يد سمحة ممدودة للحوار

رواية «شرقية في باريس» لعبد الكريم غلاب

TT

للوهلة الاولى قد تبدو رواية "شرقية في باريس"، للكاتب المغربي عبد الكريم غلاب، ومن خلال العنوان، أنها حكاية شرقية منبهرة بأنوار باريس ومبادئها وقيمها التي ناضل من أجلها سنينا طويلة، لكن هذا الانبهار للأسف بدأ يفقد الكثير من بريقه ولمعانه، خاصة بعد سقوط جدار برلين، وسقوط الكثير من الأوهام واليقينيات التي ظللنا نؤمن بها ولفترة طويلة. "سامية" الفتاة السورية التي تدرس في باريس، والتي طالما حلمت بباريس الحرية وحقوق الإنسان، أحبت باريس، ليس لأنها باريس، بل لأنها عاصمة النور والحرية، ولأنها عاصمة حقوق الإنسان" (ص)204). هذه المحافظة التي تمردت على كل تقاليدها، لتندفع بكامل تلقائيتها وعطشها وعشقها وإيمانها بحضارة إنسانية سامية، تقع في حب شاب باريسي"أندري" وتتزوجه، فتصطدم بوجه مخيف لفرنسي متعصب لقيم ومبادئ عنصرية، قد تستفزه فقط علاقة حب بين فرنسي وزنجية في شوارع باريس الراقية، ويؤمن إيمانا راسخا أن هناك "ثلاثي صنعه شعب فرنسا بدمائه لأبناء فرنسا لا للأجانب" (ص82)، "أندري" لم يكن إلا نموذجا لذلك الخطاب العنصري الذي يؤمن بهيمنة الأنا وسيادة القوة والمادة والتكنولوجيا على كل لغة حضارية مهادنة، لكن سرعان ما كشفت لنا الرواية عن الوجه الآخر للغرب، الوجه المنفتح، الحضاري، الذي جسده "فرانسوا" عميد معهد دراسة سيكولوجية الشعوب ونفسياتها، هذا المعهد الذي ولجته "سامية" لاستكمال دراستها، فتتزوجه، لتلوح لهما معا من جديد، وفي أفقهما المشترك بارقة أمل في انصهار كل الحضارات في حضارة إنسانية واحدة."فرانسوا.. انتصرنا أنت وأنا.. في تأكيد الحقيقة. خرجت الحضارة – بحبنا - منتصرة من معطف صراع الحضارات.. لا شرق، لا غرب، لا شعب يملك ناصية الحضارة لتصارع الحضارات نهاية..."(ص231).

قد يبدو من الحيف اختزال رواية "شرقية في باريس" في مقولة كبرى، هي "حوار الحضارات"، فرغم النفس السياسي والفكري والفلسفي الذي يتخلل السير الحكائي للرواية، فإن الكاتب لا يفتأ يسافر بنا في فضاءات جمالية وفنية مختلفة: "متحف اللوفر"، مسرح "الكوميدي فرانسيز"، برج إيفيل"، "ساحة الكونكورد"، مقاهي ومطاعم الحي اللاتيني، فضاءات خففت عن سامية وقع صدمة زواجها الفاشل، وجعلتنا نرتاح في أبهائها من وعثاء سفر السياسة والفكر والجدل الصاعد، والخوض العميق والدقيق في قضايا كونية ومقولات كبرى، تشعرنا بالهم السياسي والفكري الجسيم الذي يشغل ويؤرق الكاتب المغربي عبد الكريم غلاب المبدع والمفكر والصحافي والسياسي. فهاته الصفات كلها تخترق دروب الرواية وشعابها، بتؤدة ورشاقة وخفة، وبتقنية استعادية وباقتضاب وسلاسة، وبلغة تمنحك نفسها بطواعية وبمرونة، بعيدا عن أي تمنع أو تعقيد أو ملل ورتابة، لتملأنا الرواية بمتعة فنية وجمالية، وتبهرنا بفكر وتحليل نفسي وسياسي وفلسفي عميق، تحليل جسده بشكل جلي طلبة المعهد المنحدرين من جنسيات وأصول متباينة، في محاضرات أشبه بالمناظرات السقراطية، محاضرات تستدعي الكثير من اليقظة والتنبه للإمساك بخيوطها، وهي إذ تشدنا بعمقها ورصانتها، فإنها تكشف لنا عن مرجعيات الكاتب الثرية، وتشبعه بثقافات وحضارات شعوب أخرى: سورية، مصر، السنغال، فرنسا..

إن القارئ لرواية "شرقية في باريس"، لا يمكن أن يخرج منها خاوي الوفاض، فبالإضافة إلى "لذة النص"، ومتعته التي تسري في جسدك كخدر جميل يدغدغك، وبالإضافة إلى المخزون الثقافي والفكري والسياسي والفني الذي تتزود به، فإنها، في هذا الأفق المكفهر المظلم، تعلن- على عكس الوصية التي تركها الكاتب الألماني ستيفان زيفايج بعد انتحاره في أعقاب الحرب العالمية، وهي "لم تعد هناك فرصة ثانية للعالم"- بأن ثمة في النص وفي العالم فرصة ثانية للحلم وللأمل والحب، "بداية مستقبل سعادة الإنسانية جميعها.ستشرق على العالم في ظل حضارة موحدة قوامها الحب."(ص231).

تقع الرواية في 231ص، من القطع الكبير، وهي صادرة عن منشورات مرسم بالرباط.

*كاتبة من المغرب