لبنان يعيد اكتشاف عمر الزعني «موليير الشرق» بعد 50 سنة على رحيله

أحمد قعبور يغني أشعاره.. وتراثه يعود للناس في 15 أسطوانة مدمجة

عمر الزعني على المسرح خلال إحدى حفلاته
TT

أسطوانة مدمجة لأغنيات ترجع إلى الفترة ما بين (1920 - 1930) صدرت مؤخرا في لبنان. هذه الأغنيات المسجلة بصوت الفنان الموهوب عمر الزعني تعود إلى الناس، كما أداها قبل 80 ســـــــــــــــنة، بعد غياب وتهميش لهذا الشاعر والملحن والمغني الجريء، حتى نسي الكثيرون اسم الرجل وتاريخه ومكانته البارزة التي احتلها ذات يوم، بفضل أشعاره اللاذعة، وكلماته الساخرة، بنكهتها الســــــــــــياسية والاجتماعية الحارقة.

في فبراير (شباط) الماضي، بدأ اسم الزعني يعود إلى الظهور، بفضل حفل أحياه الفنان المعروف أحمد قعبور تحية له، حيث أعاد توزيع وغناء عدد من أغنيات الزعني. وفي أبريل (نيسان) الماضي أحيا قعبور حفلة أخرى في بيروت في «قصر اليونيسكو» مع عدد من الفنانين تحية لـ«شاعر الشعب» عمر الزعني. وبمناسبة هذا الحفل صدرت الأسطوانة بصوت الزعني مع كتاب عنه وضعه سمير الزعني، أمين عام تراث عمر الزعني وابن شقيقه.

وفي الأسبوعين الأخيرين جال قعبور في 3 مدن لبنانية هي صيدا وبيروت وطرابلس ليقدم 3 حفلات، محورها الأبرز استعادة الزعني «موليير الشرق» بصوت أحمد قعبور جديدا، حديثا، نابضا، وكأن شيئا لم يتغير منذ النصف الأول من القرن الماضي حتى اليوم، حيث بدا شعر الزعني الذي ينتقد رجالات السياسة والغلاء، وإهمال الفقراء وانتفاخ الأغنياء، وتفشي الجشع والطمع، وكأنه طازج خارج للتو من صميم أوجاع الناس. إضافة إلى ذلك، فإن المخرجة رنا نجار في طريقها إلى تصوير فيلم وثائقي عن عمر الزعني للتعريف بمساره بموازاة تعريف قعبور بأغنياته.

سمير الزعني أمين عام تراث عمر الزعني وابن شقيقه، يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن تسجيلات لأغنيات مجموعة لديه بدأ عمه بغنائها منذ عام 1916 وحتى وفاته عام 1961، وهي جاهزة لتصدر في 15 أسطوانة مدمجة، ستشكل عندما تبصر النور إنجازا يستحق الاحتفاء به لما لهذه الأغاني من قيمة فنية على مستوى الكلمة واللحن والتأريخ الاجتماعي لمرحلة تأسيسية من عمر الجمهورية اللبنانية.

