علاء بشير يحتفي بالتخطيط ويعود إلى أصوله الأولى بعيداً عن اللون

في معرضه «تحولات خط» الأول في بريطانيا

الفنان علاء بشير مع أحد أعماله.. يرى الفنان أن هناك تشابهاً بين مهنته كطبيب تجميل وموهبته كرسام («الشرق الأوسط»)
TT

خط أسود، مجرد خط أفقي وضع في عرض اللوحة كيفما اتفق ليشكل بحد ذاته موضوع العمل الفني، لكن هذا الخط سرعان ما يتحول إلى أشكال بسيطة ومن ثم معقدة، يكون على شكل امرأة، ثم يتحول إلى رجل، امرأة ورجل، أشكال أسطورية مستلهمة من بوابة عشتار وملحمة جلجامش، طيور، أسماك، ثم تتصاعد ذروة الخط البسيط، المنفرد ذاته إلى رموز، كرسي، تفاحة، وتفاحة على كرسي. «فالتفاحة استخدمت دائماً رمزاً للغريزة، وأنا هنا أعبر عن غريزة السلطة، السلطة هي الأخرى غريزة، لهذا ارتبطت بالكرسي»، يوضح الفنان علاء بشير.

ما يقرب من 40 لوحة تخطيط، نفذت بأسلوب الخط المنفرد، بمعنى أن الخط لا يمر ثانية على الجزء نفسه من اللوحة، الأسود على ورق أبيض، هي أعمال معرض الفنان علاء بشير الذي أقيم مؤخراً في غاليري جمعية الفنانين في مدينة نوتنغهام (تأسست عام 1880)، شمال إنجلترا، وهي المرة الأولى التي يعرض فيها بشير أحدث تخطيطاته في بريطانيا، بينما لا تزال جميع أعماله الملونة تقريباً معروضة في صالة خاصة برسومه في غاليري (Corvus Art Center) الذي تمتلكه وتديره الناقدة الأميركية ليزلي روي في مدينة نيو هافن ((New Haven التابعة لولاية كنتيكت.

ويتحدث بإيجاز عن معرضه الذي حمل عنوان «تحولات خط» قائلا «هذا المعرض يحتفي بإرادة الإنسان وبقدرته، ويكشف كيف يمكن للإنسان أن يكوّن من الخط أشكالاً ومضامين متعددة ومهمة ربما تغير حياة الإنسان، هو مجرد خط. وتعمدت أن لا تكون هناك وحدة موضوع، أردت أن أجذب انتباه المتلقي إلى أهمية هذا الموضوع، إلى أهمية الأشياء البسيطة بالحياة، وهو احتفاء بعقل الإنسان، وبالقدرة الكامنة في عقل الإنسان، واحترام الآخر وعقله لأننا من خلال عقل الإنسان يمكننا أن نحول الأشياء البسيطة إلى معقدة، وفي الوقت ذاته نحول الأشياء المعقدة إلى بسيطة ومفهومة وإحالتها إلى عناصرها الأولية».

بشير صاحب تجارب عشرات المعارض الشخصية والمشتركة، سواء في العراق أو خارجه، ومن اختياراته لأساليب غير محددة في الرسم والتخطيط والنحت على الطين المفخور، يعود في هذا المعرض إلى أصوله الأولى، التخطيط، موضحاً «التخطيط هو الفكرة الأساسية، الألوان تكمل الفكرة الأساسية، أعتقد أن اللون يمثل إضافات سطحية، وهذه الإضافات، الألوان، تجعل اللوحة أكثر قبولا لدى المتلقي»، ويرصد المسافة بين التخطيط واللوحة الملونة، قائلا «هي المسافة بين السطح والعمق، هذه فلسفتي الخاصة في بناء اللوحة، لذلك الكثير من أعمالي التخطيطية هي أكثر عمقاً وجمالا من اللوحة الملونة، لأنها تسمح للمتلقي أن يضيف ألوانه الخاصة من مخيلته، أن يشارك في عملية خلق اللوحة».

