إيران: 30 عاما على الثورة ـ الحلقة (4) : خميني باريس.. وخميني طهران

من بازركان إلى يزدي إلى بني صدر .. هكذا تفاقمت الصراعات داخل تيارات الثورة الإيرانية

جدارية في ميدان «انقلاب» في وسط طهران للخميني ضمن صور وجداريات كثيرة له في ايران لإحياء ذكرى الثورة («الشرق الأوسط»)
TT

يقول أبو الحسن بني صدر، أول رئيس جمهورية في إيران بعد الثورة، إن السبب في الخلافات التي حدثت بين التيار الوطني الليبرالي واليساري وبين التيار الديني يعود إلى أن «خميني باريس» كان غير «خميني طهران»، موضحا لـ«الشرق الأوسط»: «في باريس كان الخميني محاطا بالمثقفين والمفكرين.. فيما في قم وطهران كان محاطا برجال دين». ومن قم إلى طهران بدأت قصة الخلاف بين تيارات الثورة الإيرانية، وبدأت الأعصاب تتوتر، وتتزايد عمليات الاغتيال من الطرفين، وشلت الدولة، وبدأت القوى التي شاركت في الثورة تترصد بعضها لبعض وتتصيد الأخطاء وتتبادل الاتهامات.

ويروي هاني فحص الذي كان قريبا من الثورة الإيرانية وقيادتها لـ«الشرق الأوسط»: «أذكر أنه في إحدى الليالي عقدت جلسة تشاورية في منزل المرحوم الدكتور علي شريعتي (أحد أهم منظري الثورة الإيرانية)، حضرها المرحوم السيد أحمد الخميني، ابن الخميني، الذي خضع لاستجواب طويل وتفصيلي ومعقد، يدور حول مخالفات الدولة أو السلطة لتقييم الثورة وأفكارها. وناقش السيد أحمد، وعندما حوصر قال أحمد الخميني: اعذرونا، فالإمام معزول ومحاصر ومكتوف اليد. فقالت زوجة المرحوم شريعتي لأحمد الخميني: أنت تذكرنا بالشاه، فقد كان كثيرون وقتها يقولون إن الشاه جيد ويريد خيرا لكنه محاصر. فهل أصبح الإمام مثل الشاه؟ هذه كارثة».

عاد الخميني إلى طهران وقال بعد أيام من نجاح الثورة الإيرانية في 11 فبراير (شباط) 1979: «إننا نعيش في الجمهورية الإسلامية. في الجمهورية الإسلامية كانت حكومة الإسلام تدار من قبل الرسول الأكرم والأئمة. علينا أن تكون حكومتنا كحكومتهم». إلا أن هذا التوجه سبب قلقا وسط التيارات الليبرالية والقومية واليسارية الإيرانية، فرجال الدين لم يكونوا سوى جزء من التيارات التي قادت الثورة في إيران.

يقول محسن كديور المفكر الإيراني البارز لـ«الشرق الأوسط»: «لم تكن الثورة الإيرانية ثورة إسلامية دينية، بل ثورة وطنية، شارك فيها فئات من الشعب يعملون في إطار التيار الليبرالي والجبهة الوطنية والتيار اليساري. لم يتوقع الذين شاركوا فيها حتى من رجال الدين في الأيام الأولى بعد قيامها أن تصبح لهم اليد العليا في السلطة».

بعد فترة من عودته إلى طهران غادر الخميني إلى قم، حيث أدار شؤون الحكم من هناك. وكان الوزراء والمسؤولون يتوجهون إليه في منزله في قم، ويعرضون عليه القرارات والتطورات السياسية وهم جالسون على حصيرة على الأرض بجواره. (ظلت قم هي مركز اتخاذ القرار إلى أن اضطر الخميني إلى العودة إلى طهران بعدما قال له الأطباء إن حالة قلبه لا تحتمل أن يعيش في قم، وإن عليه أن يتوجه إلى طهران كي يكون قريبا من فريقه المعالج).

