المرارة و الإحباط لطالبان مهيآن لتفريخ حماقة أخرى مثل هدم التماثيل

فهمي هويدي

TT

قصة ما جرى في قندهار

* الوفد الإسلامي كان يخشى من تفسير رحلته إلى أفغانستان للدفاع عن التماثيل هي رحلة الى «قندهار» رتبتها الاقدار فكانت. ولست أخفي ان الترتيب لقي صدى عندي، لان الذهاب الى قندهار الطالبانية في الظروف الراهنة لا يقل إثارة عن الصعود الى القمر، حيث لا أرى فرقاً كبيراً في الاثارة بين ان تذهب في رحلة الى خارج الكوكب الأرضي، وبين ان تكون رحلتك خارج العصر والأوان.

كنت أعرف ان ثمة اتصالات مع قادة حركة طالبان عبر قنوات عدة، بعضها كان صدى للتطورات الأخيرة في افغانستان التي تمثلت في صدور قرار «أمير المؤمنين» هناك، الملا محمد عمر، بهدم التماثيل البوذية التاريخية في منطقة «باميان»، وكنت أعلم ان دولة قطر منذ أن ترأست منظمة المؤتمر الاسلامي ـ بعد إيران ـ تزايد اهتمامها بالشأن الافغاني لأسباب مفهومة، الأمر الذي وفر ظرفاً مواتياً فعلياً للاتصال بحكومة طالبان، التي لم تعترف رسمياً بها الى الآن سوى ثلاث دول هي باكستان والمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة.

كنت أعلم أيضاً ان مدير عام اليونسكو كويشيرو ماتسورا ما برح يطرق كل باب أمامه لاثناء الطالبانيين عن هدم التماثيل، فكتب الى بعض زعماء الدول الاسلامية، كما بعث برسالة الى الشيخ يوسف القرضاوي، وأوفد دبلوماسياً فرنسياً مستعرباً الى اسلام اباد لاجراء اتصالات حول الموضوع، وكنت قد فهمت من وزير الخارجية المصري السيد عمرو موسى انه تقرر إيفاد مفتي مصر الدكتور نصر فريد واصل ليشارك في جهود الانقاذ المبذولة. لم أكن بعيداً عن تلك الأجواء، حيث كنت طرفاً في بعض المشاورات التي تمت، لكن الذي لم أتوقعه ان أتلقى اتصالاً هاتفياً مفاجئاً قبل ظهر يوم السبت من الدكتور هيثم الخياط، كبير مستشاري المدير الاقليمي لمنظمة الصحة العالمية، التي هي أكثر المنظمات الدولية نشاطاً في افغانستان، أخبرني فيه اننا ينبغي أن نكون في مطار القاهرة بعد ثلاث ساعات، لكي نتوجه الى الدوحة، حيث ستحملنا طائرة خاصة في فجر اليوم التالي الى قندهار.

كان المسافرون من مصر أربعة كلهم استدعوا على عجل، هم المفتي والشيخ محمد الراوي عضو مجمع البحوث الاسلامية وأحد كبار علماء الأزهر المخضرمين، ثم نحن الاثنان، في الدوحة علمت ان الوفد المسافر يضم وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري السيد احمد عبد الله آل محمود، ويتقدم العلماء فيه الشيخ يوسف القرضاوي وثلاثة آخرون من الفقهاء الموجودين في قطر، كما يضم الوفد السيد ابراهيم بكر الأمين العام المساعد لمدير منظمة المؤتمر الاسلامي المختص بالشؤون السياسية، وآخرين من دبلوماسيي وزارة الخارجية القطرية.

في الفندق تلقيت اتصالاً هاتفياً من الشيخ يوسف القرضاوي الذي كان يتكلم من أبوظبي، قبل ان يستقل الطائرة عائداً الى الدوحة، قال فيه انه يخشى ان تفسر رحلته باعتبارها استجابة لطلب مدير منظمة اليونسكو، خصوصاً انه مقتنع بأن المنظمة تكيل بمكيالين ـ شأنها في ذلك شأن بقية منظمات الأمم المتحدة ـ كما انه لا يريد أن يتصور أحد ان الوفد الاسلامي سافر الى افغانستان، فقط حين ثارت الضجة حول تمثالي بوذا، بينما تجاهل الوضع هناك قبل ذلك، وتمنى أن يصحح ذلك الانطباع بحيث تفهم مهمة الوفد على حقيقتها، بمعنى انه ليس مسافراً للدفاع عن التماثيل، ولكن سفره كان بمناسبة الضجة المثارة حول الموضوع، التي تعد فرصة لتسليط الضوء على محنة الشعب الافغاني والقهر الدولي الذي يتعرض له منذ 5 سنوات، اضافة الى التناصح مع علمائه في أمور أخرى كثيرة، يتعلق بعضها بتعليم البنات وأولويات المرحلة.

