المغرب: رحيل عبد العزيز مزيان بلفقيه المستشار الملكي.. و«مهندس» تعيين الوزراء

اكتشف مواهبه الملك الراحل الحسن الثاني من خلال عمله في الصحراء.. واشتهر بصمته

عبد العزيز مزيان بلفقيه («الشرق الأوسط»)
TT

غيب الموت، صباح أول من أمس، عبد العزيز مزيان بلفقيه، مستشار العاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي كان يعد من أكثر المستشارين نفوذا داخل الديوان الملكي، ودفع بكثيرين إلى الصفوف الأمامية سواء في مواقع وزارية أو في مناصب قيادية داخل مؤسسات الدولة.

وعلى الرغم من أن اسمه ظل يتردد كثيرا، وبقى حاضرا في مختلف الأنشطة الرسمية والحكومية، فإن الرجل عرف بصمته وابتعاده عن الأضواء، وفضل أن يلعب دور المهندس الذي يخطط ويرسم التوجهات من وراء الستار، ويختار الكوادر التي يعهد إليها إدارة مرافق الدولة. حين عينه الملك الراحل الحسن الثاني في منصب مستشار عام 1998 بعد توليه عدة مهام وزارية، كان بلفقيه قد تولى معالجة الملفات التي طلب منه معالجتها في صمت وهدوء شديدين، ولم يكن يتحدث إلا نادرا.

ويقول المؤرخ المغربي الدكتور عبد الهادي التازي لـ«الشرق الأوسط» إن لقب «بلفقيه» يدل على أن أحد أجداد الرجل كان فقيها، وكان لقب «الفقيه» في المجتمع المغربي «يحمل طابعا سياسيا بالغ الخطورة فهو ليس أستاذا أو معلما، بل أكبر من ذلك ولا يناله إلا السياسيون والمفكرون الكبار الذين يتولون أمور البلاد والعباد مثل بلقاضي وبلمفتي».

ويضيف التازي: عرفت عبد العزيز مزيان بلفقيه عندما كان مهندسا يعمل بمصلحة الخرائط المغربية، وكان مهندسا ناجحا، وكان يتميز بالعمل الصامت ويحب أن يعمل دائما في هدوء، بعيدا عن الضجيج. وهو مخلص ووفي لمهمته. اكتشفه الملك الراحل الملك الحسن الثاني وقربه إليه، وكان سعيدا بأدائه، بسبب توفره على كفاءة عالية.

ويوضح التازي مهمة المستشار قائلا: «كل مستشار يكلف بقطاع من قطاعات الدولة بأمر من الملك، وهذا الرجل كان مكلفا بعدد من القطاعات الدقيقة والمهمة، وكان يؤدي مهمته بنزاهة كاملة، وبإتقان، من بينها قطاع التعليم الذي يعد من القطاعات الاستراتيجية الهامة، وكان الرجل لا يتردد في استشارة كل شخص يعرف أن وراءه سرا لنجاح مهمته، من التوصل إلى الحلول. وكان لا يحابي أحدا، وللمرة الأولى أقول إني كنت من الذين استشارهم بشأن جامعة القرويين والتعليم الأصيل، وطلب مني أن أزوده بكتابي حول القرويين الذي يتألف من ثلاثة مجلدات، وشعرت أن الرجل عرف جيدا مركز القرويين ودورها في إشعاع التعليم، وكان يعمل من أجل إبراز هذا الدور في برنامجه حول التعليم في المغرب».

ويضيف التازي أن بلفقيه «كان يرغب في الإشراف على تكوين الكوادر المغربية التي تعمل في مجال الهندسة، كما كان مكلفا من قبل الملك محمد السادس بأن يساعدني على تقديم مكتبتي الخاصة إلى جامعة القرويين، وترحيل وثائقي الخاصة إلى إدارة الوثائق الملكية».

في عام 2003 كلف العاهل المغربي الملك محمد السادس بلفقيه، إدارة فريق من الخبراء المحليين والدوليين للاعتكاف على إعداد تقرير شامل حول أوضاع التنمية في المغرب خلال نصف قرن منذ استقلال البلاد عام 1956، وهو التقرير الذي كان جاهزا عام 2005، وقدم تحت عنوان: «50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب». ورصد التقرير مختلف الإخفاقات التي عرفها المغرب في عدد من القطاعات الحيوية في البلاد.

وقبل ذلك، أي في عام 1999 عينه الملك الراحل الحسن الثاني، رئيسا للجنة عهد إليها اقتراح مشروع لإصلاح نظام التربية والتعليم. وهو المشروع الذي يثار حوله الكثير من الجدل بسبب فشل مختلف الحكومات المتعاقبة على الارتقاء بقطاع التعليم في المغرب، الذي عرف تراجعا مقلقا في السنوات الأخيرة.

