العوشزية.. عاصمة «الملح» السعودي

ينتشر قرب أكبر بحيرة في الجزيرة العربية.. ومصادر أكدت لـ«الشرق الأوسط» تلقي عروض من عدة شركات لاستثماره

جانب من مهرجان «قش الملح» السنوي
TT

على بعد 20 كيلومترا شرق محافظة عنيزة تقع بلدة صغيرة تدعى «العوشزية»، تستقبل زوارها بوجهها الثلجي الأبيض وبحيراتها المليئة بالكنوز، وتطفو على أطنان ضخمة من الملح الطبيعي المستخرج من بحيرة الملح المحاذية لبحيرة العوشزية التي تعد أكبر بحيرة في الجزيرة العربية بمساحة تبلغ حوالي 50 كيلومترا مربعا، وهذا الملح يمتاز بشدة نقاوته وطعمه اللذيذ، مما جعل أهل العوشزية القدامى يمتهنون استخراجه في بلدتهم الصغيرة التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى نبات العوسج المحيط بأرضها.

ويلفت نظر الزائر للعوشزية خطورة مدخلها القائم حالياً، والذي يعاني من الانحناء والضيق المساحي، مما جعله يشهد وقوع العديد من حوادث السير وخسائر الأرواح، إلا أن هواة مشاهدة هضاب الملح الأبيض النقي ما زالوا يتوافدون من محافظات منطقة القصيم في كل إجازة للاستمتاع بمشاهدة المنظر الخلاب الذي تكونه أطنان الملح المتكدسة، من دون أن تمنعهم وعورة الطرق وضيقها، خاصة بعد أن التزم أعضاء لجنة تطوير العوشزية، التي شُكلت أخيراً من أبناء هذه البلدة الصغيرة، بتحسين مدخل العوشزية وبناء المدخل الرديف.

يقول محمد المطرودي، رئيس مركز العوشزية، لـ «الشرق الأوسط»، ان الملح النقي كان يستخرج منذ القدم من البحيرة الواقعة في قلب البلدة الصغيرة، مفيداً بأن لجنة تطوير العوشزية التي شُكلت أخيراً ويقوم بترؤسها، بدأت في التوجه لاستثمار أطنان الملح ليكون مصدر جذب سياحي للعوشزية، أما في ما يتعلق بتصدير وتسويق الملح خارجياً، فأوضح المطرودي أن هناك عروضا من عدة شركات، لكن لم يُفصل بهذا الموضوع حتى الآن.

من جانبه، قال عبد الرحمن المقبل، أمين لجنة تطوير مركز العوشزية، لـ «الشرق الأوسط»، ان بحيرة الملح الواقعة في بلدة العوشزية هي عبارة عن بحيرة ملحية لها مسميات عديدة منها «سبخة العوشزية» و«مملحة العوشزية» و«الملح»، وأوضح أنها منطقة منخفضة تجتمع فيها مياه الأمطار في الشتاء فتشكل بحيرة مائية ضخمة تستمر طوال فترة فصل الشتاء ومن ثم تتحول إلى ملح الطعام الأبيض في الصيف بعد تبخر المياه.

وأردف المقبل بأن أطوال هذه البحيرة تأتي في حدود 10 كيلو مترات طولاً ويمتد بعرضها طريق معبد بطول 2.5 كيلومتر تقريباً، وأفاد بأن بحيرة العوشزية تتميز بمستوى عال من الملوحة. وأضاف قائلاً إن الدراسات التابعة لكلية الزراعة بجامعة القصيم أثبتت أن البحيرة تحتوي على المحلول المائي ذي التركيز الملحي العالي 40 ألف جزء للمليون، مما يدل على ارتفاع نسبة التركيز الملحي فيها إلى مستويات عالية تفوق المتعارف علمياً على ارتفاعه والذي يصل إلى 39500 جزء للمليون، وهو ما جعل المقبل يؤكد بأن بحيرة الملح في العوشزية هي الأعلى ملوحة على مستوى الشرق الأوسط.

فيما أشار رئيس مركز العوشزية إلى أن من أهم مميزات هذا الملح «أنه يتكون من 95 في المائة من كلوريد الصوديوم مقابل 5 في المائة من معادن أخرى منها الماغنيسيوم والكالسيوم والفسفور والأيودين، بالإضافة إلى أكثر من 70 عنصرا معدنيا آخر»، موضحاً أن ذلك يأتي بعكس الملح المكرر الذي لا يحتوي على أكثر من مادة واحدة من كلوريد الصوديوم بالجسم، مؤكداً أن ذلك يجعله قد يتسبب بإحداث مشاكل للكليتين وغدد الاردينيال بالجسم وتوترات عصبية وعضلية ونفسية وصداع مستمر إلى جانب الشعور بالقلق والاكتئاب.

وحول آلية استخراج وجمع ملح العوشزية يدوياً، أضاف المطرودي قائلاً إن جمعه يتم باختيار الموقع الأبعد عن الطريق حتى يكون الأكثر نقاوة، ثم اختيار الأحواض الأكثر استواءً لكي يتم التجميع بسماكة ثابتة ونقية من التراب، ويترك ماء بحيرة الملح ليملأ الأحواض ثم ينتظر لعدة أيام حتى يتبخر الماء نسبياً بعد مشاهدة تبلور الملح»، وأضاف: يلي هذه المرحلة تجمع الطبقة المتبلورة من الملح ثم تترك لتجف ثم تعبأ في أوعية مختلفة استعداداً لاستخدامها مباشرة.