أخبرني الدكتور القرضاوي ان الشيخ تقي العثماني، وهو من العلماء الباكستانيين البارزين، اعتذر بسبب تلك الهواجس عن عدم الانضمام الى الوفد، وكان قد وافق على ذلك في وقت سابق، ولذا كان مقرراً ان تهبط الطائرة في كراتشي لأخذه من هناك ويذهب الجميع بعد ذلك الى قندهار، ومن الواضح ان الشيخ العثماني أراد أن يتجنب الحرج، خصوصاً انه وجد أغلب العلماء الباكستانيين مؤيدين لما ذهبت إليه القيادة الطالبانية في شأن التماثيل.

كان الشيخ يوسف القرضاوي قلقاً من سوء الفهم، الذي قد يكون مصدراً للتشويش على الزيارة وأهدافها، ولا استبعد ان يكون في أعماقه قلقاً من امكانية اضافة سبب جديد للتشويش عليه شخصياً، وهو ما دأبت عليه بعض الدوائر المحافظة، التي أزعجها خطابه الفقهي المتجه الى التيسير على الناس في إطار التمسك بإطار الشريعة ومقاصدها.

نص رسالة إلى الملا عمر في الوقت ذاته فانه كان قد سجل موقفه وأبرأ ذمته في مسألة التماثيل، حين بعث قبل اسبوع من السفر برسالة الى الملا محمد عمر والى العلماء الافغان، وقعها معه الدكتور هيثم الخياط الذي كان له بحكم عمله لقاءات سابقة مع زعيم حركة طالبان، وقد تسلم الرسالة عبدالسلام ضعيف سفير طالبان في اسلام اباد، وحملها بنفسه الى أمير المؤمنين في قندهار، وقد جاء فيها ما نصه:

«لقد قرأنا في الصحف وسمعنا في الاذاعات أنكم أمرتم بتحطيم التماثيل الموجودة في افغانستان منذ ما قبل الاسلام، ولا شك عندنا في أنكم فعلتم ذلك بنية صالحة ان شاء الله، واجتهدتم في ذلك اجتهاداً ندعو الله ان تؤجروا عليه، ولكننا رأينا في ما قررتموه مخالفات شرعية صريحة رأينا من واجبنا أن نسترعي أنظاركم إليها.

«فأنتم تقرأون ـ ولا شك ـ حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليهما بالنواجذ»، فسنة الخلفاء الراشدين أصل يرجع إليه ويلتزم به، ومن خالف سنته ـ صلوات الله عليه ـ أو سنة خلفائه الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ فانه يخشى عليه أن يكون قد عصى الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين.

«وقد أجمع الخلفاء الراشدون الذين حصلت في عهدهم الفتوح الاسلامية، وأجمع معهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعون، على عدم المساس بالتماثيل التي كانت قائمة قبل الاسلام في البلاد التي فتحوها، ولم يمسوها بسوء.

«فهذه سنة الخلفاء الراشدين واجماع الصحابة، وهم أعلم الناس بجوهر الدين وسنة سيد المرسلين، وفي مخالفتهم أمر آخر، وهو أننا نزعم لأنفسنا أننا أعلم منهم بأمور الدين، وهذا موقف خطير قد يهدد عقيدة من يزعم لنفسه ذلك، ولا تنس ان كل علماء المسلمين، منذ الصدر الأول حتى اليوم، أقروا الإبقاء على هذه التماثيل ولم يدعوا الى إزالتها، ومنهم الامام أبوحنيفة رضي الله عنه، وقد كان يرى التماثيل التي خلفها البابليون والاشوريون والكلدانيون في العراق، والامام الشافعي رضي الله عنه، وقد كان يرى التماثيل التي خلفها الفراعنة في مصر، فلم ينكر أحد منهما أو من أتباعهما شيئاً من ذلك.