من قم أصدر الخميني تعليماته بوضع أسس جديدة للسلطة التشريعية والتنفيذية، فأمر بتشكيل مجلس الشورى الثوري برئاسة آية الله طالقاني وعضوية مرتضى مطهري ومحمد بهشتي وهاشمي رفسنجاني ومهدي العراقي ومحمد مفتح، وكلهم من رجال الدين وتلاميذ الخميني المقربين منه، إضافة إلى أبو الحسن بني صدر وقطب زاده، وكلاهما كان قريبا من الخميني، فأبو الحسن بني صدر كان معه عندما كان منفيا في فرنسا. وفي 15 فبراير (شباط) 1979 أصدر الخميني قرارا بتشكيل «حكومة مؤقتة»، مهمتها تنفيذ قرارات «مجلس شورى الثورة»، وبدأ البحث عن أسماء أعضاء الحكومة بشرط ألا يكونوا من علماء الدين. فطرح حزب نهضة حرية إيران أو «نهضت ازادي إيران» نفسه لتشكيل الحكومة في ظل الدعم الذي يحظى به من آية الله طالقاني (أحد أهم منظري الثورة الإيرانية وصديق الخميني). خصوصا أن زعيم حزب حرية إيران مهدي بازركان كان معارضا للشاه، وسجن إلى جانب آية الله مطهري وآية الله بهشتي وآيه الله منتظري، كما أن من قياداته إبراهيم يزدي الذي كان قريبا من الخميني ومن مستشاريه في باريس.

وقع الاختيار على بازركان ليرأس أول حكومة في عهد الثورة، وكان بازركان وإبراهيم يزدي بلباس مدني وربطة عنق وثقافة منفتحة على الغرب. ويقول هاشمي رفسنجاني في مذكراته حول أسباب التوترات التي بدأت تظهر بين رجال الدين وبين حكومة بازركان: إن بازركان كان مسلما ورعا، لكنه كان لا يؤمن بالحكومة الدينية، وإن الخميني عيّنه بشكل مؤقت للإشراف على الدستور وإجراء الاستفتاء، وإنه كان منفذا للقرارات فيما مجلس شورى الثورة هو الذي يصنع السياسات.

جلس بازركان على الأرض في منزل الخميني في قم ومعه وزراء حكومته الجديدة يقدمهم إلى الخميني. لم تكن هناك طاولة أو أوراق أو جلسة عمل، فقط حصيرة على الأرض جلس عليها الخميني مع الوزراء الجدد وقد خلعوا أحذيتهم. وكان هذا مؤشرا لما سوف يأتي، فالحكومة بات عليها أن تذهب إلى قم بدلا من أن تأتي قم إلى طهران.

كان رجال الدين أصحاب اليد العليا منذ البدايات الأولى ولو من وراء الستار، لكنّ الإيرانيين في تلك الأيام الأولى لم يكونوا يدركون حجم التوتر الخفي بين تيارات الثورة. خرج الناس سعداء في الشوارع يرددون: «بازركان.. بازركان.. منفذ أحكام القرآن»، و«رئيس وزراء إيران.. هو مهدي بازركان، لأن الخميني قال.. والخميني حامل القرآن»، فيما كان مقربون من الخميني بنتقدون بازركان بحجة عدم معرفته بالجانب السياسي في الفقه الإسلامي. وسرعان ما اصطدم بازركان بالكثير من العقبات، منها شعارات الثورة الدينية، ومجلس شوراها من آيات الله، وفكرة أنه منفذ لقرارات مجلس شورى آيات الله في قم.

وردا على توجه رجال الدين لتشكيل حكومة دينية، شكل حزب «توده» اليساري و«حزب حرية إيران» بقيادة مهدي بازركان ويد الله سحابي وإبراهيم يزدي، و«الجبهة الوطنية» بقيادة كريم سنجابي، إضافة إلى جماعات «فدائي خلق» و«مجاهدي خلق» و«بيكار» و«الفرقان» و«الحزب الشيوعي» الإيراني، جبهة واسعة لمعارضة أفكار الحكومة الدينية، لكنهم اختلفوا على نوع الحكومة المبتغاة، فحزب نهضة حرية إيران طالب بديمقراطية ليبرالية، أما الشيوعيون فطرحوا حكومة الطبقة العاملة، فيما كان الإسلاميون يطرحون مصطلح «الحكومة الإسلامية»، ودخل مطهري وبهشتي في مناظرات تلفزيونية لشرح وجهة نظر الإسلاميين، ثم لاحقا أسس رجال الدين حزب «جمهوري إسلامي» أو الجمهورية الإسلامية، ليكون لهم حزبا سياسيا يعبر عن أفكارهم بالرغم من عدم رضا الخميني عن فكرة الأحزاب السياسية عموما.

