الإعلان عن فتح أول أرشيف لـ«الحرب الأهلية اللبنانية» في ذكراها الـ35

«أمم للتوثيق» تشرّع خزائنها للباحثين وأول الغيث «كتب قتلت أصحابها»

ملصق معرض «كتب من الميدان» الذي سينتشر على اللوحات الإعلانية في بيروت بعد أيام
TT

يقول لقمان سليم، رئيس جمعية «أمم للتوثيق والأبحاث»: «الناس في لبنان مستنفرون للاحتفال بذكرى الحرب الأهلية، التي مضى على اندلاعها 35 عاما، ونحن مثلهم.. لذلك، هانحن نعيد افتتاح معرض عن المفقودين أثناء الحرب (عددهم يفوق 17 ألف شخص لم يعرف مصيرهم)، ونستعد يوم 20 من الشهر الحالي لافتتاح معرض آخر وهو الأهم، عن (كتب من الميدان - مشاهد من أدبيات الحرب)». وهو معرض يحاول أن يقص حكاية محطات من تاريخ البلد من خلال كتب شاركت في الحرب، وكانت جزءا من «البروبغندا» الحربية والسياسية، لأنها أشبه ببيانات سياسية. وهناك كتب أيضا قتلت أصحابها، وكلها ستكون في هذا المعرض الذي سيعلن من خلاله عن بداية الاستعدادات اللوجيستية لفتح خزانة جمعية «أمم للتوثيق والأبحاث» للاستعمال العام.

وأخيرا، إذن، سيكون للحرب اللبنانية الأهلية أرشيف موثق، يعود إليه البحاثة والدارسون. جمعية «أمم للتوثيق والأبحاث»، التي تتذكر اليوم مثل كل اللبنانيين في 13 أبريل (نيسان) من كل سنة، اندلاع الشرارة الأولى للحرب، تقوم بجهد كبير منذ تأسيسها عام 2004 لأرشفة الحرب الأهلية، وإخراجها من الضبابية والاجتهادات ووجهات النظر، إلى حيز المعلومة الموثقة. وطوال سنوات عملت «أمم» على جمع وثائق ورقية وسمعية وبصرية. بعض هذه الوثائق نادرة، ولا بد من حفظها على حوامل إلكترونية، لتسهيل العودة إليها. مشروع مكلف، وضروري لحفظ ذاكرة مرحلة دموية، المعلومات حولها شديدة التضارب. ومع ذلك فإن الدولة اللبنانية لم تعن بالأمر، ولولا تمويلات أجنبية، وتحديدا من النرويج وكندا والدنمارك وهولندا، ما كان لهذا المشروع أن يستمر أو يبصر النور.

جمعية «أمم» تتمركز في الضاحية الجنوبية، مما جعلها هدفا للطيران الإسرائيلي أثناء حرب 2006، ويقول لقمان سليم: «خلال حرب 2006، أصبنا بأضرار جسيمة.. فقدنا جزءا من الوثائق الورقية والصوتية، وفهمنا أن عمل سنوات يمكن أن يتلف في ثوان. قررنا أن نسرع في حفظ معلوماتنا إلكترونيا. وبفضل تمويل من مؤسسة (برنس كلاوس فاونديشن) الهولندية، استطعنا أن ننهض وننقذ جانبا مما فقدناه وليس كله. وقمنا بنسخ الكثير من الوثائق الورقية إلكترونيا لضمان حمايتها من التلف مستقبلا، هذا في المرحلة الأولى».

«في المرحلة الثانية، استطعنا أن نحصل على تمويل من السفارة الكندية، وتحديدا (الوكالة الكندية الدولية للتنمية) لنحفظ آلاف الصفحات الورقية إلكترونيا. وفي المرحلة الثالثة، قمنا بتصوير عدة آلاف أخرى من الصفحات ضوئيا، وحولناها إلى ملفات رقمية، بفضل تمويل من السفارة النرويجية».

بطبيعة الحال، هذه الثروة الأرشيفية، تبقى بلا فائدة، إن لم تفهرس، وتنظم، وتصبح صالحة كمراجع له مفاتيحها، وهذا الذي يتم العمل عليه حاليا، ليصبح منجزا، في الخريف المقبل.

إلى جانب مركز أبحاث «أمم»، الذي يعمل معه عدد من الناشطين الأوروبيين، في الضاحية الجنوبية، يوجد «الهنغار»، المكان الذي يستقبل المعارض والنشاطات، وقد تم ترميم صالة إضافية فيه، بفضل تمويل من وزارة الخارجية الدنماركية، حيث سيتم استقبال الباحثين الراغبين في الاطلاع على الأرشيف، بمساعدة ماري كلود سعيد وسيفاك كشيشان.

