سرعة التكنولوجيا تحول الهواتف إلى تحف أثرية

في «متحف الاتصالات» بمراكش المغربية

جهاز لأول نظام للهاتف الجوال (1987) («الشرق الأوسط»)
TT

تُعرف المتاحف كمؤسسات لها توجه علمي وثقافي، في غالب الأحيان، تعرض فيها التحف، من لوحات فنية أو أوان خزفية أثرية، وعملات وأزياء قديمة، مثلاً. وتنتشر المتاحف بعشرات الآلاف، عبر العالم، حيث تتنوع وتتميز عن بعضها، بحسب معروضاتها، كما أنها تلتقي في أغلبها بالقدم الزمني لتلك المعروضات.

وفضلاً عن أن تاريخ الاتصالات بالمغرب لا يكاد يتجاوز المائة سنة، فإن التجول بين «التحف» المعروضة في «متحف الاتصالات» بمراكش، الموجود بحديقة مولاي عبد السلام، يجعل المرء يخال نفسه يشاهد تحفاً عمرها آلاف السنين، خاصة أن الهاتف الجوَّال، مثلا، الذي تحول اليوم إلى جهاز بحجم أصغـر ووزن أقـل، يبدو مختلفاً، بشكل جذري، عن الهاتف الجوَّال، كما سُـوّق أول مرة، الذي يبدو اليوم، بدائياً، بشكل يدفع إلى الشفقة من كل مَنْ تباهى به أول مرة.

ويبدو أن سرعة التكنولوجيا تبقى وحدها التي تستطيع أن تبين الفرق بين الدخول إلى متحف آثار وولوج متحف لوسائل الاتصال، حيث إن تاريخ التحف الأثرية يمكن أن يصل إلى مئات وآلاف السنين، في وقت لا يكاد يتجاوز فيه تاريخ وسائل الاتصال الحديثة عشرات السنين.

وبعد أن كان الهاتف الجوَّال، في ما مضى، حكراً على من توفر لهم المال والجاه، صار اليوم مشاعاً، بين الناس، فقراء وأغنياء، ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً. ومن لم يمتلك هاتفا واحداً، امتلك اثنين وثلاثة، حتى صرنا نعيش ديمقراطية استعمال واستغلال التكنولوجيا الحديثة.

وحين يتجول الزائر بين مختلف أشكال الهواتف الثابتة أو الجوالة، المعروضة بـ «متحف الاتصالات» بمراكش، لابد أن يشفق على الطريقة التي كان على الناس أن يهاتفوا بها بعضهم البعض، وعلى من كان يحمل هاتفا جوالا، ويتباهى به كما لو أنه سيد العالم. وربما تساءل الزائر عن كيف سيكون شعور من استعمل الهاتف الجوَّال في نهاية القرن الماضي، مثلا، لو عاش سنوات قليلة ليشاهد آخر صيحات الهاتف الجوَّال، التي يمكن للواحد أن يلتقط بها صوراً وأفلاماً متحركة، مع إمكانية الإبحار الإلكتروني، من دون الحديث عن أحجامها الصغيرة وأشكالها المتنوعة، خاصة بعد أن تحول الهاتف، برأي المفكرين وعلماء الاجتماع، إلى قنبلة تواصلية، انفجرت في مجتمعنا، في السنين الأخيرة، على حين غرة، باستثماراتها المالية الضخمة وشركاتها العملاقة، وحوانيتها المنتشرة كالدود في الدروب والأزقة، وبمظاهرها الاستعراضية المتمثلة في غزو الهاتف الجوَّال لكل ردهات الفضاء العمومي، بما في ذلك المدارس والجوامع، ولكل مستويات السلم الاجتماعي، حتى إن إحدى شركات الاتصالات أطلقت جيلا جديداً من الجوَّال ينقل، إضافة إلى المكالمات والرسائل، صورتي المتصِل والمتصَل به، وهو تطور تكنولوجي جعل البعض يقول متهكماً «إن ذلك سيجعل مستعملي هذا الجيل من الهواتف يتخذون كثيراً من الحذر والإجراءات قبل إجراء أية مكالمة، إذ لا يعقل، مثلا، أن ترد امرأة على الهاتف قبل أن تراجع نفسها في المرآة».

وفي مدخل المتحف الزجاجي لـ «متحف الاتصالات»، القريب من صومعة «الكتبية»، تنتصب لوحة تتضمن أهم المحطات التاريخية للتطور التكنولوجي لوسائل الاتصال بالمغرب، التي انطلق التأريخ لها سنة 1883، والتي تؤرخ لإدخال أول خط هاتفي بطنجة، حتى سنة 1987، وهو تاريخ إدخال وتشغيل الهاتف الجوَّال، الذي كان وزنه، في بعض الأحيان، يصل إلى ثلاثة أرباع الكيلوغرام، بحجم يعادل عشرات أضعاف هواتف الألفية الثالثة. ومابين هاتف وآخر، من بين الأجهزة المعروضة بـ«متحف الاتصالات»، يقف الزائر أمام هواتف ثابتة وجوَّالة ترجع في تاريخها إلى ما بين بداية القرن الماضي ومنتصف عقده الثامن، وذلك ما بين هاتف يدوي حائطي (1902)، أو هاتف بدافعة (1949)، أو جهاز هاتفي لاستقبال ثلاث مكالمات (1959)، أو هاتف يدوي لتجريب الخطوط (1910)، أو هاتف أوتوماتيكي (1924)، أو هاتف حائطي يدوي (1910)، أو جهاز هاتفي لأول نظام للهاتف الجوال (1987). وهذه كلها هواتف لا علاقة لها بما صار يعرف، اليوم، على الأقل، بالهاتف الذكي ودفتر الملاحظات الإلكترونية المجهزة بتقنية البلوتوث، أو رسائل الجوَّال، أو الحديث الذي يقول إن الجوَّال يتسبب في سرطان الدماغ، مع إمكانية تصفح المواقع الإلكترونية باستخدام الهاتف المحمول وخدمات تتيح للزبائن قدرات تحميل، أو هواتف برنات خاصة، أو بشاشة تعمل باللمس.

ويؤكد تحول هاتف جوال عمره عشرون سنة إلى تحفة فنية تعرض في متحف للاتصالات، كما لو أن عمرها يبلغ مئات أو آلاف السنين، على حقيقة واحدة تتلخص في أن التكنولوجيا وحدها تستطيع اختصار الزمن، وأن حياة الإنسان، بشكلها الرتيب، صارت، اليوم، تحت رحمة تطور تكنولوجي جارف حوَّل الإنسان من سيد نفسه إلى تابع مغلوب على أمره.