طرح الخميني فكرة استفتاء شعبي على نظام الحكم، فطلب بازركان أن يكون الاستفتاء على «جمهورية إسلامية ديمقراطية»، فرفض الخميني وأصر على أن تكون «جمهورية إسلامية». وعمق هذا الخلاف بين بازركان والخميني وإن كان صامتا. ثم حدث الاستفتاء في مارس (آذار) عام 1979 على سؤال واحد، وهو: «هل توافق على الجمهورية الإسلامية؟ نعم أم لا؟» وقد صوت 98 % بـ «نعم»، فأعلن قيام الجمهورية الإسلامية في أول أبريل (نيسان) 1979، وطلب الخميني انتخاب لجنة من رجال دين وقانونين لوضع «الدستور الإسلامي»، واجتمعت اللجنة في طهران وحدثت الكثير من الاختلافات، خصوصا حول مبدأ ولاية الفقيه، وأبدى بازركان وأبو الحسن بني صدر وإبراهيم يزدي وقطب زادة معارضتهم الشديدة. وقال بني صدر ساعتها إنها «ديكتاتورية رجال الدين»، فغضب أنصار الخميني، وقررت الحكومة الانتقالية الاستقالة ما لم تحلّ مسألة ولاية الفقيه.

ويوضح بني صدر لـ«الشرق الأوسط» أن قادة التيارات الوطنية الليبرالية واليسارية فوجئوا برغبة رجال الدين في الإمساك بمقاليد السلطة في يدهم، موضحا أن الاعتقاد الذي ساد في بداية الثورة هو أن الخميني سيعود إلى قم ليكون بمثابة أب روحي للثورة، وأنه لا رغبه لديه في مشاركته، أو مشاركة رجال الدين عموما، في السلطة التنفيذية. إلا أن الأيام أثبتت أن هذه القراءة لم تكن صحيحة.

خرج الآلاف من أنصار رجال الدين وأنصار الجبهة الوطنية، ونشبت مواجهات حادة عنيفة قتل فيها ما لا يقل عن 3 وكأن الثورة لم تنتهِ بعد. وكان أمل الجبهة الوطنية الأخير هو الجيش، لكن الجيش كان يردد «الله أكبر.. خميني رهبر»، أي «خميني هو القائد»، فطلبت الحركة الوطنية والحزب الشيوعي حل الجيش لأنه من بقايا النظام السابق، لكنّ الخميني ومستشاريه ورجال الدين لم يقبلوا، فبدأت عناصر من الجبهة الوطنية واليسار تستولي على أسلحة الثكنات العسكرية. وخلال أشهر من التوترات تمت تصفية العشرات من رجال الدين المقربين من الخميني، من بينهم قائد أركان الجيش الإيراني المقرب من الخميني، وآية الله مرتضى مطهري، أقرب مساعدي الخميني، وصهر الخميني الدكتور إشراقي، وآية الله الطباطبائي، والدكتور مفتح ومهدي عراقجي، وآيه الله بهشتي، ومحمد علي رجائي وباهنر، فيما فشلت محاولات اغتيال علي محتشمي وموسوي أردبيلي وهاشمي رفسنجاني وعلي خامنئي. لم يعد الخميني يثق بالجيش لأن الكثير من قياداته لم تتغير، والكثير منهم كان لديه مَيل ليبرالي، فقرر أن ينشئ خلايا الحرس الثوري أو حراس الثورة، التي كانت أولى مهامها القضاء على تحركات الأكراد، وهو ما تم في صيف 1979.

كانت إيران الثورة في حالة فوضى غير عادية، وكانت حساسية الإسلاميين من الليبراليين والجبهة الوطنية كبيرة جدا، يعززها الخوف من أن تتدخل أميركا لصالح الليبراليين ضد الإسلاميين. وذادت المخاوف بعد اجتماع بازركان وإبراهيم يزدي مع زبيجنيو برجنيسكي في الجزائر.

ويقول محمد علي مهتدي الصحافي في صحيفة «اطلاعات» الإيرانية لـ«الشرق الأوسط»: «كانت هناك احتفالات في الجزائر بمناسبة مرور 25 عاما على انتصار الثورة الجزائرية، وكنت في الجزائر وقتها، وكان هناك أبو عمار وهاني الحسن وكثيرون كانوا في الجزائر، فطلب برجينسكي اللقاء مع المهندس مهدي بازركان، ولم يكن هذا اللقاء مبرمجا أو معدا سلفا. بازركان لم يجد أي مانع للقاء مع برجينسكي والتباحث معه. ربما كان بازركان يريد أن يطمئن أميركا أن هذه الثورة لها مبادئ، وأنه إذا احترمت أميركا مبادئ الثورة ربما يكون بالإمكان الاتفاق على بدء نوع من الحوار، لأنه كان أول لقاء من نوعه وحضره من الجانب الإيراني بازركان، بالإضافة إلى وزير الدفاع مصطفى شمران، ووزير الخارجية إبراهيم يزدي. لم يحدث شيء، وكان لقاء يتيما، لكن يبدو أنه كانت هناك بعض التيارات تقف بالمرصاد في إيران، ولم يكونوا راضين عن هذا اللقاء بين برجينسكي وبازركان وفريقه، وخلقوا أجواء ضاغطة إعلامية وسياسية ضد الحكومة المؤقتة، وبعد ذلك حدث هجوم الطلبة على السفارة الأميركية وأخذ رهائن، ليستمر ذلك لمدة 444 يوما، ونتيجة لذلك استقالت حكومة مهدي بازركان لأنه كان يريد أن يصنع دولة تسير حسب القوانين الدولية».

