مطعم «قصر البلور» في دمشق.. مقصد المجتمع المخملي منذ 100 سنة

صاحبه يطالب وزارة الثقافة السورية بتسجيله ضمن الأماكن التراثية

واجهة مطعم ومقهى «قصر البلور» في دمشق («الشرق الأوسط»)
TT

عندما تصادف مواطنا سوريا يراجع المؤسسات المختصة، كالمحافظة أو وزارة الثقافة أو الإدارة المحلية، ويخبرك أنه جاء ليعترض على قرار بمنعه من هدم منشأة تجارية أو سياحية يملكها، فالأمر يبدو طبيعيا جدا، لكن من النادر تماما وجود حالة مناقضة، أي أن يطالب مواطن سوري الجهات المعنية بوضع منشأته ضمن نسيج الأماكن التاريخية والتراثية الممنوع هدمها.. كي لا يفكر أحد من أفراد أسرته بهدمها وتحويلها إلى مبنى تجاري وسكني.

نعم.. هذا أمر نادر الحدوث، لكنه حدث فعلا مع زهير دحدوح عبر «الشرق الأوسط» التي زارت مؤخرا مقهاه ومطعمه «قصر البلور» المعروف في دمشق.

دحدوح، 60 سنة، الملقب بـ«أبو فارس»، هو اليوم صاحب «قصر البلور»، وقد ورثه عن أبيه، واختار أن يطالب من خلال «الشرق الأوسط» سلطات محافظة مدينة دمشق ووزارة الثقافة السورية بتسجيل المقهى والمطعم، الذي امتلكه أبوه لأكثر من 70 سنة، ضمن سجل المباني التاريخية الممنوع على صاحبها هدمها أو تحويلها لغير تخصصها.

ما يزيد الوضع غرابة، أن «قصر البلور» يقع في أهم وأجمل منطقة سياحية وتاريخية في دمشق، وأكثرها جذبا للمتسوقين والسياح العرب والأجانب؛ فهي ساحة باب توما والسوق الشهيرة المنطلقة منها نحو حي القصاع ونحو ساحة برج الروس، كما أنه يطل بشكل بانورامي جميل على مجرى نهر بردى العابر بين بابي السلام وتوما، ثم إن «قصر البلور» يتميز بمساحته الواسعة التي تتجاوز 450 مترا مربعا، ويضم جناحين هما: مقهى، ومطعم صيفي واسع، مع باحة خارجية جميلة وجناح شتوي مبني ومحاط مع الصيفي بجدران زجاجية شفافة تطل على حركة الشارع.

ويشرح «أبو فارس» مبررا أمنيته قائلا إن المطعم والمقهى الذي أطلق عليه اسم «قصر البلور»، تشبها بمثيله الباريسي، «كان محاطا من جميع جوانبه بالبلور، حتى إن قبته كانت من الزجاج قبل ستينات القرن الماضي، غير أنها أزيلت بسبب إجراء بعض مستثمريه تغييرات فيه، لم تكن أساسية ولكنها غيرت بعض معالمه».

ويضيف «أبو فارس» شارحا: «لقد تحدثت عنه بعض الكتب الفرنسية وتظهر في كتاب حصلت عليه صورة لجندي فرنسي يحتسي البيرة في (قصر البلور) الدمشقي وتعود إلى ما قبل عام 1940، أي أنه كان موجودا منذ عشرينات القرن الماضي، بل، ويقال إن عمره نحو 100 سنة.. وكان من أوائل مطاعم ومقاهي دمشق. وكانت مساحته كبيرة ويضم حديقة واسعة، ولكن عند تنظيم منطقة باب توما، من قبل محافظة دمشق، وتأسيس شوارع جديدة، استُملك جزء من (قصر البلور) لصالح الشارع فتقلصت مساحته».

وتابع شرحه فقال: «أبي، خريستو دياب دحدوح، وهو من بلدة معلولا الرابضة في جبال القلمون، إلى الشمال الغربي من دمشق، امتلكه عام 1940، وورثته عنه فيما بعد وما زلت محافظا عليه كمطعم اشتهر منذ نصف قرن بين الدمشقيين وزوار دمشق بأنه يقدم الأسماك البحرية الطازجة، وطبق (السمكة الحرة) الذي يحضر بطريقة خاصة في مطعمنا منذ 70 سنة، بجانب مختلف أنواع اللحوم المشوية والمقبلات الشامية والشرقية. ثم إن مؤسستنا تستقبل الرواد الذين يرغبون باحتساء المشروبات الباردة والساخنة كمقهى».

