فنان عراقي مشهور يتحول إلى بائع على الأرصفة...

عبد الستار البصري: أبيع الشامبو وشفرات الحلاقة لأعيش حياة كريمة

TT

يمكن للصحافي ان يستقل سيارة النقل الخاص الكبيرة لقضاء مشاويره، فقد يقتضي عمله الميداني ذلك، او لاعتماده على الراتب كأي موظف آخر يحلم باقتناء سيارة خاصة، ولكن ان يستقل الفنانون نفس السيارة، وبوضع مزر ومثير للتساؤل، فهو شيء لا يصدقه الناس، لان صورة الفنان اقترنت لدى الآخرين بالترف والثراء، او الاهتمام بالمظاهر على الاقل.. ولد هذا التساؤل مصحوبا بـ«الدهشة» في سيارة من سيارات النقل الخاص المعروفة بابخرتها السوداء وصوتها الموسيقي النشاز.. كنت في طريقي لانجاز مهمة صحافية حيث شاهدته يجلس امامي وكأنه يمثل مشهداً تلفزيونياً.. كان الفنان المعروف عبد الستار البصري.. نعم هو، لكنه كان جالساً وحده، ويتحدث مع نفسه.. قلت في سري.. «الفنانون مشهورون بالاختلاف والغرابة.. لعله يحفظ دوراً ويراجعه..»، لكن الامر لم يكن كذلك كما يبدو، فهل كان يرتدي الملابس (المتعبة) ليتدرب على دوره ايضا، واي دور هذا الذي يجعله يكلم نفسه ويخرج الى الناس بملابس لا تليق بفنان معروف.. قطعت الشك باليقين، وانتظرت ان ينزل لالحق به واسأله مباشرة عن سبب ما حصل امامي، وآثار دهشة الركاب، فقال مستغرباً من سؤالي وساخراً من نفسه:

ـ هذا (حال الدنيا)!!!

* هذا اسم مسرحية سابقة لك، فماذا يعني ذلك؟

ـ يعني ان الدنيا دارت بي دورة كاملة فتحولت من فنان معروف يشير الناس اليه في الشارع الى رجل نصف مجنون يحدث نفسه امام الملأ...

كان يتحدث بسخرية مريرة، فحدست ان في الافق غيوماً لن تنقشع الا بحوار طويل.. اتفقنا على موعد، وكان اللقاء الثاني..

هذه المرة، جاء مستعداً ليمثل دور الفنان المعروف.. كان قد حلق ذقنه وارتدى ملابس افضل، وصفف شعره المتخاصم الخصلات.. وفي دائرة السينما والمسرح (ملتقى الفنانين) جلسنا لنقترب قليلاً من اجواء عمله الذي عرفناه من خلاله.. قلت له:

* ما ازال افكر في المشهد الذي رأيتك فيه قبل ايام في السيارة.. ماذا ألم بك؟

وبنفس السخرية المريرة تحدث قائلاً:

ـ لو ذهبت الى سوق البياع فستجدينني جالساً امام (بسطيتي) ابيع الشامبو ومعاجين الاسنان واكياس النايلون وشفرات الحلاقة.. هذا حال (دنياي) الآن، فكيف تريدينني ألا احدث نفسي عما سأشتريه من سوق (الشورجة) لأبيعه مع ربح قليل، ولاعيش منه وعائلتي.. لا بد ان تدور في داخلي احتدامات واسئلة عديدة فتأخذني بين الركاب لاندمج معها في حديث يجعلني ابدوا كالمجنون... لعلها رهافة حس الفنان التي تجعلني متعباً من الموضوع الى هذا الحد، وألا فما الفرق بيني وبين الباعة الآخرين؟

* فرق كبير، انت فنان معروف، واعمالك مشهود لها بالجودة.

ـ لكني غير قادر على ضمان ما يكفي لمعيشة عائلتي من الفن، واذن فما الداعي الى المكابرة الفارغة..!