وفي 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 احتل طلبة إيرانيون السفارة الأميركية في طهران، وهو الحدث الذي يقول الكثير من داخل الجبهة الوطنية في إيران إنه تم بضوء أخضر من رجال دين مقربين من الخميني، بهدف «قلب الطاولة» على رجال الجبهة الوطنية والتيار الليبرالي لإضعافهم وتشديد قبضتهم. ويؤكد رفسنجاني أن مجلس شورى الثورة، الجهة التي كانت تحكم فعليا، لم يكن على علم بنية احتلال السفارة، موضحا: «كنت أنا وخامنئي قد ذهبنا إلى مكة للحج، وكنا نياما على سطح البيت الذي كنا نسكنه هناك. عندما سمعنا الأخبار عبر الراديو عرفنا أن الجامعيين سيطروا على السفارة الأميركية».

طالب مهدي بازركان وإبراهيم يزدي بإنهاء احتلال السفارة وإطلاق الرهائن، وهددوا بتقديم استقالاتهم. ويقول يزدي إن الخميني قال إنه لم يكن يعلم مسبقا بخطوة الطلبة للاستيلاء على السفارة الأميركية، فالطلبة لم يفاتحوا أحدا في الأمر سوى موسوي خوئيني، أحد مستشاري الخميني.

ذهب يزدي إلى قم للقاء الخميني وحكى له خطورة خطوة احتلال الطلبة للسفارة الأميركية. ويقول يزدي إن الخميني رد عليه بقوله: «ألقوا بهؤلاء الطلبة في الخارج»، فقرر يزدي العودة إلى طهران لإنهاء أزمة الرهائن مع بازركان، على اعتقاد أن الخميني غير راض عن هذه الخطوة. غير أن اتصالا هاتفيا من موسوي خوئيني لأحمد الخميني، ابن الخميني، غيّر كل شيء، فقد تراجع الخميني عن موقفه، وفي الواقع وقف أمام تحرك حكومة بازركان لإنهاء أزمة الرهائن. وكانت هذه تحولات مفصلية، فقد أدت إلى انفصال بين التيار الوطني الليبرالي بقيادة الجبهة الوطنية، وبين تيار رجال الدين في الثورة، فقد قبل الخميني استقالة حكومة بازركان، وأمر مجلس قيادة الثورة بتصريف مهام الحكومة، وذلك بعد 9 أشهر فقط من توليها السلطة، ليخرج الليبراليون والحركة الوطنية من الحكم.

لاحقا دعا الخميني إلى انتخابات رئاسية، فترشح لها أبو الحسن بني صدر وجلال الدين الفارسي من الحزب الجمهوري الإسلامي، الذي كان حتى ذلك الوقت يرشح سياسيين وليس رجال دين، ومسعود رجوي من مجاهدي خلق، وحسن حبيبي، وكان مقربا من الإسلاميين دون أن يكون رجل دين أو يرتدي اللباس الديني، مثله مثل بني صدر ورجوي. ألغى الخميني ترشيح جلال الدين الفارسي لأن والدته أفغانية، وألغى ترشيح رجوي لأنه لم يصوت في الاستفتاء على نظام الجمهورية الإسلامية، موضحا أنه لا يمكن لرجوي أن يكون رئيسا «لنظام لم يصوت له».

فأصبحت المنافسة الحقيقية بين بني صدر وحبيبي ممثل الإسلاميين ضمنا، وحصل بني صدر على دعم الليبراليين والوطنيين وبعض رجال الدين وفاز بالانتخابات، وساعده على الفوز علاقته الجيدة بالخميني منذ أن كان مستشارا له في باريس. إلا أن الخميني في قرارة نفسه لم يكن مرتاحا لتولي بني الصدر الرئاسة، ففي الحقيقة صوت الخميني لحسن حبيبي كما قال أحمد الخميني، إلا أنه لم يقل للناس لا تصوتوا لبني صدر.

