متعة التزلج على جبال الألب الإيطالية

سحر إيطاليا والنمسا معا

التزلج في كنف جبال الالب البيضاء.. تجربة فريدة («الشرق الاوسط»)
TT

حين ترى على شاشة التلفزيون هبوط المتسابقين على الثلوج في نزلة سريعة تأخذ الألباب على منحدر جبلي طويل لا نهاية له، تتساءل: أين تجري هذه المسابقات الشتوية، وما هو أطول منحدر ثلجي صالح للتزلج في العالم؟. والجواب هو: جبال الألب، وبالتحديد الجزء الايطالي. وصلنا إلى فيرونا ـ مدينة روميو وجولييت ـ ما بين البندقية (فينيسيا) وميلانو في شمال إيطاليا، لكن الرحلة لن تسمح برؤية شرفة منزل المحبوبة جولييت التي تسلقها روميو، لأن الوقت ثمين، وعلينا متابعة الطريق شمالا حتى نصل إلى مدينة بولزانو في وسط جبال الألب الإيطالية قبل غروب الشمس. ولمن لا يعرف.. فهي أهم من جبال سويسرا وفرنسا والنمسا، لأن أكثر جبال الألب يقع في إيطاليا، وأعلى جبل في أوروبا ـ وهو مون بلان (الجبل الأبيض بالفرنسية) ـ نجده على الحدود الإيطالية الفرنسية. هدفنا هذه المرة الجبال والقرى المتاخمة للنمسا. لذا، اتجهنا شرقا بعد الوصول إلى بولزانو، كي نبلغ وادي غاردينا، فهنا تقبع جنة التزحلق على الثلج، وما أكثره هذا العام. فقد تعرضت إيطاليا إلى موجة برد شديد لم تشهدها منذ عشرات السنين والتحفت بغطاء أبيض من الثلوج، وكأنها سيبيريا، أو أيسلندا، أو ألاسكا.

أهم المناطق الإيطالية لرياضة الشتاء تقع في شرفينيا شمال ميلانو في وادي أوستا، حيث صوروا فيلما شهيرا من إنتاج «والت ديزني»، وكورمايور في آخر الطريق الايطالي إلى مون بلان في المثلث الحدودي بين إيطاليا وسويسرا وفرنسا ، وكورتينا دامبيتزو المنتجع الشتوي الراقي لعشاق الرياضة الأثرياء، منذ احتضانها للألعاب الأولمبية الشتوية في الخمسينات، ومادونا دي كامبيليو جوهرة سلسلة جبال برنتا المتألقة التي كانت خيار سائق فيراري فيليبي ماسا هذا الموسم، وأخيرا وادي غاردينا val Gardena الذي يستحق رحلة سياحية مميزة، حتى بدون التزحلق، فالأسعار معقولة، ومناظر الطبيعة خلابة، والدروب المخصصة للتزلج مأمونة وممتدة، فالسياحة الشتوية والأطعمة اللذيذة من مزيج المطبخ الإيطالي والنمساوي تنسيك عناء الرحلة. عظمة منطقة الدولوميت في شمال شرق إيطاليا تشمل كل هذه المناطق، فترى القصور الفخمة من أيام القرون الوسطى، والكنائس بقببها الشبيهة بشكل البصلة تزين جبال وهضاب وسهول الممرات البيضاء بين ترينتينو، وبولزانو. وما زال التأثير النمساوي كبيرا على السكان الذين يتحدثون بالألمانية والإيطالية، لأنهم كانوا ذات يوم جزءا من الإمبراطورية النمساوية قبل انهيارها بعد الحرب العالمية الأولى، فإذا اتجهت نحو الجنوب، ستبهرك أساليب العمارة في فينيسيا وفيرونا وفيشنزا وبادوا، أما منطقة الدولوميت، وعاصمتها تورنتو، فهي أجمل منطقة جبلية في إيطاليا قاطبة، إذ تراها وكأنها منحدر صخري شاهق نحتته يد أكبر الفنانين بألوان برتقالية رائعة شبيهة بنرجس الجبال، تغطيها الثلوج الناصعة والأشجار الحرجية، فتبدو كلوحة خالدة ستبقى محفورة في الذاكرة. سينسيك هذا الجمال ما سمعته من أوصاف عن دافوس، وسان موريتز، وفربييه، وزرمات، وغشتاد في سويسرا، وانسبروك في النمسا، وشاموني وميجيف في فرنسا.