لكن، ما محتويات هذا الأرشيف الذي يعمل على جمعه وتوثيقه نحو 6 أشخاص بشكل يومي وحثيث، كل منهم له اختصاص لتلبية جانب من المهمات الكثيرة التي تتوزع بين الجميع، وفرز المعلومات، ومن ثم المسح الضوئي وتوثيق الصوتي والمرئي؟

تركز الجمعية، بحسب ما يروي لنا رئيسها، لقمان سليم، على «المادة الرمادية» أي كل ما كتب أو صدر بهدف نشره لمرة واحدة، من دون غاية تسويقية تجارية. من هذه المنشورات تلك الكتب التي نشرتها الأحزاب عن شهدائها، هناك أيضا البيانات والمناشير التي كانت تطبع للاستهلاك الظرفي السريع. ومما يحويه هذا الأرشيف أيضا، معلومات حول أحداث ومعارك خضعت بعد ذلك لرقابة شبه فورية، لأن الأحداث ما عادت تناسب أصحابها ويؤذيهم تذكرها، مثل الحرب بين حركة أمل وحزب الله. وهناك على سبيل المثال «حرب المخيمات» التي اندلعت بين الفلسطينيين وحركة أمل. يحوي الأرشيف بعض الصور، لكن الأهم من ذلك، المادة السمعية البصرية، إذ إن القيمين على المشروع لم يتوقفوا عن تسجيل المقابلات، مع أشخاص يمتلكون معلومات مهمة حول الحرب وما دار خلالها. وكي نكون دقيقين، فإن «أمم» بدأت بأرشفة الحرب الأهلية، لكن الحروب اللبنانية المتتالية في لبنان وعليه، تجعل من المهمة تكبر وتنمو، فقد وجدت الجمعية نفسها معنية بـ«حرب نهر البارد» مثلا في مايو (أيار) 2007 أيضا، وسجلت 40 ساعة مع سكان المخيم.

يشرح رئيس الجمعية، لقمان سليم، لـ«الشرق الأوسط»، أن «البحث لا يتوقف، والمهمة تنمو وتتفرع بسبب مفاجآت غير متوقعة في كثير من الأحيان، ليس فقط أن الحروب في لبنان سلسلة لا تنتهي، ولكن هناك ما تلزمنا به المصادفات، ولا نستطيع تجاهله. وجدنا أنفسنا فجأة أمام أرشيف فندق كارلتون، وهو فندق مهم في الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية، ومع ذلك بيع الفندق من سنة ونصف السنة، ودمر بالكامل، وترتفع مكانه حاليا عمارة من عدة طوابق. كان قدرنا أن ننقذ أرشيفا هذا الأوتيل. ذهبنا وأخذناه من المزبلة، كان قد رمي ليتم التخلص منه، واستطعنا أن ننجو به».

لا يعرف لقمان سليم، حتى الآن، ما الأهمية العلمية والتوثيقية لهذا الأرشيف قبل فرزه بالكامل والعمل عليه، لكنه يلفت النظر إلى أن جانبا مما عثر عليه، مثلا، يخبرنا عن الوجبات التي كانت تقدم في الأوتيل في الخمسينات، وما الذي كانوا يأكلونه في هذا الأوتيل، هذا لا بد سيهم الدارسين في يوم من الأيام.

الجانب التوثيقي غائب بالكامل عن الذهنية العربية، ولا يبدو أن هناك مؤسسات رسمية لبنانية تشتغل جديا على حفظ الذاكرة. أما ذاكرة الحرب، فهذه وضعها أكثر تعقيدا بسبب رغبة الكثيرين في طمرها ونسيانها. وهذا هو تماما ما تحاول محاربته «أمم للتوثيق»، معتبرة أن طي صفحة الماضي لا يكون بتجاهل الجروح، وإنما بمداواتها وعلاجها، وفهم الأسباب وإدراك التفاصيل.

ولهذا، فإن المهمة لا يجب أن تتوقف على العمل المحدود داخل مقر الجمعية مهما كان ثمينا، وإنما بالترويج للفكرة وبإقناع الناس، بضرورة الإسهام في حفظ الذاكرة، ليس المكتوبة فقط أو المصورة وإنما الشفهية أيضا. وتسعى الجمعية إلى التعاون مع جامعات، لحث الطلاب على الأرشفة وجمع المعلومات. وأول الغيث بدأ مع إحدى الجامعات حيث سيعمل الطلاب على تسجيل التاريخ الشفوي لإحدى مناطق كسروان.

يصف لقمان سليم هذا الأرشيف بأنه «أول أرشيف مواطني مفتوح وغير خاضع لمعاملات إدارية وتعقيدات رسمية لمراجعته». ويضيف: «لا بد أن جهات كثيرة لها أرشيفها الخاص، سواء كانت عسكرية أو أمنية، وربما استخباراتية أو حزبية. لكن هذه المعلومات لا توضع في تصرف المواطنين، وليست في خدمة الباحثين بشكل أوتوماتيكي».

ويقول لقمان سليم: «نحن لا نعمل في نبش المقابر. هذا ما يجب أن يدركه الناس، لكننا نؤمن أنه من الصعب أن نكون شفافين مع حاضرنا، إن لم نتقبّل ماضينا ونتعامل معه بصدق، ومن دون مراوغة ولا مداورة. تقبّل الذاكرة كما هي يحتاج إلى تمرين، وربما إلى بعض الترويج أيضا».