«الانتقام الأدبي».. سكين للقتل بدم بارد

التشهير بالآخر وسيلة للشهرة والملاحقات القضائية تمنع التصريح بالأسماء

TT

انتقام الأدباء من خصومهم بجعلهم أبطال رواياتهم أو قصصهم، والاقتصاص منهم بأبشع الصور، هو من شائع ما يمكن أن نقرأه اليوم. هذا أمر ليس بجديد في الأدب العربي، لكن الجديد في الأمر، هو أن تصبح الرواية هي المكان الأخصب للانتقام، وأن يكثر عدد المنتقمين وينمو بحيث يصبح ظاهرة تستحق القراءة والنظر.

* قديما كان شعر الهجاء سلاحا لذبح الخصوم والمنافسين، أو على الأقل جلدهم بسياط الكلام. أخذ المتنبي ثأره من كافور بأبيات من الشعر قطعت في لحمه وطحنت عظامه، وتراشق جرير والفرزدق حتى سالت الدماء ومعها العبقرية. وامتدت السنون ولم يكفّ المبدعون عن نهش خصومهم.

وعلى عكس الشعر المحكوم بشفافية المناورة واللعب الموحي على الرموز والدلالات أصبحت الساحة الروائية هي الأوسع لكل الضربات، منها الطائشة التي تصرح بأسماء الخصوم وتذكر القارئ في كل سطر بأنها تقصد الانتقام منهم، ومنها الاحترافية التي تسدد بنعومة الأفاعي فتقتل وتمتع، وتعيش مع القارئ لسنوات وقد ينسى أنها تخص شخصا ما.

وبين هذا وذاك قد يجد المبدع نفسه في مرمى الاتهام بمجرد الصدفة البحتة، لم يكن يقصد تعريضا أو إساءة لكن مصادفة تشابه الأسماء أدت به إلى معركة لم يسع إليها، أو أن يصبح ضحية لراغب في الشهرة يقتات على نشر صورته في الصحف.

كان للناقد فاروق عبد القادر قصب السبق في تسمية «أدب التلسين»، قاصدا به الإبداع الموجه للانتقام من أشخاص في الواقع، سواء كان سياسيا أو أدبيا، ومدللا على روايات «حكايات المؤسسة» و«حكايات الخبيئة»، و«عمارة يعقوبيان» للغيطاني وعلاء الأسواني، بأنها تنتمي لهذا النوع.

وحديثا شن الشاعر المصري عبد المنعم رمضان هجوما حادا على الروائية اللبنانية إلهام منصور تعقيبا على روايتها «تركت الهاتف يرن» متهما إياها بالتعريض بناقدة لبنانية كبيرة، وأنها شغلت القارئ طوال صفحات الرواية بكونها (الروائية) «تتفوق في كتاباتها وأبحاثها وصداقاتها وإخلاصها وحتى أدائها الجنسي»، بينما الناقدة في الرواية «خائنة تعشق رجلا عندما يقابل بدوره الروائية يخبر الناقدة بإنهاء علاقتهما، ليتفرغ للروائية».

يقول رمضان في مقال نشرته «أخبار الأدب» عن إلهام منصور وروايتها: «لم تعد الرواية نهر ديستويفسكي ونجيب محفوظ، إنما وعند البعض أصبحت موضوع خلافات ومصالح ومصالحات، نمطها طموحات صغيرة تجعل الإنسان محض حشرة صغيرة في حقل مهجور. أما فن الرواية فهو مجرد خيمة منسوجة من مخطط استهلاكي، أصبحت الرواية مثل كائنات هايدغر، أصبحت على يد هؤلاء هي الكائن القابل للاستبدال، ما إن يوجد حتى يسعى للزوال، وما إن ينتج حتى يسعى نحو الاستهلاك، وأيضا نحو الهلاك، فيترك المكان فارغا لما سوف يحل محله. وأصبحت بعض تقنيات الرواية مثل الموضة، قيمتها ووظيفتها في استبدال الباترونات من فصل إلى آخر ومن سنة إلى أخرى، صاحب الرواية نفسه أصبح موضة، أصبح مجرد كائن وقتي يوجد غير أنه يظل في انتظار ما سيأتي».

وتابع رمضان بحدة قائلا: «جمعتُ كتب إلهام، الباقي منها ثلاثة كتب، ولم أشأ أن أضعها خارج بيتي ليلتقطها عابر سبيل، فعلت معها ما يجب أن نفعله مع كتب إفساد الذوق، وضعتها في كيس من القماش التيل، كأنها جثة صغيرة، فكرت أن ألقيها في النيل، ولم أفعل، وما زلت لا أعرف طريقة الخلاص. كل القديسات أدخلن على قلبي السعادة، ماعدا القديسة الطاهرة إلهام منصور؛ فقد أتعستني، وجعلتني أعرق من الخجل، ولما شممت رائحة عرقي، وجدتها زنخة مثل رائحة الجثة في كيس القماش التيل، استحممت ولا فائدة، الكيس أصبح ثقيلا، أشك أن بعضا من اللحم قد أضيف إليه، نجّني يا رب».