بعد انتخابه توجه بني صدر إلى مستشفى القلب في طهران عام 1980 لينال مباركة الخميني وتكليفه بالرئاسة، فانحنى بني صدر وقبل يده. وقرأ أحمد الخميني كلمة والده لتنصيب بني صدر التي صاغها بعناية وقال فيها: «إني أنفذ رأي الشعب وأعين بني صدر في هذا المنصب، لكن هذا التعيين وتنصيبه ورأي الشعب مشروط بعدم مخالفته للأحكام الإسلامية المقدسة واتباعه للدستور الإسلامي الإيراني». لم يكن رجال الدين الذين جلسوا في الصفوف الأولى خلف الخميني سعداء، فيما كان الخميني مقطب الجبين. وبعدما انتهى أحمد الخميني من إلقاء كلمة أبيه قال الخميني عبارة واحدة عابسا: «إني أذكّر السيد بني صدر بجملة، وهي تذكرة للجميع، إن حب الدنيا رأس كل خطيئة. إني أطلب من السيد بني صدر ألا تتغير سيرته بعد رئاسة الجمهورية».

ويتذكر بني صدر تلك الايام والظروف التي كان يعمل خلالها والضغوطات, موضحا لـ«الشرق الأوسط» «كانت هناك عدة عوامل غيرت مسار الثورة، وليس فقط الخميني، لكن بالطبع تأثيره كان كبيرا. كانت هناك ميول وحب للسلطة لديه، وهذا ما سهل بالنسبة إليه وضع يده على إيران بطريقة ديكتاتورية. بالطبع كان هناك فرقاء من اليسار أرادوا أن يلعبوا دور لينين في الثورة الإيرانية، بينما الإسلاميون كانوا قد بدأوا بالتصدي للنظام بقوة السلاح. وهناك قضية الرهائن والحصار الاقتصادي، كل هذه الأشياء لعبت دورا في إعادة تركيب الديكتاتورية في إيران. لكن لو كان الخميني يريد أن يلعب هذه اللعبة، لكان بإمكانه التصدي لها. حيث كان قد وعد أمام العالم أجمع، باحترام الديمقراطية والتقدم وحقوق الإنسان. وأنا أعتقد انه لو أراد أن يحترم وعوده لكان بإمكانه أن يفعل. كانت هناك بالطبع عوامل تدفعه باتجاه عدم احترامها، ولكن الخميني كان قويا لدرجة انه كان بإمكانه أن يقاوم لو أراد أن يحترم وعوده».

من ناحيته يقول هاني فحص لـ«الشرق الأوسط» حول علاقة بني صدر مع الخميني: «بني صدر كان محسوبا على بيت الإمام (أحمد الخميني، أشراقي صهر الخميني، ومحمد منتظري، كانوا مؤيدين لبني صدر)، ومشكلته أنه كان مثقفا أكثر مما كان سياسيا. الخطأ الذي ارتكبته منظمة مجاهدي خلق أنها بدأت تعلن تحفظاتها للتيار الديني وللإمام الخميني وللثورة عموما بجانبيها الليبرالي والديني في لحظة الانتصار، ثم طورت ذلك إلى ممارسة العنف، فمورس قمع ضدها. أما الخلاف بين التيارات الليبرالية فقد بدأ أولا فيما بين التيارات الليبرالية، وبدأ بين تيار جبهة ملي (أو الجبهة الوطنية) كريم سنجابي الذي كان وزير خارجية، وبين حركة تحرير إيران، أي بازركان ويزدي. هؤلاء هم الذين بدأوا بإقصاء أو بمساعدة الإمام الخميني وترغيبه في إقصاء كريم سنجابي. أي حدث الخلاف في الصف الليبرالي في البداية لأن سنجابي كان أكثر ليبرالية منهم، وأقل قربا من تيار رجال الدين.. أما التناقضات بين التيار الليبرالي والتيار الديني فقد كانت موجودة منذ البداية، فقد كنت أراهم قبل نجاح الثورة وكانوا متعاطفين مع الإمام الخميني على أساس أنه طريق لدولتهم.. الإمام الخميني لاحظ هذه المسائل منذ البداية. كان الإمام الخميني يحاول أن يمسك العصا من الوسط، يحافظ على الجميع، إلى أن بدأ رجال الدين يطلون على السلطة، فبعد أن أصبح هاشمي رفسنجاني رئيسا لمجلس النواب بدأت شكاوى الليبراليين، وبدأوا يفتحون خطوطا على حسابهم، أي ضمن تصوراتهم الليبرالية. وبدأوا من خلال موقعهم في السلطة بعزل التيار الديني ومحاصرته، وارتكبوا خطأهم الكبير بأنهم التقوا مع برجنيسكي في الجزائر. جلسوا معه جلسة طويلة، ولم يفصحوا تماما للخميني عما حدث خلال اللقاء، فتفجرت الأمور في هذه اللحظة، فالإمام الخميني لم يعرف باللقاء مسبقا. وهنا يتردد أنه عندما التقى إبراهيم يزدي مع الخميني وتحدث معه حول اللقاء مع برجنيسكي تكلم يزدي 10 دقائق، فقال الخميني: أنتم جلستم مدة ساعة ونصف، لكنك تكلمت 10 دقائق فقط.. فبدأت الشكوك تنفجر».