في الوقت ذاته عرف عن الفنان بشير تميزه في إنجاز اللوحة الملونة، خاصة اللوحات ذات المساحات الكبيرة، أسأله فيما إذا كان يرسم اللوحة الملونة لإرضاء المتلقي أم أن هناك أسباباً أخرى، يجيب «كلا، ليس لإرضاء المتلقي، لكن غالبية المتلقين في الحقيقة ينظرون إلى سطح الأشياء، الإنسان منذ أن يولد وحتى يموت يعيش على سطح الأشياء ويتعامل معها. مثلا ترى منظراً طبيعياً، أشجاراً وجبالاً وتبدو جميلة، لكن قليل من الناس يتعاملون مع هذا المنظر على أساس مكوناتها الأولية، باعتبار أن كل أشجار هذا المنظر متكونة من الخشب، من المادة الأولية نفسها، وأن الجبال هي مجرد صخور، قليل من الناس يتعاملون مع هذه الرؤية العقلية، قليل جداً ينظرون إلى ما خلف السطح. اللون يساعد المتلقي على استقبال فكرة اللوحة أو اللوحة ذاتها، فأنا إذا رسمت شخصاً بلا ظل مثلا سوف يسألني المتلقي أين ظله، في المفهوم الطبيعي يجب أن يكون هناك ضوء وظل، لكني إذا أجبت بأن هذا الرسم لا يعني الإنسان بوجوده الطبيعي فسوف يتغير المفهوم لدى المتلقي».

والفنان بشير يفصل تماماً بين اللوحة التي يخططها والعمل الذي يلونه، بل إنه لا يلون تخطيطاته.. يوضح «كل أعمالي التي أخططها من الصعب تلوينها، وعندما أخطط اللوحة أنتهي منها، أما اللوحة الملونة فأرسمها مباشرة بالألوان وبدون تخطيط، لوحاتي التي رسمتها ملونة أتخيلها مرسومة في مخيلتي ومتكاملة ومهمتي هي نقلها من المخيلة إلى سطح اللوحة، لكن عندما أخطط أجد من الصعب تلوين التخطيط».

عُرف عن الفنان بشير قلقه المزمن، قلقه في عمله الفني، لا يرضى عن إنجازاته بالرغم من أنها تمثل أفكاره ورؤيته للحياة، فعندما يجد نفسه غير موفق في التعبير عن موضوعاته في الرسم يذهب إلى النحت، لكنه يستقر عند التخطيط دائماً، وكأن التخطيط هو ملاذه. يقول «حتى إن لم أرضَ تماماً عن لوحة رسمتها، يلازمني باستمرار شعور بأنها ناقصة، وأن هناك شيئاً لم أتمه فيها بعد، بينما أرتاح نفسياً إلى اللوحة التي أخططها، كونها مفتوحة وترضيني أكثر من اللوحة الملونة، تماماً مثلما الحياة، فهي تمشي وهناك إضافات، آلاف الأفكار والإضافات في كل يوم أو ساعة ولا نزال في البداية، لهذا كل الناس يعيشون ويموتون ويشعرون أنهم لم ينجزوا أشياء كثيرة في حياتهم».

ويجد بشير علاقته معقدة مع المتلقي، حتى إنه يتساءل «أنا أرسم ولكن لماذا أعرض ما أرسمه للآخرين؟ أنا لا أعرف لماذا، خاصة أن معظم أعمالي لا تشترى، لأن مواضيعها من الصعب أن يتقبلها المتلقي لأنها تثير فيه الأسئلة، والمتلقي لا يريد أن يقتني لوحة تثير في ذهنه الأسئلة، أنا أفهم هذا الموضوع، لكني أحب مشاركة الآخرين في المواضيع التي أثيرها بأعمالي. العرض تماماً مثلما تؤلف كتاباً وتنشره بدلا من أن تحتفظ به. كما أن علاقتي بأعمالي تستمر كتجربة، وهي تمثل بالنسبة لي خطوة أولى نحو الخطوة الثانية، وإذا تم اقتناؤها أشعر بأني فقدت صديقاً حقيقياً».

وفي البحث عن أصول الفنان بشير، نجد أنه اشتهر في العراق باعتباره واحداً من أكثر أطباء الجراحة التقويمية (التجميلية) والجراحة المجهرية مهارة وتميزاً، وهو حاصل على درجة بروفيسور في هذا الاختصاص. فهو مثلا أول طبيب أعاد كفاً مقطوعة لعامل أجنبي في العراق بعد مرور ما يقرب من ساعة على الحادث. يقول «الفن بدأ قبل الطب بسنوات طويلة، وأنا كنت أرسم قبل أن تتشكل جماعة الانطباعيين التي انتميت إليها بعد أن أسسها الفنان حافظ الدروبي عام 1958، وبقيت في المجموعة حتى 1968 وانقطعت بعدها».