ويقول رمضان لـ«الشرق الأوسط»: «هذا هو العصر الذهبي لفن السيرة الذاتية، وبعد الكشف عن الأنا وتعريتها امتد الكشف والتعرية إلى الآخر، وانتهز غير الموهوبين الفرصة فانتقموا من الخصوم بشكل فج وصريح، فيذكرك أحدهم في كل سطر بكينونة الشخص المستهدف بإلحاح مفتعل، وما يمنعه عن التصريح به شيء واحد فقط هو الملاحقة القضائية».

وبحسب رمضان فإن زمننا الآن يشاع أنه زمن الرواية، التي أخذت مكانة الشعر القديمة والكبيرة، فقد كان هو ديوان العرب، والاسم الأخير نابع من الجماعية، فهو ديوان أي مجلس جماعي، مضيفا: «قديما كان الشخص يشتهر لمجرد أن المتنبي هجاه، فعلى الرغم من مكانة كافور الإخشيدي السياسية فإن شهرته الكبرى جاءت مع هجاء المتنبي له، فقال فيه قولته الشهيرة: لا تشتري العبد إلا والعصى معه/ إن العبيد لأنجاس مناكيدُ»، في إشارة لأصله الأسود. والهجاء قديما كان يقوم على الفضح الاجتماعي، والرواية حاليا في سعيها لاحتلال مكانة الشعر قررت اقتباس بعض أدواته، وهذا سبب من أسباب انتشار أدب التلاسن والنميمة».

ومن بين الأسباب الأخرى – في رأي رمضان - انحسار الفعل السياسي في مجتمعاتنا منذ فترة طويلة، فكان التشاحن والتنافس يتم استيعابه في إطار العملية السياسية وأدواتها، لكن مع تراجع العملية السياسية احتضن الأدب بعض رواسب السياسة.

وأضاف رمضان: «الرواية جمعت محاسن الفنون الأخرى، وقمامتها أيضا».

وعن وصول هذا التلاسن لغرضه، وإمكانية الانتقام من الخصوم وتخليد سوءاتهم عبر الأدب، قال رمضان: «لا يمكن التنبؤ بمستقبل الأدب، وفي الستينات اتفق هيمنغواي مع مجلة أميركية على نشر مقال يتنبأ فيه بمستقبل الأدب مقابل 50 ألف دولار، لكنه اكتشف عدم استطاعته ذلك، فعدل الاتفاق إلى كتابة ثلاث قصص مقابل 100 ألف دولار. لذلك، لا نستطيع التنبؤ بخلود هذا الانتقام أو زواله».

لكن هناك شواهد لانتقام أدبي شعري وروائي، خاصة مع تناول ديستويفسكي لشخصية برجينيف في أعماله، وكتابة أحمد فؤاد نجم لقصائد لاذعة في السادات وعبد الناصر، إضافة إلى نجيب سرور وديوانه الممنوع «الأميات»، الذي ذكر فيه شخصيات حقيقية في الواقع السياسي والأدبي في مصر. وهنا علق رمضان قائلا: «في رأيي ديستويفسكي كتب عن بريجينيف بملامح روائية لم يكتف بشخصيته الواقعية، لكنه أضاف إليها فبقي رسمه لها خالدا. وبالمثل كان جمال الغيطاني في تجربته (حكايات المؤسسة) التي تناول فيها شخصيات صحافية حقيقية، وهي عمل جميل ورائع، وبمرور الوقت تتعدى زمانها ومكانها وتبقى مع الناس شخصيات روائية حقيقية. أما ظاهرة الهجاء السياسي ومنها قصائد نجم فهو نوع من الأدب كتب على ظهر النتيجة، بمجرد انتهاء الحدث السياسي يسقط الناس ما كتب عن الحدث من ذاكرتهم، ويبقى أسيرا لظروفه المكانية والزمانية».

بدوره قال الكاتب صلاح عيسى إن «أدب التلسين» الذي نحت مصطلحه الناقد الكبير فاروق عبد القادر يتجه فيه المبدعون إلى تصفية حساباتهم الشخصية مع خصومهم، ويستدعون فيه شخصيات عامة أو أدبية بهدف إثارة فضول القارئ إلى التلصص على الآخرين. وبحسب عيسى فإن الظاهرة تمتد إلى كل الفنون خاصة السينما والرواية والشعر، وضرب مثلا بالمخرج الراحل حسام الدين مصطفى الذي ضاق ذرعا بكتابات الناقد الكبير الراحل سامي السلاموني، فقدم شخصية في أحد أفلامه تحمل اسم السلاموني، يضربها كل من في الفيلم على «القفا» بل ويسخرون منها طوال الأحداث.