* هل هو اعتزال تدريجي عن الفن؟

ـ ابدا، الفن يعيش في دمي، وهذا ما يدمر اعصابي، فلست معتاداً على فراقه او مجافاته طويلاً، لكن الامر ليس بيدي.

* ما ردود فعل الناس حين يشاهدونك في الشارع بائعاً؟

ـ ردود فعل متباينة.. بعضهم يتحسر، والآخر يبكي ويلعن الزمن، وبعضهم يدعو لي بزوال الازمة، بل ان دكتوراً بكى امامي بحرقة ابكتني انا الآخر.. كان متألماً لحال (فنان كبير) كما قال، ولعن امامي عصر المادة الف لعنة!..

* ألا تزال تتلقى عروضا للعمل في الفن؟

ـ حين احضر في الاماكن التي تزخر بالفنانين، يصادفني عرض او دعوة لعمل فني، وهكذا حصلت على فرص متباعدة، فمثلت مسرحية قبل فترة، ومسلسلاً اذاعياً بعنوان «المعلقات العشر» اضافة الى مواصلتي العمل في تقديم برنامج تعليم اللغة العربية مع الفنان فيصل الياسري.. اما اذا ابتعدت، افكون ضحية قانون (البعيد عن العين.. بعيد عن الفن)!!!

* لديك حس كوميدي عال، وسبف ان اديت ادواراً كوميدية عديدة، ما سبب ابتعادك عن المسرح الكوميدي؟

ـ ما يحدث في المسرح اليوم كارثة، وتهشيم للروح، بدلاً من بنائها وتهذيبها.

* لكنك مثلت في مسرحية من هذا النوع؟

ـ لم تكن تجارية بالمعنى الدارج اليوم.. كانت مسرحية لفرقة البصرة التي اعتز بكوني انحدرت منها، وقد واصلت العمل في المسرحية لمدة اسبوعين ثم انسحبت عندما بدأ منتجو العمل يميلون الى الاساءة الى فن المسرح الجميل..

* كيف تلخص رأيك في فناني اليوم؟

ـ اغلبهم طارئون دخلوا الى المسرح لغرض تخريبه..

* ألا تجد ان العوز المادي هو السبب وراء انحدار الفنانين؟

ـ لكني محتاج ايضا، وبشدة، ولم اجازف بتاريخي كله من اجل الربح المادي..

* ما ايراداتك من (البسطة)؟

ـ احصل على ارباح تتراوح بين (700 ـ 1000) دينار يومياً وهي ضئيلة جدا قياسا الى ما يكسبه الفنانون الذين اشرت اليهم، فمعدل ربحهم الشهري يتجاوز الملايين!

* وهل تكفيك؟

ـ لا بالطبع، لكنها نعمة من الله، يضاف اليها ما احصل عليه من اعمالي القليلة..

* ما رأيك بجمهور اليوم؟

ـ تائه بين الازمات، لكن الحل الحاسم بيده، فلو امتنع عن مشاهدة الاعمال البذيئة فسوف تنحسر الموجة تدريجياً، لكن جمهور اليوم ليس العوائل المحترمة او الطبقة الواعية، بل من محدثي النعمة وجمهور الملاهي الذي اجتذبه المسرح ليعيده الى اجواء الرقص والابتذال!!

* قلت انك انحدرت من مسرح البصرة، فهل كانت هناك بداياتك على المسرح؟

ـ نعم، مثلت مسرحية (هاملت) على مسرح البصرة، وهناك اكتشفني الفنان (محمد وهيب)، ثم المخرج عبد المنعم شاكر في مسرحية (معرض الجثث) في عام 1964، ثم تحولت الى الفرقة القومية للتمثيل، واحترفت التمثيل على يد المخرج قاسم محمد في مسرحية (مجالس التراث) ثم توالت الاعمال.

* وفي التلفزيون؟

ـ كان اول عمل لي هو التمثيلية التلفزيونية (تذكار)، وهي من اخراج سمير الصائغ، وشاركني فيها الفنانون جواد الشكرجي وسوسن شكري.. وكان العمل كوميدياً.