ويتابع فحص: «بني صدر خلط بينه نفسه وبين الثورة والخميني، اعتبر أن الـ11 مليون صوت و700 ألف التي حصل عليها في الانتخابات له، علما أن سمعته كانت محصورة بين المثقفين، وهذا ليس انتقاصا منه، لكنه كان مثقفا، لم يكن منخرطا في عمل سياسي مباشر، ولم يكن معروفا شعبيا.. وصلت الأمور ببني صدر إلى أنه انحاز إلى مجاهدي خلق في النهاية، وهم الذين كانوا في الأصل أعداء له. وكانت طبيعة المثقف متحكمة فيه، أي يرى الأمور كما يحب وكما يكره، وبدأت تظهر ذاتيته، حتى إن الشعب الإيراني أسماه (اقاي من) أي «السيد أنا».. ومع ذلك ظل الخميني يعطيه فرصا ويطلب منه أن يراجع مواقفه، إلا أن بني صدر لم يتغير، وعمل مهرجانات كان جمهورها فقط مجاهدي خلق في لحظة صعبة، إلى أن تشكلت لجنة لدراسة أهليته وحكمت بفقدانه للأهلية، فأقصي من الرئاسة. أما مع بازركان، الخميني كان يحب بازركان، وكانت علاقته بحركة تحرير إيران علاقة طيبة أيام الثورة. مع بدء الدولة بدأت التميزات، وبدأ الجانب الليبرالي يتبلور أكثر، بمعنى أن التيار الديني يريد التيار الليبرالي مساعدا له وتحت إمرته، والتيار الليبرالي يريد من التيار الديني أن يكون داعما لدولته، وأن تصير الدولة ليبرالية، ويعود المتدينون إلى مواقعهم الأساسية في قم، وهذه مشكلة ولاية الفقيه. كنت في طهران يوم الانتهاء من وضع الدستور، وكانت جماعة بني صدر وبازركان يتناقشون مع الآخرين من رجال الدين.. الولي الفقيه، ماذا ترك في الدستور لرئيس الجمهورية؟ شعر الناس كلهم أن رأس الهرم هو المتحكم، وأن رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية تشتغل بأمر الولي الفقيه، وهي محدودة ومحاصرة. هذه هي المشكلات التي حدثت».

كان الصدام محتوما إذن بين بني صدر والخميني، ففي أدائه القسم لم يذكر بني صدر كلمة «ثورة إسلامية» أو «انقلاب إسلامي»، ولم يذكر عبارة «دستور إسلامي» أو «جمهورية إيران الإسلامية»، وتعهد بالعمل «وفاء للشعب»، لكن الأهم من كل ذلك أنه لم يذكر اسم الخميني، بل قال: «إني أقسم بالقرآن المجيد أن أكون وفيا للدستور، وأن أبذل قصارى جهدي دوما من أجل إعلاء اسم إيران، ومن أجل تحسين الوضع المعيشي للناس. وليس هناك أي سبب يجعلني لا أبذل هذا الجهد عندما يبدي أهلنا كل هذا الصفاء والصدق قبل وبعد انتصار الثورة، وأظهروا كل هذا الوفاء والاستقامة».

خلال 9 أشهر شهدت إيران صراعا متواصلا مكتوما وعلنيا بين التيارات الليبرالية وبين التيار الديني على اختيار أسماء أعضاء الحكومة وقيادات الدولة، وتعطل تشكيل الحكومة، وكان الصراع في البرلمان أكثر وضوحا بين الأقلية النيابية التي تدعم بني صدر، وبين النواب الذين يدعمون الحزب الجمهوري الإسلامي. وكان عدد هؤلاء كبيرا حتى إن أول برلمان كان غالبيته من رجال دين بعمامات وعباءات، وكان الصراع على شخصية رئيس الوزراء وهل يمثل التيار الليبرالي أو رجال الدين.