وتابع عيسى قائلا: «كان فريد الأطرش يكره الصحافيين، ولذلك تظهر في أغلب أفلامه شخصية الصحافي وهو يجلس في بيته يتطفل على بيته وملابسه وأمواله».

وفي الرواية - وفق عيسى - فإن أسماء كبيرة من أهل القلم تورطوا في عمليات الانتقام الأدبي، فكتب موسى صبري «دموع صاحبة الجلالة»، وقيل إن شخصية «محفوظ عجب» قصد بها محمد حسنين هيكل، بينما قيل إن شخصية الصحافي الكبير في رواية فتحي غانم «الرجل الذي فقد ظله» قصد بها مصطفى أمين فقدمه كخادم للسلطة في عصر الملكية والثورة على السواء، بينما الصحافي الصغير كان هيكل.

وقال عيسى إن وجود شخصيات لها جذور في الواقع داخل الأدب أمر مقبول، وسبق أن ظهرت شخصيات سلامة موسى وأحمد حسن الزيات داخل أعمال نجيب محفوظ مثلا. وحفلت الثلاثية بكثير من الأشخاص الحقيقيين، لكن العبرة بالتناول، فهناك في رأيه من يهدف إلى الإثارة الرخيصة ومن يهدف إلى التناول الواقعي الجاد.

وسلط عيسى الضوء على ما يسمى الأدب السري، مثل أشعار أحمد فؤاد نجم المغناة في الستينات والسبعينات، وكذلك بعض أعمال نجيب سرور، فهذا النوع في رأيه حافل بالانتقام، سواء لأغراض عامة مثل أشعار نجم أو لأسباب نفسية اضطرابية مثل «أميات» سرور، التي كتبها وهو نزيل في مستشفي للعلاج النفسي.

وختم عيسى حديثه بإعلانه أن الأدباء حاليا، «كثير منهم مشغول بترويج أعماله بأدوات غير فنية، فمنهم من يذهب للمظاهرات من أجل ذلك، أو يقتبس شخصيات حقيقية ليثير فضول القراء، وبعضهم يتصنع الضجيج بأي شكل. ومن هنا راج أدب التلاسن أو الانتقام».

ويفسر أستاذ علم الجمال الأدبي الناقد الدكتور عبد المنعم تليمة شيوع هذا النوع من الانتقام إلى سيادة الذاتية والبعد عن المؤسساتية. ففي ظل نقص الحريات في العالم العربي تتحكم الأهواء الذاتية في حركة الثقافة والأدب، ومن هنا نتوقع الشيء ونقيضه في الوقت ذاته، ففي رأيه قد يكتب أديب رواية فيرفع فيها شخصا إلى عنان السماء أو ينتقم منه أشد الانتقام، لأن الذاتية في رأيه والمصالح الشخصية هما ما يحركانه.

وقال تليمة إن كل تلك الإرهاصات من نتاج نظام ثورة يوليو، التي قضت في رأيه على المجتمع المدني والحريات، والأشكال المؤسسية، فراجت هذه الأنواع من أدب التلسين، نتيجة التعلق بفرد، أو التعلق بالذات، كما ساعدت البيروقراطية المعقدة بدورها على القضاء على ما تبقى من المؤسسية.

الروائي مكاوي سعيد، كادت روايته «تغريدة البجعة» أن تفوز بجائزة «البوكر» في نسختها الأولى، وكثير من شخوصها مستمد من الحقيقة، تقطن منطقة «وسط البلد». رفض سعيد نهج الانتقام الأدبي، معتبرا أن التلسين لا يبقى في تاريخ الأدب، والأجدى بصاحبه أن يكتب مقالا يسب فيه من يشاء دون أن يرهق نفسه بكتابة ما يطلق عليه أدب. وفي رأي مكاوي فإن من يلجأ إلى هذا النوع من الكتابة أديب متواضع القدرات، لأن الشخصيات الروائية تتطلب دراسة وتتبع ظروف نشأتها وتطورها، حتى لو استمدت خيوطها الأولى من الواقع. أما الاكتفاء بنقل شخوص معروفة من الواقع فدليل فشل، خاصة أنه ينقلها بصورتها النمطية عنها دون تدخل أو معايشة. وقد يلقى ذلك رواجا محدودا نتيجة اللعب على المكبوت السياسي مثلا، لكنه لا يبقى أبدا في ذاكرة الأدب.

وتؤكد الروائية سلوى بكر أن تطابق الشخصيات في الرواية مع أخرى في الواقع لا يكتشفه سوى جمهور في دائرة ضيقة للغاية. والأدب عموما جمهوره واسع، وبالتالي سيحكم على العمل وفق المعايير الأدبية، ولن يفطن إلى ما يختبئ خلف الشخصيات. وتعتبر سلوى أن اللجوء للانتقام الشخصي عبر الأدب نوع من الصبيانية لا يقدم عليه أديب كبير أو موهوب.