز مراقبة الدولة على الإنترنت، واعتبرتها المعارضة التركية وكثير من الجمعيات غير الحكومية «خنقا للحرية». ويتيح النص الجديد، خصوصا لسلطة الاتصالات الحكومية، أن توقف من دون قرار قضائي مواقع الإنترنت التي تمس بـ«الحياة الخاصة» أو تنشر ما يُعتبر «قذفا أو شتائم». كما يتيح أيضا لهذه السلطة أن تطلب بموجب القانون من شركات الإنترنت الوصول إلى معلومات تعود لسنتين من المواقع التي يزورها أي شخص، وكذلك تخزينها.

وفور توقيعه القانون، خسر الرئيس التركي عبد الله غل 80 ألف شخص من متابعيه على موقع «تويتر» للتواصل الاجتماعي. وأعلن عبد الله غل، الذي يتابعه أكثر من 4 ملايين شخص، على «تويتر»، في تغريدة إنه صدق على التشريع بعد ضمانات حكومية بتعديل مادتين مثيرتين للخلاف.

ولم تتوقف التداعيات على ذلك، فقد أعلنت صحيفة «جمهورييت»، أقدم وأهم جريدة في تركيا، أنها ستمحو أرشيفها وكل الرسائل الإلكترونية من نظامها، وذلك ردا على قانون أقره البرلمان لـ«تحصين المخابرات».

وأوضحت الصحيفة أن القانون الجديد يلزم جميع المؤسسات العامة والخاصة في الدولة بتزويد المخابرات بأي معلومات أو سجلات أو وثائق في حال الحاجة إليها، وذلك دون إذن قضائي ودون محاسبة أو مراجعة، مما يعني انتفاء قاعدة حماية الصحافي لمصدر المعلومة الذي ينص عليه قانون الصحافة في البلاد.

وصعد إردوغان من ضغطه على جماعة غولن، فأقر البرلمان في الأول من مارس (آذار) تشريعا يقضي بإغلاق مدارس إعدادية خاصة يعد كثير منها مصدرا للدخل والنفوذ لجماعة غولن.

ولمواجهة حرب التسريبات التي كانت مستمرة بقوة في تركيا، عشية الانتخابات البلدية، حجبت الحكومة التركية موقع «تويتر» ثم «يوتيوب». ونفذت هيئة الاتصالات قرار محكمة بحجب «تويتر» الذي اتهمته بإهمال «مئات القرارات القضائية» لإزالة روابط إلكترونية «اعتُبرت غير قانونية»، في إشارة إلى نشر حسابات على الموقع لتسجيلات هاتفية منسوبة إلى إردوغان ومقربين منه، تتحدث عن فساد مالي ضخم وتدخّل رئيس الوزراء في كل شؤون الحياة العامة. وتوعد إردوغان بـ«اجتثاث (تويتر) من جذوره»، قائلا: «لا أفهم كيف يدافع شخص عن (فيسبوك) و(يوتيوب) و(تويتر)».

ورغم حملة التسريبات التي شنت، وتوحد المعارضة التركية بأكملها في مواجهة إردوغان، نجح الحزب الحاكم بالفوز في الانتخابات البلدية بقوة. واحتفظ حزب العدالة والتنمية بالسيطرة على أكبر مدينتين (إسطنبول وأنقرة)، وزاد حصته من الأصوات على المستوى الوطني في الانتخابات المحلية، لكن المعارضة شكت من عمليات تزوير. وقال مصطفى ساريجول مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض لرئاسة بلدية إسطنبول الذي هُزم في الانتخابات: «أيا كانت نتائج الانتخابات فإنها ستدخل بكل أسف تاريخ ديمقراطيتنا كانتخابات مشكوك فيها». وتابع: «سرقة صوت واحد هي علامة سوداء للديمقراطية».