ثم بشكل مفاجئ طرح بني صدر اسم أحمد الخميني لرئاسة الوزراء، وبعث رسالة إلى الخميني بهذا المضمون، جاء فيها: «سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني قائد الثورة الإسلامية الإيرانية، نظرا إلى الأوضاع الحالية، وبما أن مجتمعنا هو مجتمع شاب، ويشهد حماسا إيجابيا وتوجها نحو الإنتاج والنشاط، ولأن الجانب المعنوي الثوري هو المحرك الأساسي، لذلك أعتبر أن حجة الإسلام السيد أحمد هو أحد أنسب الأشخاص لرئاسة الوزراء. وأجد أن موافقتكم عين الصواب». فرد الخميني عليه بشكل مقتضب وحازم وسريع: «باسمه تعالى، لا أنوي أن يتسلم أبنائي مناصب. أحمد خادم للشعب، وفي هذه المرحلة إذا كان حرا يمكنه أن يخدم بشكل أفضل. والسلام عليكم».

تشكلت لجنة ثلاثية داخل مجلس الشورى للحوار مع بني صدر حول شخصية رئيس الوزراء، وتم وضع قائمة بها 14 اسما، شطب بني صدر نصفها وتبقى 7 أسماء، فقال بني صدر إن أي اسم منها يختاره البرلمان لن يمانع فيه. وقد صوّت المجلس في اجتماع مغلق على الـ7 الباقين، وتم اختيار محمد علي رجائي بأكثرية الأصوات، لكن العلاقات كانت شبه مقطوعة بين بني صدر ورجائي. وحاول بني صدر اللجوء إلى الشارع فدعا إلى مهرجان في جامعة طهران في ذكرى وفاة زعيم الجبهة الوطنية محمد مصدق، وحضر المهرجان كل أطياف اللون السياسي، وهناك أعلن بني صدر تشكيل جبهة وطنية لمعارضة رجائي وحزب الجمهورية الإسلامية.

فأمر الخميني بتشكيل لجنة لدراسة الاختلافات بين مسؤولي الدولة، تتكون من طرف يمثل بني صدر وآخر يمثل الطرف المعارض والثالث يمثل الخميني. وأمر بني صدر وبهشتي ورجائي ورفسنجاني - كان رئيس البرلمان ساعتها - بعدم إعطاء أي تصريحات صحافية حول الخلافات بينهم حتى تنهي اللجنة عملها، لكن بني صدر تحدث لوكالة «رويترز» للأنباء وحذر من «نظام ديكتاتوري» في إيران مشابه لنظام الشاه. فواجه انتقادات شديدة في البرلمان وساءت العلاقات أكثر وامتدت إلى الشارع، ونشبت صدامات عنيفة في جامعة طهران، فتدخل الخميني في الأزمة لائما بني صدر، قائلا: «إن لحن الانتقاد يختلف عن لحن التآمر.. وإضعاف الجمهورية الإسلامية».

وسط هذه الصرعات والفوضى هاجم العراق إيران واستولى على خورمشهر، فتزايدت الانتقادات لبني صدر بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، وتزامن مع هذا إعلان الطلبة الذين احتلوا السفارة العثور على وثائق قالوا إنها تثبت تورط بني صدر في التجسس لصالح أميركا قبل سنة من انتخابه رئيسا لإيران. وفي 10 يونيو (حزيران) عام 1981، وبعد عام و4 أشهر على تعيين بني صدر رئيسا، أمر الخميني بعزله من قيادة القوات المسلحة ومن الرئاسة.

ويقول هاني فحص لـ«الشرق الأوسط» حول تحولات الخميني من رفضه المبدئي لتعيين رجال الدين في المناصب السياسية، ثم موافقته على ذلك لاحقا: «صبر الخميني على بني صدر وأعطاه الفرص.. وصبر على بازركان والجبهة الوطنية على الرغم من اللقاء المتسرع مع برجنيسكي.. وكنت حاضرا عندما تم إبلاغ الخميني بأن الحزب الجمهوري رشح جلال الدين فارسي - وهو مدني - لرئاسة الجمهورية. فسأل الخميني: وماذا فعل السيد بهشتي؟ فأجيب بأنه انسحب، فابتسم الخميني راضيا (أي لم يكن محبذا في البداية تولي رجال الدين مناصب تنفيذية). وكان سفير فلسطين وقتها حاضرا، وقلت له: أرايت؟.. هذا رجل (الخميني) ديني - مدني. فقال هاني الحسن: أتفق».