أضافت الرسالة قائلة:

«فتحطيم هذه التماثيل اليوم يتضمن الإنكار على من سبقنا من المسلمين من عصر الفتح الاسلامي الى اليوم، وقد كان فيهم العلماء الربانيون والرجال الصالحون، ولم يتعرضوا لهذه الأشياء بسوء.

«وقد شرع الإسلام قاعدة «سد الذرائع» وقال تعالى في كتابه العزيز: «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم»، فاذا كان سب التماثيل منهياً عنه بنص القرآن الكريم، فكيف بتحطيم هذه التماثيل؟، ان ذلك سيقود من دون شك الى ان يقوم بعض الجهلة ـ وكثير ما هم ـ بتمزيق القرآن وهدم المساجد وسب الله عز وجل والنبي عليه الصلاة والسلام، ونكون نحن المسؤولين عن ذلك أمام الله عز وجل.

«ومن المعروف لدى أهل العلم، ان النبي صلى الله عليه وسلم ترك بناء الكعبة على قواعد ابراهيم عليه السلام، حفاظاً على مشاعر القرشيين الذين سينكرون ذلك وهم حديثو عهد بالاسلام، فترك ذلك رعاية لخواطرهم، وقرر العلماء لهذا ولغيره من الأدلة: ان المنكر لا يزال اذا خشي من وراء إزالته منكر أكبر منه، وقد سكت سيدنا هارون عليه السلام ـ الى حين ـ على عبادة قومه للعجل، خشية ان يتمزق شمل الجماعة، ريثما عاد سيدنا موسى وهو أقدر منه على مقاومة الفرقة، وقال مبرراً ما فعل: «اني خشيت ان تقول: فرقت بين بني اسرائيل».

«من أجل ذلك كله، وحرصاً على دينكم ـ أيها الاخوة الأحبة ـ من أن تخدشه مخالفة صريحة لسنة الخلفاء الراشدين واجماع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم باحسان الى يومنا هذا، أو سهو عن نهي الله عز وجل عن سب آلهة المشركين، وتحطيمها منهي عنه من باب أولى، أو نسيان لقاعدة سد الذرائع، وهي قاعدة جليلة من قواعد هذا الدين الحنيف، من أجل ذلك كله رأينا ان نتوجه اليكم جميعاً بهذه الذكرى التي تنفع المؤمنين ان شاء الله، داعين الله عز وجل أن يلهمنا وإياكم حسن الاتباع وتجنب الابتداع، وأن يرينا وإياكم الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا وإياكم الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولعلكم ترون اذا لزم الأمر دعوة عدد من العلماء الثقات من أنحاء العالم الاسلامي لمشاركتكم الرأي في بعض ما تفتون به أو تقضون به».

ماذا فعل العالم الاسلامي؟

رجحت كفة السفر في نهاية المطاف، وغادرنا الدوحة قبل طلوع الشمس، الأمر الذي تصور معه منظمو الرحلة ان ذلك سيتيح للوفد فرصة الوصول الباكر الى قندهار، والاستفادة من اليوم بطوله، وكان معنا من تفاءل بامكان اتمام اللقاءات المطلوبة كلها خلال اليوم، والعودة بالطائرة الى الدوحة في نهايته، حيث اعتبر هؤلاء ان حصول الطائرة على تصريح بالنزول في مطار قندهار ليس سهلا ولا ميسوراً دائماً، إذ في ظل الحظر الدولي المفروض على افغانستان فليس لأي شركة طيران ان تستخدم مطاراتها، وفي الحالات الاستثنائية التي تستدعي ذلك، فلا بد من تصريح من الأمم المتحدة، والا تعرضت شركة الطيران والدولة التي تملكها للعقوبة، وفي حالة المبيت فسيتعين على الطائرة ان تعود الى الدوحة ثم تأتي في اليوم التالي، حيث مدة التصريح الممنوح لا تتجاوز 48 ساعة.