ومع بدايات دخول السعودية إلى عهد التطور في ظهور طفرات مختلفة لكثير من الأعمال والصناعات والزراعات قديماً، كانت طفرة الملح هي العلامة التي تميزت بها بلدة العوشزية خلال عهد الملوك عبد العزيز وسعود وفيصل، حيث ساهمت سيارات اللوري (الشاحنات) في تسويق منتج الملح إلى المدن البعيدة، خصوصاً مدينة الطائف التي اشتهرت بصناعة دباغة الجلود، فكانت الشاحنات تنقل الملح من العوشزية إلى هناك، وكانت العوائل تخرج للعمل في تحميل الملح، واستمرت هذه الطفرة حتى ضعف إنتاج الجلد الطبيعي مع تحول الحياة إلى التحضر والمدنية، فقلّ دخل العوشزية من تحميل وبيع الملح ثم خف تركيز أهل البلدة على جمع الملح. فيما يعود المقبل للقول: «أتذكر أن البحيرة امتلأت بالماء إلى الحد الذي تساوت فيه أطرافه مع الطريق المسفلت داخل الملح، رغم ارتفاعه بما يوازي المترين عن قاع البحيرة الطيني الذي لا يظهر إلا في فصل الشتاء عند ذوبان الملح»، وأكد المقبل أن ذلك حدث قبل حوالي 10 سنوات، مما حدا بالكثير من سكان القصيم ـ لاحقاً ـ إلى زيارة البحيرة والاستمتاع بصوت مائها وصورته وتعانقه مع كثبان النفود المحيطة بالملح، بحسب قوله. وبسؤال المقبل عن أسباب غياب رؤوس الأموال عن استثمار بحيرة الملح حتى اللحظة، أرجع ذلك لضعف تركيز أهل البلدة على ملح العوشزية بسبب وجود النوعيات الأرخص والأقل جهداً في البحث، وأوضح أن العوشزية اليوم يوجد بها مركز لتصدير وتعبئة وتسويق ملح البحيرة، مضيفاً بأن أعضاء لجنة تطوير العوشزية تحملوا مهمة الإشراف على هذه العملية بهدف «الاستفادة من أطنان الملح الطبيعي اعلامياً وسياحياً».

واستحضاراً لثروة بحيرة الملح الشعبية، أقر أهالي العوشزية عقد فعالية «قش الملح»، التي أقيمت ضمن فعاليات مهرجان محافظة عنيزة السياحي في السابع من شهر يوليو (تموز) الماضي لتعتمد سنوياً في نفس التاريخ في موضع بحيرة الملح بمركز العوشزية، وذلك بهدف تذكير الجيل الجديد بالطريقة التقليدية لجمع الملح، إلى جانب ما كشفته مصادر «الشرق الأوسط» من توجه لاستحداث مهرجان سياحي كبير على مستوى المنطقة يحمل اسم «بحيرة الملح للآليات المائية» والذي ينتظر أن يرى النور في المستقبل القريب، بالإضافة إلى مهرجان العوشزية السياحي الأول الذي سيدشن أواخر هذا العام بالتزامن مع إجازة عيد الأضحى المبارك.

في حين كشف المطرودي بأن لجنة تطوير مركز العوشزية أعدت مجموعة من الخطط التي من أبرزها مشروع شاطئ بحيرة الملح، وأوضح أن هذا المشروع ستتشارك فيه اللجنة مع عدة جهات، ويهدف إلى بناء كورنيش مائي في بحيرة الملح، وأفصح أن خطط السير في هذا المشروع توصلت حتى الآن إلى حفر بئر ارتوازية، والعمل على تجهيز استراحات البحيرة السفلية، وأضاف موضحاً أن هذا المشروع لا يزال يحتاج إلى المزيد من العمل والدعم.

ويحضر ملح بحيرة العوشزية في ذاكرة الكثير من الكتاب والرحالة، حيث ذكره أمين الريحاني، الرحالة الشهير، في كتابه (ملوك العرب)، قائلاً: «قطعنا صفيحة من هذا الملح فإذا سمكها أربعة أصابع ويتخلله شيء من التراب والقش أما إذا دنوت من وسط القاع فيزداد السمك ويصفو الملح فيقل فيه التراب». في حين يصف الرحالة الانجليزي سانت جون فيلبي الذي زار العوشزية عام 1917 ملحها قائلاً: «وصلنا إلى غور واسع من الملح يستمر عدة أميال على طول الجبل يسمى مملحة العوشزية التي تبدو كبحيرة ضخمة متجمدة ومغطاة بالثلج ولكنها تحتوي على طبقة من الملح الأبيض الصافي بعمق قدم واحد وبعدها طبقة من الطين الأسود الذي يصبح بعد سقوط الأمطار خطراً على من يسير عليه».

جدير بالذكر، أن بلدة العوشزية متنوعة التضاريس ما بين أراض طينية زراعية خصبة وأراض صحراوية وأراض رعوية، ويعمل سكانها بالزراعة، وتشتهر بزراعة القمح والشعير والأعلاف والتمور الممتازة مثل (السكري، البرحي، الشقراء، المكتومي)، كما يعمل السكان الرحل بالرعي وتربية الماشية، وتتمتع بلدة العوشزية بكافة الخدمات والإدارات الحكومية، حيث يوجد فيها مركز للرعاية الصحية الأولية به طاقم تمريض وطبيب عام وأجهزة متطورة، كما توجد بها مدرستان ابتدائيتان واحدة للبنين والأخرى للبنات، بالإضافة إلى مكتب للبريد.