وكما كان متوقعا، تسلح إردوغان بفوزه الانتخابي للمجاهرة برغبته بالترشح للانتخابات الرئاسية المقررة في أغسطس (آب) 2014. وفي خضم حربه ضد جماعة غولن، كان إردوغان يتابع تصفية إرث الانقلابيين، فأصدرت محكمة تركية في يونيو (حزيران) حكما قضى بسجن مسؤولين اثنين مدى الحياة لاتهامهما بتدبير انقلاب عسكري عام 1980، وهما «قائد القوات الجوية السابق» و«الرئيس الذي تولى رئاسة البلاد بعد الانقلاب». وقد صدر الحكم بحق الرئيس السابق كنعان ايفرين وقائد القوات الجوية السابق تحسين شاهين كايا، وهما من مواليد 1925. ويشار إلى أن الاثنين هما العضوان الوحيدان بقيادة الانقلاب اللذان ما زالا على قيد الحياة.

ومرة جديدة حاولت المعارضة التركية التوحد في مواجهة إردوغان، متسلحة بتقارب الأصوات في الانتخابات البلدية، فقدمت مرشحا إسلاميا هو الأمين العام السابق لمنظمة المؤتمر الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلو، الذي فشل في جر إردوغان إلى جولة ثانية، ففاز رجل تركيا القوي من الدورة الأولى بنحو 51 في المائة من الأصوات.

وفور فوزه، وقبل تسلمه منصبه في 28 أغسطس (آب)، باشر إردوغان إجراءات خلافته، فرشح وزير الخارجية أحمد داود أوغلو لرئاسة الحكومة المقبلة، وحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا. ودعا إلى مؤتمر عام للحزب قبل تسلمه منصبه، حيث انتخب داود أوغلو رئيسا للحزب الحاكم، وبالتالي أصبح رئيس الوزراء، في خطوة رأى فيها كثيرون أنها محاولة لاستباق أي دور للرئيس السابق عبد الله غل، الطامح إلى العودة للحياة السياسية من بوابة الحزب والحكومة.

وأكد داود أوغلو من جهته أمام المجتمعين على ولائه المطلق لإردوغان، وقال: «لن يكون هناك أي خلاف بين الرئيس ورئيس وزرائه، سنبني تركيا الجديدة يدا بيد (...) لن تنمو أي بذرة خلاف بين رفيقين». وفي كلمته، تعهد داود أوغلو بمواصلة معركته ضد «أعداء الدولة» في إشارة إلى جماعة فتح الله غولن، ووصف المظاهرات ضد الحكومة صيف 2013 بأنها «مؤامرة».

وانتهى العام، كما بدأ؛ ففي خطوة رمزية في توقيتها، قامت الشرطة التركية، عشية الذكرى السنوية الأولى لفضيحة الفساد، بحملة واسعة على مناصري غولن، خصوصا الإعلاميين، حيث تم توقيف رئيس تحرير صحيفة «زمان» أكرم دومانلي، ورئيس مجموعة «سمان يولو» الإعلامية هدايت كارجا بتهمة «الانضمام إلى منظمة إرهابية». وكان إردوغان قد هدد «بمطاردة أنصار غولين في جحورهم».

وتطورت الأمور في الـ19 من ديسمبر (كانون الأول) إلى إصدار القضاء التركي مذكرة توقيف بحق الداعية فتح الله غولن، لأنه «قائد منظمة إرهابية».

وفي وقت لاحق، أصدرت السلطات التركية مذكرة توقيف حمراء بحق غولن، طالبة من الإنتربول تعميمها على الدول الأعضاء، لتوقيف غولن.

* ألو فاتح

* أصبحت كلمة «ألو فاتح» رمزا لتدخل إردوغان المباشر في وسائل الإعلام للرقابة على المحتوى الذي تقدمه.

وفي أحد تلك التسجيلات المسربة لمكالمة هاتفية توحي بأنها لإردوغان ورجل الأعمال التركي فاتح سراج، يأمر «المشتبه في أنه إردوغان» بحذف أحد الأخبار التي شاهدها على قناة «خبر ترك»، وهو خبر يتناول تصريحا لزعيم حزب الحركة القومية المعارض، دولت باهشلي، يدعو فيه الرئيس عبد الله غل، للتدخل في أزمة احتجاجات حديقة «جيزي بارك» في إسطنبول، الصيف قبل الماضي. وفي تسجيل آخر بث على الإنترنت أيضا، يتحدث فاتح سراج مع موظف في القناة ينقل له طلب إردوغان، فيرد الموظف: «تمام أفندم»، وهي حادثة تكشف مدى الاتهامات الموجهة لرئيس الوزراء التركي بالتدخل في شأن وسائل الإعلام.