ويفصل «أبو فارس» في حديثه لـ«الشرق الأوسط» الأحداث التي شهدها مطعمه وأكسبته شهرة وسمعة بين المشاهير، ومنها أنه كانت تتردد عليه دائما نخبة من كبار الساسة والأدباء والمثقفين والفنانين السوريين والعرب. ويروي أن «من الأحداث الشهيرة أن رئيس وزراء سورية الأسبق فارس الخوري كرم الكاتبة الشهيرة مي زيادة في حفل أقيم في (قصر البلور). وممن زار مطعمنا ومقهانا أيضا: أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. وفي مقابلة تلفزيونية مع شيخ المنشدين السوريين توفيق المنجد، ذكر المنجد أنه كان يلتقي عبد الوهاب أثناء زياراته لدمشق في مطعم ومقهى (قصر البلور) في باب توما، والتسجيل موجود في أرشيف التلفزيون السوري. وأيضا المطربة الشهيرة ماري جبران، الملقبة بـ(أم كلثوم سورية) أحيت حفلا هنا في بدايات خمسينات القرن الماضي، كما غنى فيه المطرب اللبناني الراحل عصام رجي. ومن أهل الأدب كان من مرتاديه الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي، الذي كتب الكثير من قصائده في المقهى الذي كان يرتاده يوميا عندما كان في دمشق، كذلك منهم الشعراء نديم محمد وسليمان العيسى ومحمد الماغوط في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وقبل عشرين سنة الشاعر العراقي مظفر النواب. ومن الساسة كان الوزير سهيل خوري، والد الكاتبة المعروفة كولييت خوري، من مرتادي المقهى المداومين بشكل يومي ومثله النائب السابق حبيب كحالة. كذلك استقطب الساسة السوريين بين أربعينات وستينات القرن الماضي وبينهم حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي وبعض ضباط الحركة الثورية في عامي 1960 و1963.. وبالتالي، تحول المقهى في تلك الفترة إلى منتدى ثقافي وأدبي وسياسي».

ثم أشار «أبو فارس» إلى أن «قصر البلور»، قبل أن تنتشر المطاعم الحديثة والمطاعم والفنادق المجددة من أصول «البيوت القديمة»، كان يعتبر المكان المفضل لإقامة المناسبات الاجتماعية الراقية، في باحته الصيفية أو قاعته الشتوية، كما كان فعلا ملتقى النخبة الثقافية والسياسية و«المجتمع المخملي» في دمشق في منتصف القرن الماضي.. وتحول إلى أحد معالم دمشق، خاصة لإطلالته الشاعرية على نهر بردى عندما كان في أوج جريانه قبل 30 سنة.

وهنا، يصل «أبو فارس» إلى بيت القصيد، فيقول: «لم نجر أية إضافات معمارية عليه حتى نحافظ على تراثيته؛ لذلك وعلى الرغم من كل المغريات التي تقدم لنا لكي نبيعه، بحيث يمكن تحويله إلى منشأة كبيرة تجارية وغير ذلك، أصر على رفض فكرة بيعه، فأنا لا أريد بيعه أو حتى تأجيره.. بل أوصيت أولادي بالمحافظة عليه ليتناقله الأبناء عن الآباء والأحفاد عن الأجداد. وفي هذا أنا أحافظ على وصية والدي، خريستو دحدوح، بألا نبيع هذا المطعم مهما جاءنا من المال ومهما انخفض دخلنا منه، حتى لو لم يعد يقدم لنا ربحا إلا ألف ليرة في اليوم؛ لذلك أطالب وزارة الثقافة السورية بأن تدرج (قصر البلور) ضمن سجل المنشآت التراثية كي لا يفكر أحد من أولاد أولادنا في يوم من الأيام بهدمه لتقوم مكانه دكاكين ومكاتب تجارية».