الرواية البوليسية في المغربي

«أم طارق» لميلودي حمدوشي تؤسس لكتابة متحررة من الأطر التقليدي (1 ـ 2)

TT

عبد الرحيم العلام قد يذهب البعض إلى القول إن «الرواية البوليسية» قد عرفت طريقها إلى الأدب الروائي المغربي منذ مدة، وإن بشكل بطيء وغير مهيمن، من خلال بعض الكتابات الروائية البوليسية الرائدة لأحمد عبد السلام البقالي، دون أن ننسى، هنا، مساهمات إدريس الشرايبي في مجال الرواية البوليسية المغربية، المكتوبة بالفرنسية.

غير أن واقع الرواية المغربية، الآن، ما فتئ يؤكد، نصا بعد آخر، أن الرواية البوليسية أضحت نوعا روائيا قائم الذات والتحقق والتجدد، على الأقل على يد روائيين اثنين، هما ميلودي حمدوشي وعبد الإله حمدوشي، دخلا معا مغامرة الكتابة الروائية البوليسية بالعربية. وهو ما يشكل، في نظر البعض، ثورة حقيقية في هذا المجال، وذلك بما يشبه مغامرة بعض دور النشر، في المغرب، من زاوية ترحيبها بنشر هذا النوع من الكتابة الروائية «نذكر، هنا، دار النشر عكاظ». يحدث هذا في المغرب، في الوقت الذي يتحدثون فيه اليوم في أوروبا عن «رواية بوليسية جديدة»، كرد فعل كتابي على الرواية البوليسية لأواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

كتب ميلودي حمدوشي مجموعة من الروايات البوليسية التي وقعها باسمه الحقيقي، بخلاف بعض الكتاب المغاربيين الذين يلجأون إلى التوسل بأسماء مستعارة عندما يتعلق الأمر بكتابتهم لرواياتهم البوليسية، تحديدا.

كما كتب ميلودي حمدوشي، بالاشتراك مع عبد الإله حمدوشي، روايتين بوليسيتين، هما «الحوت الأعمى» و«القديسة جانجاه». وآخر رواية صدرت لحمدوشي، هي رواية «أم طارق»، مع العلم أن مجموعة قصصية تدور، هي أيضا، في فضاء «البولار» ستصدر قريبا لنفس الكاتب، وفيها يستوحي بعض الأجواء الحياتية لمحمد زفزاف، الذي رحل قبل ايام، كما سبق له أن وظف ذلك، أيضا، في بعض رواياته السابقة. إلى جانب استثماره، كذلك، لوقائع وأحداث مرتبطة بأجواء مهنته، وهو الذي يقول: «لو لم أكن شرطيا، لما كتبت روايات بوليسية، لكني سأكون حتما كاتبا».

حرية غير مشروطة داخل هذه العوالم من الكتابة والاهتمام، يكتب ميلودي حمدوشي الرواية البوليسية بطريقته الخاصة. فالكتابة الروائية البوليسية عند حمدوشي هي «بحث» أولا و«معرفة» ثانيا، قبل أن تكون «حكيا» لقصة بوليسية وكفى. فمن يقرأ روايات حمدوشي البوليسية، سوف يلمس عن كثب مدى هذه العلاقة الوطيدة القائمة بين الكتابة الروائية والمعرفة العامة، بمعنى أن حمدوشي لا يكتب الرواية البوليسية من فراغ مرجعي، بل انطلاقا من علاقة مباشرة، ومن امتلاء ومعرفة، متطورين، بعوالم «الجريمة» وقوانين «التحقيق» ومكونات «السلطة»، في أبعادها المحلية والعالمية، مما جعل رواياته البوليسية تكشف لقارئها على معرفة فوق تخييلية «بما هي معرفة قانونية ومجالية». وهو وضع يساهم من خلاله حمدوشي على تأصيل هذا النوع من الكتابة الروائية في مشهدنا الأدبي الحديث، وفي مجتمعنا أيضا، بما يوازي ذلك من خصوصية وخروقات لقوانين هذا النوع من الرواية ولقواعده أيضا، وكما حاول بعض النقاد والمهتمين عدها وحصرها. مع أن القواعد التي حددها إدغار آلان بو، مثلا، قد لا تهمه إلا هو، على حد تعبير روبير دولوز (صاحب كتاب «أساتذة الرواية البوليسية»). هذا الباحث الذي ما فتئ يؤكد، من جهته، أن الرواية البوليسية هي نوع «خارج القانون». فإلى جانب توفر «تشويق ما»، يقول دولوز، فإن الأبطال ليسوا دائما من البوليس. كما أن الأمكنة هي مغلقة في بعض الروايات ومفتوحة في أخرى. أما المرأة فدورها ليس دائما نمطيا.