وعرف عن بلفقيه وقوفه وراء مختلف التعيينات في المناصب الوزارية، والمؤسسات الحكومية الكبرى، حيث هيمن خريجو مدارس القناطر والطرق على مختلف المناصب الهامة في البلاد.

ولد بلفقيه عام 1944 بمدينة تاوريرت ( شرق)، و حصل على دبلوم مهندس مدني من المدرسة الوطنية للقناطر والطرق، ودبلوم مهندس من المعهد الوطني للعلوم التطبيقية من مدينة ليون بفرنسا، وعلى شهادة الدروس المعمقة في الميكانيك الصلب من باريس، ودبلوم الدراسات العليا في تدبير المشاريع من جامعة ليل الفرنسية.

و بدأ مشواره المهني عام 1968 بوزارة الأشغال العمومية في وظيفة مهندس، حيث أشرف على إنشاء سد مولاي يوسف على نهر تاساوت. وفي عام 1974 عين رئيسا للقسم التقني بمديرية الطرق ثم رئيسا لدائرة الأشغال والمواصلات بالرباط.

وبعد إطلاق «المسيرة الخضراء» من قبل الملك الحسن الثاني باتجاه الصحراء، عين منسقا في العيون (كبرى مدن الصحراء) لمصالح وزارة الأشغال والمواصلات في الصحراء، حيث ظل يجوب المنطقة. وينسب إليه تحديد جميع مصادر المياه في الصحراء، وهو أمر نوه به علانية الملك الحسن الثاني.

وعند عودته إلى الرباط عام 1978 شغل بلفقيه عدة مناصب، ضمنها: مدير المفتشية العامة بوزارة التجهيز والإنعاش الوطني ما بين 1978 و1980، ومدير الطرق من 1980 إلى 1983، وكاتب عام (وكيل) وزارة الأشغال والتكوين المهني وتكوين الأطر ابتداء من عام 1983 إلى غاية 1992. كما عين عام 1993 وزيرا للفلاحة والإصلاح الزراعي.

وفي 7 يونيو (حزيران) 1994 أعيد تعيينه وزيرا للفلاحة والإصلاح الزراعي في الحكومة التي ترأسها الراحل عبد اللطيف الفيلالي. وفي 31 يناير (كانون الأول)1995 كلفه الملك الحسن الثاني بمهام وزير الأشغال والتكوين المهني وتكوين الأطر بالنيابة. وفي فبراير (شباط) 1995 عين وزيرا للأشغال، وفي 13 أغسطس (آب) 1997 عين وزيرا للفلاحة والتجهيز والبيئة، وهو المنصب الذي شغله حتى مارس (آذار) 1998.وفي 24 أبريل (نيسان) 1998، عينه الملك الراحل الحسن الثاني، مستشارا بالديوان الملكي، وظل في هذا المنصب في عهد الملك محمد السادس، لكن نفوذه تعزز كثيرا.

وبعث العاهل المغربي الملك محمد السادس برقية تعزية ومواساة إلى أفراد أسرة المستشار بلفقيه.

وقال الملك محمد السادس إن المغرب فقد برحيل بلمزيان «أحد أبنائه البررة، ورجلا من رجالات الدولة الكبار، الذين قلما يجود الزمان بمثلهم، لما هو مشهود له به من كفاءة وتجرد وإخلاص في أدائه للواجب المهني، مكرسا حياته لقضايا الوطن بنظر حصيف ومشورة صادقة، ووفاء مكين لمقدساته وثوابته».

وأضاف العاهل المغربي أن الراحل سيظل «خالدا في الذاكرة، وفي السجل الذهبي لتاريخ المغرب، بما أسداه لوطنه من أعمال مبرورة، وخدمات جليلة، في كل المسؤوليات السامية، التي أنيطت به، مستشارا نصوحا لنا ولوالدنا المنعم الملك الحسن الثاني، ووزيرا مخلصا في عدة حكومات وقطاعات، مؤديا بأمانة وحكمة وحنكة، وخبرة واسعة، وتفان ونكران ذات، وتواضع لله، ما أنيط به من مهام وطنية كبرى. فكان نموذجا لجيل جمع بين الغيرة الوطنية الصادقة والمواطنة الملتزمة».

وأشار الملك محمد السادس إلى أن بلفقيه كان يتمتع بـ«خصال إنسانية نبيلة، وشهامة وإباء، وتحمل للابتلاء، وتبصر وأناة، واستقامة ورزانة».

تجدر الإشارة إلى أن مراسم تشييع جنازة بلفقيه، ستتم اليوم بعد صلاة الظهر، بمسقط رأسه بمدينة تاوريرت.