رحيل الأب بيير «ضمير فرنسا»

دفع ثمن وقوفه مع المفكر غارودي ضد «اللوبي الصهيوني».. والرئيس شيراك ينعاه: البلاد أصيبت في قلبها

TT

رحل أمس الأب بيير، أكثر الفرنسيين شعبية واحتراما، والكاهن الذي أوقف حياته على خدمة الفقراء والمشردين، ومؤسس جمعية «إيمايوس» الدولية للعمل الانساني. وجاءت وفاة الأب بيير، عن 94 عاما، في ساعة مبكرة من الصباح حيث كان يعالج من نزلة رئوية في مستشفى «فال دو غراس» العسكري في باريس. وبهذا غاب نبأ رحيله عن الصحف الصادرة الفرنسية صباح أمس، لكنه احتل صدارة نشرات الأخبار في الاذاعة والتلفزيون.

وأعلن الرئيس الفرنسي جاك شيراك عن حزنه للنبأ قائلاً «إن فرنسا كلها اصيبت في قلبها» بعد أن «فقدت شخصية هائلة، وضميراً، وتجسيداً للمروءة».

والتحق هنري غرويس، وهذا هو اسمه قبل انخراطه في سلك الرهبنة، بالمقاومة الفرنسية للاحتلال النازي لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، وهرب من ملاحقة الجستابو الى الجزائر حيث التقى الجنرال ديغول، لأول مرة، عام 1943. وجرى انتخابه بعد التحرير نائبا في البرلمان بين عامي 1945 و1951. وفي عام 1947 أسس جمعيته التي شكلّت مجتمعا من الفقراء وراح يبني البيوت المؤقتة للمشردين.

وذاعت شهرة الأب بيير عندما وجّه في شتاء 1954 نداء من الاذاعة دعا فيه الى «انتفاضة المروءة لصالح من لا سقف له». ولقي النداء استجابة تبعتها حملة شعبية كبرى للتضامن، وبعد أسابيع أقر البرلمان برنامجاً لتشييد عشرات الآلاف من المساكن لمن لا مأوى لهم.

وتوسعت جمعية «إيمايوس» وفتحت لها فروعا في أربعين بلدا. ولما أنعم رئيس الجمهورية على الأب بيير بوسام الشرف من رتبة «ضابط أعلى» عام 2001، رفض تقلد الوسام احتجاجا على تأخر الحكومة في تنفيذ مشاريع الإسكان للفقراء. كما أصدر في شتاء 2004 بياناً ضد الفقر، بعد نصف قرن من ندائه الأول. ولقي النداء التقدير في بلد يعيش فيه 5 ملايين معوز، بينهم مليون طفل.

لكن معركة الرجل مع الظلم والنفاق قادته الى مأزق كاد أن يودي به ويصفيه معنويا. ففي عام 1996 أرسل رسالة تضامن مع صديقه المفكر روجيه غارودي في الحملة التي تعرّض لها بعد صدور كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية»، وهو كتاب تم ادراجه في سياق الاطروحات الناكرة لحجم الإبادة التي لقيها اليهود في المعسكرات النازية. وذهب الأب بيير أبعد من ذلك حين قال إنه يرى الضحايا اليهود وقد تحولوا الى جلادين. وزاد بأن حمل، في تصريح لصحيفة «كورييري دي لا سيرا» الإيطالية على ما سماه «اللوبي الصهيوني العالمي».

وقامت الدنيا على الأب بيير وجرى فصله من الرابطة الدولية لمناهضة العنصرية واللاسامية بعد أن كان عضوا في مجلس الشرف فيها. وطلب اليه اسقف باريس، إثر الضجة، أن ينسحب من الحياة العامة. وبالفعل اعتزل الكاهن العجوز في أحد الأديرة الايطالية وأعلن، بعد تردد، في تصريح لصحيفة «لا كروا» الفرنسية أنه «يترك لله وحده أن يحاسب الناس على النوايا». لكن تلك القضية لم تؤثر كثيراً على شعبية الأب بيير بين مواطنيه، إذ عاد الى العمل الانساني واعترف في تصريح لجريدة «ليبراسيون» الباريسية بأنه، طيلة حياته، لم يقابل كل ذلك العدد من الناس الذين شكروه لأنه امتلك شجاعة الكلام عن موضوع يعتبر من المحرمات.

وكان آخر مواقفه الشجاعة ذلك الذي أعلن عنه في كتابه الصادر عام 2005 بعنوان «إلهي... لماذا؟» الذي اعترف فيه بأنه نكث، في بداية حياته، عهد العفة الذي يلتزم به رجال الكنيسة الكاثوليكية، داعياً الى السماح بزواج الرهبان وبقبول النساء في سلك الكهنوت والتسامح مع المثليين. وبهذا ظل الأب بيير ثوريا وتقدميا وشجاعاً حتى نهاية حياته التي فارقها، تاركاً المئات من خيم المشردين منصوبة وسط زمهرير الشتاء تحت جسور باريس.