حين اتجهنا شرقا من بولزانو إلى سهل غاردينا مررنا بثلاث قرى جبلية، هي اورتيساي، وسانتا كريستينا، وسيلفا غاردينا، وكلها مناطق معروفة بأنها من أهم وجهات التزلج، ثم عبرنا ممر سيلا الجبلي، لنصل إلى هدفنا الأخير، وهي قرية كانازاي Canazai على ارتفاع 1440 مترا. وهناك حططنا الرحال في فندق صغير يمتاز بالبهاء والنظافة والخدمة اللطيفة. طرق البلدة جميلة وضيقة، والجو ريفي على الطريقة التقليدية، وكل شيء قريب في متناول يدك، دون استعمال السيارة. الفنادق لا تتميز بالفخامة مثل بلدة كورتينا دامبيتزو القريبة، ولا بالأسعار الباهظة، فهي على مستوى ثلاثة نجوم، مثل فندق دولوميت. وهنا شاليهات، مثل ديانا، ومطاعم ممتازة، مثل ستالا، وميليستر، وتي شيفانا، وكلها على مسافات قريبة من بعضها البعض. ويمكن للزائر قضاء وقته بعد التزلج في المشي أو التسوق.. فالجو عائلي، ولا مجال للحياة الليلية المعروفة في المدن. ميزة منطقة سهل غاردينا أنها تحوي نظاما ممتازا للمصاعد إلى الهضاب الثلجية، فهناك 464 مصعدا تأخذك إلى علو 1180 مترا؛ فترى خلال صعودك مناظر طبيعية خلابة، ولا تضطر للانتظار طويلا للحصول على مقعد في المصعد، مثلما هي الحال في بعض مناطق الرياضة الشتوية، كما توجد عدة مدارس لتعليم التزلج، حيث تصل كلفة الساعة الواحدة لدرس خاص إلى 30 يورو ( أو 40 دولارا)، أو بالإمكان الالتحاق بدروس لمجموعة من المتدربين، فتهبط الكلفة إلى 100 يورو ( 134 دولارا) لمدة خمسة أيام. القديم والحديث: تنال منطقة الدولوميت إعجاب السائح من اللحظة الأولى، لأنها تجمع بين التقليدي القديم والابتكارات الحديثة، دون أن تضع حدودا فاصلة فيما بينها، فالناس يستقبلونك بحفاوة ويعاملونك بلطف وتهذيب، ويبدو أنهم فخورون بالماضي، ولا يخافون الحاضر، وتلمس لديهم روح التاريخ والتصرف الكلاسيكي ممتزجة بروح العصر وأحدث الاختراعات والتسهيلات. إذا سنحت لك الفرصة لسؤال الإيطاليين؛ فستجد أنهم يجمعون على أن مقاطعات الشمال الشرقي هي أحب المناطق إليهم، فمنذ أن اكتشف الأوروبيون، خاصة في النمسا وألمانيا، رياضة الشتاء والتزلج فوق الثلوج قبل مائة عام، ظن البعض أنها ظاهرة عابرة، مثلما كان البعض يعتقد في أوائل القرن الماضي أن السينما أو السيارة لن تنجحا في البقاء طويلا، لكن انتشار التزلج واتساع شعبيته باطراد، جعله إحدى الرياضات المفضلة لدى الإيطاليين الميسورين. المنطقة عريقة بالفن أيضا، فقد أنجبت أحد كبار رسامي عصر النهضة، وهو تيسيانو (أو Titian بالإنجليزية) الذي ولد في عام 1485 في قرية جبلية صغيرة تغطيها الثلوج، تسمى بيفي دي كادوريه بالقرب من كانازاي، وتبعد 110 كيلومترات شمال البندقية، حيث توفي في عام 1576، ولم يجارِه أحد من الفنانين في طريقة استخدام الألوان، فبرع في المنظور اللوني مستعملا التدرجات اللونية، وبذلك تخطى اللون دوره الزخرفي ليلعب دورا بنائيا في تكوين اللوحة، وربما كان لمحيطه الطبيعي أثر كبير على تكوينه الفني، كما كان من أبرع رسامي جسم المرأة، بالإضافة إلى لوحاته الدينية. ومن أشهر أعماله لوحة «فينوس على أجنحة النغم» الموجودة حاليا بمتحف برادو بمدريد. وقد ألهم أساطين الفن فيما بعد، أمثال روبنز، وفالاسكويز، وديلاكروا.

