أضواء جديدة على حياة تنيسي ويليامز

حول مادة حياته إلى فن وخبرته الذاتية الخاصة إلى رمز إنساني عالمي

مارلون براندو وفيفيان لي في مشهد من فيلم عربة اسمها «الرغبة»
TT

تبرز في تاريخ المسرح الأميركي في القرن العشرين، 3 أسماء تشترك في الموهبة وعمق التأثير، وإن اختلفت بها السبل: يوجين أونيل، وآرثر ميللر، وتنيسي ويليامز، والأخير هو موضوع كتاب ضخم صدر في 2014 في 784 صفحة عن دار النشر «بلومزبري سيركس»، تحت عنوان «تنيسي ويليامز: رحلة الجسد المجنونة» من تأليف جون لار.

يتتبع الكتاب رحلة ويليامز منذ مولده في 1911 حتى وفاته في 1983، وُلد تنيسي في كولومبس بولاية ميسيسيبي، لكن أسرته انتقلت إلى مدينة سان لوي عندما بلغ الـ12، أثناء فترة الكساد الاقتصادي عمل في مصنع للأحذية، وتمكن من الالتحاق بجامعة أيوا، وتخرج فيها سنة 1940، ثم عمل مع إحدى شركات الأفلام في هوليوود.

عانى ويليامز من الشعور بالإخفاق منذ فترة مبكرة من حياته. كان ينظر بعين الشك إلى المسرح التجاري، وكان في الوقت ذاته منجذبا إليه على نحو لا يقاوم. وكثيرا ما أعلن أنه سيتوقف عن كتابة المسرحيات، أو على الأقل عن الكتابة لمسرح برودواي التجاري، ومع ذلك كان يعود إلى الكتابة له أملا في النجاح.

ذهب المخرج الأميركي إيليا كازان - الذي تولى إخراج مسرحيات ويليامز - إلى أن هذه المسرحيات «يمكن قراءتها على أنها سيرة ذاتية ضخمة»، وقد كانت، فعلا، تشتمل على عناصر أوتوبيوغرافية كثيرة. بل إنه كثيرا ما كان يتخذ من الإبداع وسيلة للتعويض عما فاته في الحياة. ويضرب إدموند هوايت، أستاذ الكتابة الإبداعية بجامعة برنستون الأميركية، مثلا على ذلك: «لقد قال ويليامز عن نفسه ذات مرة إنه (يشعر دائما بأنه ممل، وأنه شديد الدمامة)». ومع ذلك فإنه في أول مسرحية جدية يكتبها، وعنوانها «معركة الملائكة» (1940)، يجعل بطله سنيك اسْكِن (جلد الثعبان)، نموذجا للرجولة والإثارة، تنجذب إليه نساء القرية. وفي أول مسرحية له تحرز نجاحا ساحقا، مسرحية «معرض الحيوانات الزجاجية» (1944)، صور حياة أسرته بطريقة مباشرة؛ الأب الغائب، الأم الهستيرية، الأخت الرقيقة الهشة، والأخ (ويليامز نفسه) المصمم على أن يترك هذا كله ويرحل بعيدا.

وجون لار - مؤلف الكتاب الذي نعرضه - يعرض لحياة ويليامز من زاوية التحليل النفسي. انظر مثلا إلى مسرحية ويليامز المسماة «وشم الوردة» التي يبدو لأول وهلة أنها لا علاقة لها بسيرته الذاتية. إن بطلة المسرحية سيرافينا أرملة صقلية، تعيش في حالة حداد على موت زوجها، وقد نذرت أن تظل مخلصة لذكراه، ولكنها لا تلبث أن تنجذب إلى سائق شاحنة مهرج يجدد فيها الرغبة في الحياة. ويبين لار أن هذه القصة قريبة مما حدث لويليامز ذاته، حيث دخل في علاقة غرامية كسرت أسوار عزلته.

انتقلت حياة ويليامز من أزمة إلى أزمة (تعاطي مخدرات، إدمان للخمر، جلسات انسحاب من آثار المخدر، فشل بعض أعماله على خشبة المسرح، علاقات غرامية كانت تنتهي دائما بكارثة). ويصوغ لار الأمر على النحو التالي: «لقد كان ويليامز عرضا مستمرا بلا استراحة». وكان متأخر النمو إبداعيا، فحين قدمت مسرحية «هواية الحيوانات الزجاجية» على خشبة المسرح، كان يبلغ من العمر 34 عاما. وفي العقد الثاني من عمره (وطيلة حياته) ظل يكتب قصصا قصيرة وقصائد متأثرة بأسلوب الشاعرة الأميركية إيمي لويل، لكن قصصه كانت عجائبية غريبة (في إحداها نجد أن اختصاصي مساج أسود يأكل لحم عميله الأبيض)، وقصائد ذات حلاوة زائفة. وقد سخرت الروائية الأميركية ماري مكارثي، مما كان يُدعى «الواقعية الشاعرية» في عمله.

وكانت لويليامز ذاته شكوك فيما إذا كان قد نجح في المزاوجة بين الواقعية والشاعرية. وفيما بعد انتهى إلى أن طريقة مزاوجته بينهما من طراز قديم، عفا عليه الزمان.

كانت أم ويليامز متزمتة أخلاقيا، من طائفة الكويكرز. وقد كتب ويليامز في يومياته: «لا بد أن أمارس مزيدا من النظام على نفسي. وإني لمصمم على أن أفعل هذا». وهكذا فإنه مهما صادفه الفشل في حياته الشخصية والأدبية، كان يعود دائما للكتابة جالسا إلى مكتبه في كل صباح. لقد كان يجد في الكتابة خلاصه الشخصي. وكتب من المسرحيات الناجحة، التي دخلت الربرتوار المسرحي، أكثر مما كتب أي أديب آخر من معاصريه.