يخطر لك وأنت ترى أن عمر الزعني، ينبعث فجأة من جديد بصوت أحمد قعبور ومن خلال الأسطوانات أن ثمة أسبابا جوهرية لذلك. على هذا السؤال يجيب سمير الزعني بأن محاولات الحفاظ على تراث عمه لم تتوقف منذ أواخر الســــــــــــــــبعينات لكنها بقيت عائلية، وكانت هناك محاولات دائمة للتذكــــــــــــــــــير به. وعام 1995 أقيم احتفال كبير في بيروت بمبادرة من «جمعية أرباب القلم»، لاستذكار الرجل، لكن الإمكانيات بقيت محدودة. «وكنا لا نسمح لأحد باستعادة الأغنيات أو التصرف بها». ويكمل سمير الزعني: «لكن بعد وفاة ابني وابن عمي وأبي، وجدت نفسي أمام هذا التراث الكبير، ورأيت أن علينا أن نفعل شيئا، من أجل نشره، ومن هنا كانت البداية مع أحمد قعبور». والأمر أبعد من ذلك كما يقول سمير الزعني، «فوالد الفنان أحمد قعبور، أي محمود قعبور كان عازف الكمان في فرقة عمر الزعني الموسيقية، ونشأ أحمد وهو يسمع أغنيات الزعني وأخباره وحكاياته من والده». لكن أحمد قعبور نفسه يذهب إلى أبعد من ذلك في إحدى مقابلاته، ويعتبر وهو البيروتي أن «هذه المدينة التي لم تكن بطلة في ظل الجمهورية الأولى، فالبطل في هذه الجمهورية كان (ثقافة الجبل) والعرزال والعين وساحة الضيعة، وبيروت لم تكن أكثر من عاصمة بالمعنى الفلكلوري»، معتبرا أن «الرحبانية وفيروز» كما «تلفزيون لبنان» و«مهرجانات بعلبك» و«فرقة الأنوار» عنــــــــــــــدما كان رواد هذه المؤسســــــــات ينتقـــــــــــدون الرؤساء في الجمهورية الأولى، كان الرؤساء يصفقــــــــــون للنقد لأسباب فلكلورية. أما عمر الزعني فكان في رأيه حقيقيا وصادقا. أحمد قعبور إذن، وجد في الزعني الرجل الأصدق في التعبير عن بيروت تلك المرحــــــــــلة. وباستعادة الزعني، إنما يستعيد معالم المدينة التي غناها ووصف مطاعمها وسينماتها، وناسها، وسهراتها ولباس أهلها وحركاتهم وسكناتهم، سواء في أغنيته «ما في شي ماشي غير السينما» أو تلك الأغنية التي كتبها إبان الاحتلال الفرنسي «كله نظيف كله ظريف كله مهفهف كله نحيف». عمر الزعني مؤرخ فني بشكل من الأشكال للعاصمة التي لم تجد من ينصفها حسب ما يرى قعبور، لكنه أيضا ثائر ومناضل سياسي على طريقته. فقد غنى «لو كنت حصان بإسطبل فرعون، باكل فستق باكل بندق. ما بسرق مثل الزعران. لو كنت حصان» وأغضب حينها الوزير هنري فرعون، الذي تقدم بشكوى ضده ليسجن 3 أشهر. وهذه لم تكن المرة الوحيدة التي تتسبب له قصائده في السجن أو العقاب المباشر. أكثر من مرة سجن عمر الزعني بسبب جرأته ونقده الذي لم يوفر كبيرا أو صغيرا. فهل لهذا السبب تواطأ كثيرون على تهميشه بعد ذلك؟

يعتبر سمير الزعني أن عمه لم يكن شاعرا فقط أو مغنيا وإنما كان ملحنا متميزا، فقد كان من أوائل من أدخلوا النغم الغربي على التخت الشرقي، ومشكلته الكبيرة أنه لم ينصف حتى من الفنانين أنفسهم. ويذكر سمير الزعني «أن أغنية (عندك بحرية يا ريس) التي غناها وديع الصافي، هي في الأصل لعمر الزعني وكان مطلعها (بدنا بحرية يا ريس) وارتأى عبد الوهاب أن يخلصها من كلماتها السياسية التي توجع الرأس وتجلب المتاعب ووزعها إلياس الرحباني، لتصبح على ما هي عليه اليوم. ولكن ها هي تظهر الآن على الأسطوانة الصادرة مؤخرا بصوت عمر الزعني ونسختها القديمة الأصلية كما غناها في ذاك الوقت».

ولد عمر الزعني في بيروت عام 1885 والده كان تاجر حنطة وشعير. تعلم في مدارس بيروت ثم انتقل إلى حمص ليتخرج سنة 1914 من المدرسة الحربية هنـــــــــــــــاك وعين ضابطا في الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى، وبعد الحرب دخل جامعة «القديس يوسف» وتخرج منها محاميا. درّس اللغة الفرنســـــــــــية ثم عين مساعدا لقاض في المحكمة البدائية. وبسبب أغنيتــــه التي أنكرت عليه لاحقا «بدنا بحرية يا ريس» التي هاجم بها رئيس الجمهورية آنذاك شارل دباس نفي إلى البترون (شمال لبنان)، ليتـــــــــــرك الوظيفة بعدها وينطلق للشأن العـــــام.

ما يشعر سمير الزعني اليوم بالغبن هو أن هذا المسار النضالي لفنان من وزن عمر الزعني، طمس واستغل وأهمل وكأنما كل ذلك يحدث عمدا.

أحمد قعبور في حفلاته التي يستعيد فيها هذا الشاعر الحر، والفنان المنسي، يتعمد أن يسمعنا صوته، يتحدث معه، يناقشه في غضبه وأسباب ثورته، بطريقة مبتكرة وظريفة للتعريف برجل متمرد. صوت عمر الزعني، وهو يتكلم ويجادل ويغني، بات في متناول الناس. إنها بيروت عمر الزعني، بيروت بدايات القرن الماضي، التي ما زالت تشبه نفسها، وتجتر معايبها حد الإدهاش. أوليس هذا سببا جوهريا لنبش تراث الزعني والتغني به حين يقول «القهاوي مليانة، والسينمات غنمانة والشبان سهرانة، والستات بطرانة، ما في بضاعة كسدانة. المستقبل يخوف، وأكل الهوى بيكلف، والناس بردوا بتكيف، بتشتي وبتصيف. ومنقول الدنيا كريزا».