وإذا كنت من هواة الطبيعة فقط، ومن محبي الحياة في الهواء الطلق فستجد متعتك كذلك أثناء تجوالك، فقد تعثر على (الرو)، وهو نوع من الأيائل، بعد اختفاء أعدائهم الطبيعيين في الجبال، كالذئب والوشق، وهو حيوان أصغر من النمر ويمتاز بحدة البصر، لكن المسؤولين عن إدارة الغابات يتذمرون الآن من كثرة حيوان الرو والوعل وتخريبهم لأشجار الغابة. أما إذا لم تكن مهتما بالطبيعة، أو التزلج، أو الفن، فالطعام الشهي هنا سيبرر رحلتك إلى الأجواء الباردة والريح والصقيع، وأؤكد لك أنك ستسعد كثيرا حين تتناول الأطعمة الجبلية التقليدية والوصفات الجديدة الريفية التي تؤكل مع الخبز الطازج اللذيذ والأعشاب العطرية، فتنوعات الخبز لا تحصى.. فهناك الخبز الأبيض بالحليب والزبدة والبيض والبقدونس والبصل أو السبانخ، وهناك الخبز الحلو بالخوخ أو البرقوق والجوز، ثم ننتقل إلى الشوربة بالفطر البري أو شوربة الشعير مع البصل والكرفس والجزر والقليل من اللحم المدخن، وربما تفضل المعجنات على شكل وسائد محشية بالشوندر وجبن الغنم وجوزة الطيب. والطبق التقليدي بامتياز هو عصيدة من دقيق الذرة المغلي بالماء، ويسمونها polenta، وكانوا يستعملون في الماضي مزيجا من دقيق الشعير والسميد قبل أن يكتشف كريستوف كولومبوس القارة الأميركية، ويجلب الذرة منها، ويأكلون معها اللحم البقري المجفف، أما الحلويات.. فحدِّث ولا حرج، فهي تبدأ من الفطائر الهلالية بالزبدة أو الكريمة، ومنها إلى الفطائر المنفوخة على الطريقة النمساوية، وتسمى كرافن، أو فطائر، أو كعكة التفاح والجوز والزبيب، وتسمى شترودل. ولاختتام وجبة الغذاء أو العشاء ومصاحبة شاي بعد الظهر، لن تستطيع مقاومة حلويات كرابفن بالعجينة المغطاة بمربى الفواكه والسكر الناعم، أو خبز الأفراح المخلوط بالجوز والبندق والسكر والتين المجفف . باختصار منطقة الدولوميت ترضي كافة الأذواق والمشارب والهوايات، فمن لا يغمى عليه من شدة البرد، أو تعب التزلج، سيفقد وعيه بعد أن تنفتح شهيته ويملأ معدته بألذ ما أنتجه مطبخ إيطاليا والنمسا من أطيب الأطعمة.