لقد كان الممثلون، ببساطة، يميلون إلى تجسيد شخصياته ومواقفه. «معرض الحيوانات الزجاجية»، «عربة ترام اسمها الرغبة»، و«شم الوردة»، «صيف ودخان»، «فجأة في الصيف الماضي»، «قطة على سطح من الصفيح الساخن»، «ليلة الإيجوانا» (زاحفة أشبه بسحلية ضخمة): «كانت هذه أمثلة لنجاحه. وكانت كل مسرحية منها لافتة للأنظار، بل صادمة، في عهد الرئيس أيزنهاور الأقرب إلى المحافظة. وفي البداية، كان ويليامز موضعا لهجوم مجلة (تايم) عليه، ثم ما لبث أن حظي بثنائها. ويدلنا التاريخ على أن كثيرا من الأعمال الفنية الكبيرة كانت صادمة لدى ظهورها، قبل أن تستقر مكانتها في التاريخ الأدبي: (مدام بوفاري) لفلوبير، (أزهار الشر) لبودلير، (يوليسيز) لجويس، (لوليتا) لنابوكوف».

ولكن ويليامز كان يخاف من الفشل خوفا مضاعفا، فقد جرب الفقر في طفولته، وخسر ماليا حين لم تلق مسرحيته الأولى «معركة الملائكة» صدى حين عُرضت في بوسطن، بل أغلقت أبوابها بعد أسبوعين من العرض (فيما بعد أعاد ويليامز كتابتها تحت اسم «أورفيوس يهبط»). كان من الممكن أن تثبط هذه الخبرات المحبطة من عزيمته، ولكنه صمد لها، وأعلن أنه مثل العنقاء التي تُبعث (بعد أن تحترق) من الرماد.

هكذا اتسم ويليامز بإرادة لا تُقهر، وشجاعة في وجه المصاعب، ولكنه عرف أيضا فترات من القلق والخوف. وفي عقب كل فترة كان يعود إلى الكتابة. ومهما يكن من أمراضه الحقيقية أو المتوهمة، عزلته أو هزيمته، فقد ظل يكتب ويكتب. كانت المسرحيات والقصائد والقصص القصيرة تخرج من تحت قلمه غزيرة، وكان يفعل ذلك بسرعة لا تُصدق، إذ ينشئ عملا أو عملين في يوم واحد. وإذا رفضت إحدى المجلات قصة أرسلها لها، رد على ذلك بإرسال 10 قصص إلى مجلات أخرى في أنحاء القارة الأميركية. لاح أحيانا أنه يرمي بكتاباته إلى الدنيا، منتظرا أن يتجاوب معها أحد.

ويقول إدموند هوايت إن من النكسات التي تعرض لها ويليامز الفشل التجاري الساحق لمسرحيته المسماة «قطار اللبن لم يعد يتوقف هنا»، عند تقديمها على أحد مسارح برودواي، في مطلع ستينات القرن الماضي. وأعقبها فشل مسرحيات أخرى له. وفي كل مرة كان النقاد يمثلون بويليامز تمثيلا. وعبر ويليامز عن شعوره آنذاك، بقوله لصديقه الروائي الياباني يوكيو ميشيما، إنه يشعر وكأن قطيعا من الفيلة راح يمثل بجسمه، من دون أن يكون عليه فازلين يحمي بشرته. ومثل كثير من كتاب الجنوب الأميركي، فوكنر مثلا، كان مدمنا للخمر.

وخلال هذا كله وقف المخرج إيليا كازان إلى جوار ويليامز يدعمه ويرفع من روحه المعنوية. وحديثا نشرت رسائل كازان، وهي تبين كيف أنه كان ينقذ مسرحيات ويليامز من الفشل في كل مرة، مستغلا إمكاناتها الميلودرامية في اجتذاب الجمهور. هذا فضل يُحسب لكازان، ويخفف من ذنبه، الذي ما زال يلام عليه حتى اليوم، لأنه وشي بأسماء زملائه من الكتاب والفنانين المتعاطفين مع اليسار أمام لجان التحقيق التي أقامها السيناتور مكارثي، على حين ظل أدباء آخرون مثل آرثر ميللر، صامدين يأبون الوشاية بأحد، رغم كل ما تعرضوا له من ضغوط ومغريات.

والانطباع الأخير الذي يخرج به قارئ هذه السيرة الموثقة لحياة ويليامز (بكل ما حفلت به من تقلبات) هو أنه واحد من أولئك الأدباء الذين لا يمكن فهم أعمالهم بمعزل عن حياتهم. لقد كتب، إلى جانب مسرحياته الطويلة والقصيرة، روايتين، وقصصا قصيرة، وشعرا، ومقالات، ومذكرات. وحصل على جائزة بوليتزر، أرفع الجوائز الأدبية الأميركية مرتين؛ في 1947 وفي 1955.

وصور في أعماله العنف الكامن (تحت قشرة الحضارة) في مجتمع الجنوب الأميركي. وبرع في رسم الشخصيات النسائية بشكل خاص (من الذي يستطيع أن ينسى بطلته بلانش دي بوا، في «عربة ترام اسمها الرغبة»، هذه التي قست عليها الحياة وعانت من ظلم ذوي القربى واستغلالهم لها، فلم تجد ملاذا، وقد تحطمت حياتها وقواها العقلية، إلا في «عطف الغرباء»؟). كان ويليامز متأثرا بعلم النفس الفرويدي؛ كتب عن الكبت الجنسي، والعصاب، وصراع الوهم والحقيقة. ولكنه في هذا كله كان يحيل مادة حياته إلى فن، ويحول الخبرة الذاتية الخاصة إلى رمز إنساني عالمي، وهذا هو إنجازه الأكبر.