جاءت جلستي في الطائرة الى جوار السفير السعودي السابق ابراهيم بكر، المسؤول عن الملف الافغاني في منظمة المؤتمر الاسلامي، الأمر الذي أتاح له ان يلتقي عدة مرات مع الملا عمر، وأثناء حديثنا وجدته غير سعيد بتزامن الزيارة مع الحملة الغربية على طالبان، وسمعته يقول ان الخيارات كلها صعبة، فالزيارة كان ينبغي ان تتم رغم العاصفة، وفي الوقت نفسه فانه يخشى ان تشوش العاصفة على مهمتها، ووجدته يرجح كفة اتمام الزيارة في الوقت الراهن رغم التشويش، على كفة عدم اتمامها واتخاذ موقف المتفرج من طالبان، تجنباً لسوء الفهم والتشويش.

سألني الأمين المساعد لمنظمة المؤتمر الاسلامي قائلا: ألا ترى اننا ندين الموقف الغربي الظالم والمتحامل على افغانستان، بينما نسكت على الصمت المفجع للعالم الاسلامي، حيث تقف أكثر دوله ممتنعة عن عمل أي شيء لصالح شعب افغانستان، وترفض الاعتراف بحكومة طالبان، المسيطرة على 90 في المائة من البلاد، ومعروف ان الجزء المتبقي ما كان له ان يظل خارجاً عن سلطانها إلا لان دولا مجاورة، على رأسها روسيا، تدعم الفئة المعارضة المتمركزة فيه، وهذا الدعم بالسلاح والمال والخبرات ليس فيه سر (لاحقا قال لي أحد المسؤولين في قندهار ان احد قادة المعارضة الذين انضموا الى طالبان ـ اسمه عبدالكريم عابد ـ أخبرهم بأن السبب الرئيسي لانفصاله عن جماعته انه شاهد بعينيه خبراء عسكريين روسا وهنودا يدربون رجال احمد شاه مسعود في منطقة بادخشان).

قال المدير المساعد لمنظمة المؤتمر الاسلامي أيضاً ان رئيس وزراء روسيا الأسبق يفيجيني بريماكوف قال له صراحة في أحد اللقاءات، ان موسكو لن تسمح بقيام دولة «أصولية متشددة» وراء ظهرها، تهدد مجالها الاستراتيجي (اشارة الى الحدود المشتركة بين افغانستان وثلاث من دول آسيا الوسطى هي طاجيكستان واوزبكستان وتركمانستان، وما يشاع عن مساندة طالبان للعناصر «الإرهابية» التي تثير التوتر في تلك الدول، وتتسرب الى الشيشان، وهي معلومات مشكوك فيها لان ما لدى طالبان من مشكلات يكفيهم ويستهلك كل طاقتهم).

أضاف السفير ابراهيم بكر قائلا: أليس من المفارقات المدهشة ان المجتمع الدولي يعترف بشرعية المجموعة المسيطرة على أقل من 10 في المائة من أرض افغانستان، بينما يصر على عدم الاعتراف بحكومة طالبان المستقرة والمهيمنة على 90 في المائة من الأرض منذ خمس سنوات؟

أصبحوا أسداً جريحاً الملاحظة لافتة للنظر حقاً، في ذاتها وفي دلالتها بالنسبة لجماعة طالبان، اعني ان هذا الموقف المتعنت من جانب المجتمع الدولي، كرَّس بمضي الوقت مشاعر الغضب والسخط والمرارة لدى الطالبانيين، من حيث انه أشاع بينهم احساساً بأن ثمة قوى دولية مالكة لصكوك الادانة والغفران، تريد ان تقهرهم وتذلهم، ولأنها قابضة على مفاتيح القرار في العالم، فإنها لا تريد ان تسمح لهم بحق الوجود في المجتمع الدولي إلا برضاها وشروطها هي.

فضلا عن السخط والمرارة اللذين يستشعرهما الافغاني العادي الذي يتسم بدرجة عالية من الاباء والكبرياء، فان هذا المسلك يثير لدى القندهاريين خاصة عنصراً اضافياً، يتمثل في العناء والاصرار، ذلك ان الذين يعرفون أهل هذه الولاية جيداً يجمعون على صفات ثلاث تميز أبناءها هي: المحافظة الشديدة، والعناد الذي لا حدود له، وخشونة العيش.

