صوت أسمهان يشدو فوق «قصر بيت الدين» بوجود عائلتها

تحية إلى حنجرة كريمة الصقلّي الماسية

كريمة الصقلي تشدو في افتتاح «مهرجانات بيت الدين» (تصوير: جوزف أبي رعد)
TT

أدهشت جمهورها، مساء أول من أمس المطربة المغربية كريمة الصقلي، وهي تفتتح «مهرجانات بيت الدين» في حفل خاص أحيته تحية للفنانة أسمهان، مستعيدة أجمل أغنياتها، ومعيدة الجمهور إلى عبقرية موسيقى ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. وإن كان الجمهور اللبناني يعرف اسمهان، ويجهل بغالبيته الساحقة كريمة الصقلي، فقد كان مفاجأة سارة تشبه العيد الذي يباغت الجموع ذاك الصوت الفريد الذي أطلقته في سماء بيت الدين هذه المطربة المغربية المتسلحة بموشحات الأندلس ومقاماتها، متقمصة روح أسمهان، ومصحوبة ببراعة الأداء المميز لفرقة حفني الموسيقة المصرية بقيادة المايسترو يحيى محمد الموجي، الآتي هو الآخر من عالم الألحان الخلابة.

ابتدأت بالأغنية الساكنة وجدان «السمّيعة» «»إمتى حتعرف إمتى... إنّي بحبك إنت»، وانطلقت الصقلّي لساعتين متواصلتين، من دون استراحة، تشدو تارة مقلدة العصافير في أغنية «يا طيور» مزقزقة بحنجرة فريدة، وتارة أخرى تدخلنا جنينة تشم فيها رائحة الزهور وترقب عشق الطيور، إلى ان وصلت بالحضور إلى «ليالي الأنس في فيينا» حيث تجلى صوتها متردداً صداه وسط جبل لبنان. وعلى المسرح المفتوح والمشرع على سماء ندية، في ساحة قصر بيت الدين التاريخي بقناطره وشرفاته، بدت الصقلي مسكونة بأسمهان تلك المرأة التي بقيت اسطورة حتى في زمن الفيديو كليب، لكنها اضافت إليها نكهة خاصة، وإلى أغنياتها سحراً جديداً، ربما لا يلمسه واحدنا حين يسترجع اسمهان مسجلة وطالعة من غبار الأيام.

ورغم ان هذه الفنانة المغربية التي عرفت منذ العام 1999 من خلال مهرجان الأغنية العربية، ليس لها اليوم سوى اسطوانة واحدة تحمل عنوان (وصلة) «إنتاج معهد العالم العربي عام 2007» الا انها حين حلّت على مصر أمتعت، وعندما مرّت بدمشق في مايو الماضي خلبت، وفي لبنان هزّت حضورها حتى بدا وكأنما خدر خيّم على الأجواء، وباتت أي حركة من المزعجين، المتأخرين عن الوصول على الموعد المحدد للحفل أو الراغبين في تغيير أماكنهم مثار استهجان واستنكار شديدين من المنطربين حتى التجلي.

أريد من الحفل الذي يفترض ان يكون طربياً بامتياز ان يخاطب الحواس كلها، فانتصبت شاشتان عملاقتان على خلفية المسرح، كانتا تبثان، على الجانبين مقاطع من أفلام لأسمهان، اختيرت بعناية لتجعل من اللقطات السينمائية التي تتداخل مع الأغنيات أو تقدم لها، جزءاً من عرض متكامل. وكأنما ذهب الجمهور لاستحضار اسمهان صوتاً وصورة ورمزاً، وحقبة تاريخية كاملة بنجومها مثل يوسف وهبي وانور وجدي وبشارة واكيم الذين يخرجون من المشاهد نابضين، متحاوين وساخرين. وقبل ان تبدأ الصقلي غناءها، رأينا على الشاشتين لقطات سينمائية لجمهور اسمهان في فيلم «غرام وانتقام» يستعد لإطلالتها من أجل الغناء ثم حضرت الصقلي لتشدو، وبين الأغنية والأخرى كانت المشاهد تعود لتطل وكأنها تحضّرنا للأغنية التي تليها، ثم تبقى المشاهد تصاحب الأغنية أحياناً، لنرى مثلاً أسمهان تصب القهوة وتغني أغنيتها الشهيرة «قهوة» بملابسها البدوية وتوزعها على الجالسين، بينما غاب صوتها ليحل مكانه صوت الصقلي تشدو الأغنية نفسها. وظهرت عبقرية هذا الإخراج الفني للحفل في أغنية «ليالي الأنس» حين طلعت اسمهان من الشاشة عملاقة طويلة القامة وأمامها قامة الصقلي تردد الأغنية بصوتها، وأحياناً نرى الراقصين على هذه الأغنية كما أدوا وصلاتهم في عام 1944 في فيلم «غرام وانتقام».

«إمرح واطرب. إفرح واشرب» تقول اسمهان من خلال حنجرة الصقلي، والجمهور يردد معها، وكأنما هذه المطربة التي طوتها موضات كثيرة وهجينة في عالم الغناء العربي رجعت لترفرف بروحها فوق جبل لبنان، فيما ابنتها الوحيدة كاميليا جنبلاط التي انجبتها من زوجها حسن الأطرش تجلس في الصفوف الأمامية وإلى جانبها الحفيدة سهى. لفتة نادرة في مجال الفن العربي، ليس فقط في التوليف الفني المتقن الذي سعت إليه «مهرجانات بيت الدين» لتعريف الأجيال الجديدة بالفن الأصيل وإنما أيضاً في تواضع فنانة مثل كريمة الصقلّي، تستطيع بصوتها النادر وحنجرتها المصقولة والمدربة حد الإدهاش، ان تصنع نجوميتها الخاصة، لكنها تقبل وتتطوع ان توظف هذا الصوت، لاستعادة أمجاد الآخرين بدل ان تصنع مجدها بمعزل عنهم. أول من أمس، وفي افتتاح «مهرجانات بيت الدين» الموفقة، تزاوجت خبرة الموشحات والمقامات الأندليسة التي تختزنها كريمة الصقلي مع المهارة المصرية التي تجلت في أداء فرقة حفني، واندغمت في نسيج الذوق اللبناني التوليفي لإخراج هذا الحفل وتكريم الأسطورة السورية اسمهان. نموذج بديع لمهارت عربية تتضافر لتنتج متعة أخاذة.