وعندما أراد أن يتخصص بالطب، فإنه اختار اختصاصاً له علاقة بالفن، ويوضح قائلا «اخترت الجراحة التجميلية بعد أن وجدت نفسي لا أستطيع الاستمرار بفروع الطب الأخرى لأن فيها تكراراً مملاً، وأنا أعرف نفسي بأني لا أستطيع أن أكرر العمليات الجراحية ذاتها». وعندما يقارن بين مهنته كطبيب وموهبته كرسام يقول «الفن الذي أمارسه يتعلق بالإنسان، منذ منتصف السبعينات انتقلت من رسم الطبيعة إلى الإنسان، انظر إلى ما بعد الوجود الفيزيائي، في الطب أتعامل مع الوجود الإنساني ويجب أن أحافظ على هذا الوجود ولكن بلا حرية، مثلا في عملي الطبي لا أستطيع أن أضع أنفين للإنسان لكني أستطيع ذلك في الفن، وفي الطب أتعامل مع إنسان واحد ولكن في الفن مع الجميع». في عام 1991، فاجأ بشير الجميع عندما أقام ولأول مرة، معرضاً نحتياً معتمداً فيه على مادة الطين المفخور، تماماً مثلما الآجر العراقي، الذي بُنيت بواسطته زقورة أور في سومر أو معابد بابل أو قصور آشور، ومنه أيضاً أنشئت منحوتاتهم. فالمادة الأولية التي استخدمها الفنان العراقي القديم هي الطين ومن ثم فخره بالنار. من المادة ذاتها، الطين العراقي، أنجز هذا الفنان أعمال معرضه التي تميزت عن المنحوتات الصخرية أو الخشبية أو النحاسية، يشرح قائلا «لقد وجدت نفسي مجبراً على إنجاز هذه الأعمال النحتية، لأنني شعرت وقتذاك أن النحت هو أقرب وسيلة للتعبير عن نفسي وأفكاري، لهذا استخدمت الطين العراقي، وعملت به مواضيع تهم الإنسان العراقي، لأنني شاهدت خلال الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج (1991) آلاف الجثث التي يغطيها الطين أو التراب، وأشكالهم تشبه المنحوتات السومرية والبابلية القديمة، وكأنهم تماثيل مفخورة وهذا ما حرّضني على استخدام الطين المفخور صدًى لمشاهداتي لجثث الموتى العراقيين ورأيت أن أقرب شيء للإنسان العراقي هو الطين، لهذا استخدمت الطين العراقي للتعبير عن هذه الأفكار». ورغم ذلك يجد هذا الفنان، رغم كل إنجازاته، أن «التخطيط والنحت والرسم والموسيقى والرقص والتمثيل والشعر والقصة.. كلها وسائل تعبير ناقصة، ويبقى الإنسان يبدع من أجل أن يعمل شيئاً متكاملا لكنه لا يستطيع، لهذا تستمر محاولة الفنان للإبداع باستمرار، العمل المتكامل الوحيد هو الإنسان، لهذا الإنسان كوجود فيزيائي وإحساس عقلي وشعور هو الأقرب إلى الإنسان الآخر من أي عمل فني».

وعبر رصد إنجازات الفنان بشير على مدى أكثر من ثلاثة عقود، نجد أنه من الصعب أن نعثر على أعمال فنية متشابهة أو مكررة أسلوبياً أو إنشائياً أو حتى لونياً وموضوعياً، يقول «لقد أوقفت التكريس لأسلوب معين لأني أشعر فيه بانتهاك لحرية الفنان وتدمير لموهبته. يجب على الفنان أن يجرب كل أساليب التعبير البصري، والتحديد بأسلوب هو عجز وفشل الفنان في إيجاد مساحة أخرى للتعبير عن فنه».

ويعبر بشير عن إعجابه الكبير بالنحات العراقي الراحل صالح القرة غولي، واصفاً إياه باعتباره «مبدعاً كبيراً، وأهم فنان عراقي، وهو الأقرب إلى نفسي وبالتالي هو في اعتقادي أهم فنان بالقرن العشرين». أما عن الأجيال الفنية العراقية الأكثر التصاقاً بالفن، فهو «جيل الخمسينات لأنهم لم يفكروا ببيع أعمالهم بل اهتموا بالإنجاز الفني أكثر من أي اهتمام آخر».