وقد شاءت المقادير ان تولد حركة طالبان في قندهار، وان يكون قادتها وزعيمهم الملا عمر (من مواليد سنة 1960) من أبناء الولاية، التي انطلقوا منها للسيطرة على بقية ولايات وأقاليم افغانستان، لذلك فلا عجب ان يكون الحصار الدولي قد غذى كل تلك المشاعر والانفعالات لدى الجماعة، حتى أصبحت نظرتهم الى العالم الخارجي وعلاقتهم به متأثرة بالغضب والمرارة ومتسمة بالعناد والتحدي.

اذا اضفت الى الحصار وأصدائه معاناة الافغان من الجفاف الذي حل بمناطق الجنوب الغربي من البلاد طيلة السنوات الثلاث الماضية، وما ترتب عليه من مضاعفة للفقر والجوع وتشريد مئات الآلاف من ابناء القرى المنكوبة (في شتاء هذا العام اعلنت مصادر الأمم المتحدة ان 400 طفل من أبناء اولئك النازحين كانوا يموتون كل يوم)، ثم اذا تذكرت ان البلد مدمر أصلا من جراء الحروب والصراعات التي استمرت عشرين عاماً وخلفت خمسة ملايين لاجىء ومليون معوق، اذا ادركت ذلك كله فلن تستغرب سلوك حركة طالبان التي اصبحت أقرب الى الأسد الجريح.

حين يستحضر المرء هذه الخلفية، يكاد لا يجد غرابة في اقدام قيادة طالبان على تهديم التماثيل البوذية، باعتبار ان مرارة وإحباطاً من ذلك القبيل يهيئان لتفريخ حماقة من ذلك النوع أو غيره، ان شئت فقل ان الذين قرروا هدم التماثيل استندوا في قرارهم الى بعض التأويلات والاجتهادات الفقهية، لكنهم لم يفتشوا عن تلك التأويلات إلا بعد ان بلغ بهم الإحباط مبلغه وأدركوا ان بنيانهم قد تهدم، الأمر الذي قد يسوغ لنا أن نقول اننا بصدد حشرجة ذبيح تجلت في انتفاضة انقاض الحاضر على آثار الماضي، ولا يغير من هذا المعنى كون المنتفضين بشرا وكون الآثار حجرا، حيث يخشى ان يكون المعنى الكامن وراء ما جرى مسكوناً بصيحة يراد ابلاغها الى الملأ تقول: علي وعلى أعدائي! عاصفة فوق قندهار اعلن قائد الطائرة اننا نقترب من مطار قندهار، ودعانا الى ربط الأحزمة استعداداً للهبوط، من النافذة بدت الأرض صفراء قاحلة، كأنما هي جثة مريض تغضن وجهه واكتسى بالشحوب وشارف على النهاية، لم يكن هناك أثر للحياة يمكن رؤيته على البعد، لكني أشك ان تلك المساحات الشاسعة كانت فيها بقية من حياة، لسبب جوهري هو ان الجفاف الذي ضرب المنطقة تكفل بالاجهاز على مختلف مظاهرها من زرع وضرع، بعدما كان سبباً في طرد البشر من القرى التي تحولت الى أماكن مهجورة.

بعد قليل أنبأنا قائد الطائرة ان عاصفة رملية لاحت فوق قندهار وطمست معالم مطارها، واننا مضطرون الى التحليق في الجو لمدة نصف ساعة الى ان ينجلي الموقف، تبادلنا النظرات وقال أحد الجالسين بنصف ابتسامة: ما دمنا فوق افغانستان فلا بد أن تكون هناك عواصف، واذا كانت تلك العواصف ترابية فحسب فذلك مقدور عليه.

مر نصف الساعة والعاصفة مازالت تسد الأفق ولا أثر للمطار على الارض، وكان بوسعنا ان نلحظ من خلال لوحة معلقة ان الطيار يطوف حول المطار تارة، ثم يشرق ويغرب تارة أخرى، ويهبط حيناً ثم يهم بالصعود في أحيان أخرى.