ويتابع فحص: «لكن الخميني اضطر لاحقا إلى القبول بأن يتولى رجال الدين كل السلطات لأسباب تتصل بأداء القوى السياسية المدنية واستعجالاتها، والرغبة الجامحة لدى رجال الدين في السلطة. وقد حصل ذلك، وأذكر أن القوى الوطنية الليبرالية ارتأت أن الخميني لم يكن إلا محرضا في تاريخ الثورة، وأن الدولة هي شأنها حصريا، وأن الخميني لا يمكن أن يترك حتى يصادر الدولة. وفي اعتقادي أنه لم يكن يريد ذلك، ولكنه كان يلزم نفسه بأن تبقى روح الثورة في الدولة، وهي نظرية مثالية جميلة لكنها غير واقعية، ولذلك عدل عنها لاحقا عندما حوصر، وشرعت القوى السياسية تبني الدولة وعلاقتها بعيدا عنه.. بعدها بأسابيع كنت مع السيد حسين الخميني في دمشق حيث وصلنا خبر استيلاء الطلبة على السفارة الأميركية في طهران، فقال حفيد الإمام لي: جهز نفسك لنصل إلى طهران، فقد انفك الحصار عن الإمام. بعدها كان لا بد للخميني أن يزج بتلاميذه من المعممين وغيرهم إلى بناء الدولة، بعيدا عن القوى الليبرالية التي أساءت رسم سلم أولوياتها، فيما كنت أرى ضرورة عدم قمعها وإقصائها. هل تصرف الخميني بشكل مختلف من الثورة إلى الدولة؟ لا بد أن يحدث ذلك، وإلا كانت الكارثة. والثورة لا بد أن تؤدي إلى الدولة، ومنطقها يختلف عن منطق الثورة، والأفضل بين الثوريين الذين يحكمون هو أن يقصروا المسافة بين الدولة والثورة لأن إلغاءها مستحيل عمليا».

غير أن بني صدر يوضح أن تركيبة الخميني ومن حوله هي السبب في التوترات بينهما وليس طبيعة بناء الدولة, موضحا لـ«الشرق الأوسط» «جاء الخميني إلى هنا، فرنسا، وقال ما قاله أمام العالم حول الحريات والديمقراطيات والتقدم والإسلام، الذي يؤمن بالحرية. هل كان يعتقد بكل ما قاله لو كان يؤمن بذلك حقا؟ فانطلاقا من كونه رجل دين، لا يمكنه أن يقوم بعكس ما يؤمن به. لو لم يؤمن بما قاله، فهذا يعني أنه بالنسبة إليه، فإن السلطة كان تحتل الأولوية. وكونه رجل دين، يعرف أن الدين يعني الالتزام، ولا يمكنه أن يغير خطابه. ولكنه غير التزامه. وعندما فعل ذلك، تبين أن السلطة بالنسبة إليه كان لها الأولوية المطلقة».

جرد البرلمان بني صدر من صلاحياته السياسية وأقر الخميني القرار، وجرت انتخابات جديدة جاءت بمحمد علي رجائي رئيسا، إلا أنه اغتيل لاحقا. فدعا الخميني لانتخابات جديدة وسمح لأول مرة لرجال الدين بخوضها، وفي 2 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1981 انتخب علي خامنئي الرئيس الثالث للجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد بني صدر ورجائي، ليكون بذلك أول رجل دين معمم يحتل هذا المنصب في إيران، وعين مير حسين موسوي رئيسا للحكومة. وكان الخميني مرتاحا أخيرا لشخصية الرئيس ورئيس الوزراء وفي خطاب كلمة الخميني له، قال له: «عليكم أنتم المحافظة على هذا النظام.. فإن استمرار ما حصل في إيران أمر صعب، وعليكم القيام بحفظ هذا النظام رغم كل العقبات التي تواجهنا».

وبعد عامين و8 أشهر انتزعت الثورة الدولة لتصبح برئاسة خامنئي ورئاسة وزراء مير حسين موسوي ورئاسة رفسنجاني للبرلمان، لكن هذا تم على حساب شخصيات من الجبهة الوطنية، على رأسهم مهدي بازركان وأبو الحسن بني صدر وإبراهيم يزدي وقطب زادة، وكانت الاختلافات كبيرة، وعلى رأسها الموقف من ولاية الفقيه، والحكومة الدينية. اختار بازركان ويزدي الانسحاب بهدوء، واختار قطب زادة وبني صدر المواجهة العلنية.