* بدأت في الكوميديا، وقدمت اعمالاً كوميدية عديدة، لكنك لم توصف يوماً بالممثل الكوميدي.. لماذا؟

ـ لاني لا اعتمد الكوميديا اساساً في عملي، بل اضيف الى ادواري لمحات كوميدية تجملها.. الكوميديا ليس بالضرورة ان تتجسد بالحركات الغريبة والتهريج، بل بلفظة اطلقها عفواً او حركة مناسبة يمكن ان تثير ضحك المشاهد.

* كيف ترى كوميديا اليوم اذن، ومن هم اشهر فنانيها؟

ـ الكوميديا اليوم سفاهة خالية من اللمسة الراقية التي يجب ان تقترن بالكوميديا.

* كيف يمكن اضحاك المشاهد بالقوة ورغما عنه؟

ـ باتباع كل اسلوب يمكن ان يطلق ضحكاته، كالحركات المبالغ فيها والتهريج.

* لكن هذه الظاهرة موجودة في كل المسارح العربية تقريباً؟

ـ ومؤشرة هناك ايضا بانها لا تنتمي الى المسرح الراقي ولا تمت اليه بشيء..

* ما علاقتك باللغة الفصحى، وكيف تحولت الى مذيع؟

ـ احب اللغة الفصحى كثيراً فقد درستها في اول دورة للمذيعين عام 1970، وكانت باشراف الدكتور مالك المطلبي والدكتور عبد المرسل الزيدي.

* بسببها اصبحت مذيعا؟

ـ بعد تفوقي في الدورة عملت مذيعاً، اضافة الى التمثيل الذي كان حرفتي الاساسية، كوني تخرجت من كلية الفنون الجميلة.. في البداية عملت في القسم الثقافي في اذاعة بغداد وتوصلت مع الاذاعة بمختلف الاتجاهات.

* حصلت على جوائز فنية، لا بد انك تتذكرها بحسرة الآن؟

ـ صحيح انني اتألم عندما اتذكر جوائزي، فقد حصلت على جائزة احسن ممثل عام 1980 عن مسرحية (كوميديا قديمة) لسعدون العبيدي، ثم جائزة افضل ممثل ايضا عن مسرحية (حال الدنيا) في عام 1986 من اخراج مقداد مسلم، اضافة الى الجائزة التي بلغت بالفوز بها في عام 1995 عندما بشرتني اللجنة المشرفة على الجوائز بذلك ثم منحت لممثل آخر.

* من هو افضل ممثل كوميدي في العراق؟

ـ هناك فنانون جيدون عديدون، لكن يوجد فنانون لم يسعفهم الحظ ليأخذوا دورهم الحقيقي، رغم كونهم فنانين جيدين في الكوميديا، ومنهم خليل عبد القادر والفنان عبد الجبار سلمان.

* اراك قد طلقت الكوميديا والضحك الحقيقي منذ ان تحولت الى بائع؟

ـ انا اضحك بحزن، واتبعثر دموعا على الرصيف كلما عرفني احد المارة، وطلب مني ايضاحا لسبب وجودي على الرصيف.. البعض يظن انني امثل دوراً، فيزيد ذلك من ألمي.

* اليس من بديل لذلك؟

ـ لا بديل الا بيع الكرامة، وهذا شيء لا يمكنني عمله..

* كذلك لست الوحيد من المبدعين، فقد سبقك الادباء والكتاب والمثقفون بافتراش الارصفة لبيع كتبهم او ملابسهم؟

ـ هو اعلان حقيقي عن البؤس الذي يعيشه المبدع العراقي حالياً، بعد ان صار متأرجحاً بين نارين.. اما الانحدار الى التفاهة او العوز المادي!

* هل ندمت على اختيارك الفن؟

ـ بعد رحلة 36 عاما، لم اندم..