تجاوزنا الساعة فخفتت الأصوات وتعلقت الأبصار باللوحة، بينما انشغل البعض بالتمتمة والدعاء، وران الصمت على المكان اثر تزايد اهتزازات الطائرة، حيث ادرك الجميع ان محاولات الهبوط التي تكررت لم تحقق مرادها بسبب شدة العاصفة، حينئذ ارتفع صوت الشيخ يوسف القرضاوي قائلا: ادعوا الله ان ييسر الأمر وأن يكتب للجميع السلامة.

على الفور ارتفع صوت منادياً: يا رب، ثم غرق الجميع في بحر الصمت مرة أخرى، بينما الطائرة تواصل اهتزازها والطيار مستمر في محاولات الهبوط.

بعد ساعة ونصف الساعة تمكن قائد الطائرة من اختراق العاصفة والاقتراب من أرض المطار، التي لمحنا عليها طائرة للأمم المتحدة، وثلاث طائرات أخرى صغيرة تابعة لشركة الطيران الافغانية «ايريانا»، التي تعمل أحياناً على الخطوط الداخلية فقط، وهذه «الاحيان» لا تتوافر كثيراً بسبب نقص الوقود (معروف انه طبقاً لقرار الحظر الدولي الذي فرض على افغانستان في شهر يناير الماضي، فان شركات الطيران ممنوعة من السفر الى افغانستان أو منها، وتستثنى من ذلك طائرات الأمم المتحدة بطبيعة الحال).

انفرجت الأسارير حينما لاحت أرض المطار، وقال أحدنا متهللا: هذه بركة دعاء الشيوخ، وعلق آخر ضاحكاً: ليتهم أطلقوا أدعيتهم من البداية.

فرحة الوصول والنزول على الأرض طغت على الهزة الشديدة التي ارتجت لها عظامنا اثر ملامسة العجلات لمدرج المطار، ثم نسين التوتر كله اثناء مغادرة الطائرة، وحين وقعت أعيننا على لافتة كتب عليها «مطار قندهار الدولي»، وقد وقف تحتها نفر من ممثلي حركة طالبان بعمائمهم السوداء في انتظارنا، كان هناك آخرون تناثروا في باحة المطار، بعضهم حمل الكلاشنكوف على كتفه موحياً بأنه في مهمة أمنية، والبعض الآخر وقف من باب الفضول والتطلع الى وجوه الزوار القادمين.

في جانب من المكان كان هناك صف من عربات الجيب والسيارات اليابانية الأخرى، المكسوة بالغبار، بعضها يحمل أرقاماً، والبعض الآخر بلا أرقام، باعتبار ان تبعيتها لطالبان كافية في اضفاء شرعية على وضعها، أياً كان.

كان على رأس المستقبلين الملا عبدالجليل نائب وزير الخارجية، الذي اعتذر لنا بلغة عربية مكسرة، قائلا ان وزير الخارجية كان في انتظار الوفد، ولكنه اضطر الى المغادرة بعد تأخير هبوط الطائرة لمدة 90 دقيقة، لانه كان على ارتباط في اسلام اباد مع كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة.

مطار بلا موظفين قادونا الى قاعة فسيحة يفترض انها مخصصة لكبار الزوار، فرشت أرضيتها بسجاد ميكانيكي غلب عليه اللون الأحمر، بدا واضحاً انه اشتري حديثاً وفرش للتو، كانت القاعة جناحاً في بناية مهجورة بدا عليها الهرم، فتكسر زجاج نوافذها وتهدمت بعض جدرانها، واستخدمت فواصل من القماش لستر عوراتها الأخرى.

لم تكن غرابة في أن المبنى خلا من موظفي الجوازات والجمارك، حتى دخلنا وخرجنا من دون تأشيرات ومن دون ان يطلع أحد على جوازات سفرنا، إذ حين يكون المطار مهجوراً من الأساس فلا معنى لوجود أي موظفين فيه، حيث يكفي ان يتواجد فيه من يقوم بالدور الأمني أو يمنع المشردين والنازحين من الاحتماء بغرفه.

لانهم كانوا على علم بقصر مدة الزيارة، فقد كان الترتيب ان يلتقي الوفد في قاعة المطار بمن يمثلون علماء افغانستان، ثم يذهب الجميع بعد ذلك الى المدينة للقاء أمير المؤمنين الملا محمد عمر، لذلك كان علينا أن ننتظر، وطال انتظارنا أكثر مما كان متوقعاً.