في ضوء هذه الحرية، غير المشروطة، التي تراهن عليها الرواية البوليسية عالميا، تدور رواية «أم طارق» لميلودي حمدوشي، باعتبارها رواية تكشف عن معرفة أخرى موازية ذات علاقة بثقافة الكاتب نفسه، الشعبية والعالمية، التراثية والحديثة. فرواية «أم طارق» تقوم على طاقة كبيرة من الخطابات المتخللة فيها (أمثال سائرة، أشعار قديمة، حكم ممتدة، أقوال مأثورة، تعريفات عالمية)، بما هي خطابات يمكن قراءتها من زاويتين على الأقل، أي باعتبارها خطابات تكسيرية للحكاية الإطار، بمعنى أن هذه الرواية تلجأ بين الفينة والأخرى إلى تكسير خطية الحكاية الأصل، المرتبطة بالجريمة، بإدراجها لخطابات، يتم عبرها تجاوز تفاصيل الحكاية إلى تحليل الحالات النفسية والشعورية، وتجلية التناقضات والمفارقات المجتمعية، وأيضا باعتبارها خطابات لها كهدف بنيوي تلوين «المحكي البوليسي» فيها، أي عبر إخراجه من إطار «السوداوية» و«الدرامية» إلى إطار تنويري وسلوكي وثقافي عام.

هكذا يبدو أن هذا النوع الروائي قد بدأ يكتسي أهمية خاصة في الآونة الأخيرة، مثله في ذلك، مثل «أدب السجون»، أي في مرحلة بدأ فيها المغرب يعرف أولى ساعات الانفتاح، على حد تعبير كاترين سيمون، في مقالتها المخصصة للرواية البوليسية في المغرب العربي، أي بما معناه، يضيف حمدوشي، «أن الأدب البوليسي لا يمكنه أن يزدهر في أجواء كليانية، إنه حساس لجميع أشكال العبودية»، وأيضا في فترة تاريخية تشهد منعطفا جديدا، في المغرب، على مستوى حرية التعبير وتوفر المناخ المناسب لظهور مثل هذه الكتابات، بما يوازيها، أحيانا، من انتقاد للسلطة والمؤسسات وتعريتها لأوهام المجتمع وتفكيك أوضاعه العامة «الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية». إلى جانب اهتمامها (أي الرواية البوليسية) باقتحام بعض التابوهات، وفضح بعض تفاعلاتها الاجتماعية، وخصوصا ما يتصل منها بما تسميه الرواية بـ«جرائم النساء».

مؤشرات السوق داخل هذه الأجواء، إذن، تتحرك الرواية البوليسية، كما يكتبها ميلودي حمدوشي، دون أن يعني ذلك أن الرواية البوليسية هي فقط ذلك النوع الروائي الذي يترصد تخييليا إبراز تلك الأسئلة البؤرية فيه: (من قتل؟) و(لماذا كانت هناك جريمة؟)، ولكنه نوع يتجاوز هذا «المحفل البوليسي»، إذا صح التعبير، لكي ينخرط في خضم طرح أسئلة الراهن، وعلى عدة مستويات: اجتماعية وثقافية ونفسية وذهنية واقتصادية. معنى ذلك أن الكتابة الروائية البوليسية، كما يكتبها ميلودي حمدوشي وكما تصوغها رواية «أم طارق» على الخصوص، هي كتابة ممتئلة بذاتها، ومنفلتة من إسار تلك الكتابات التقليدية، الأمر الذي يبعدها، كذلك، عن أية هامشية نوع ـ أدبية محتملة، كما كانت تنعت بذلك الرواية البوليسية في مرحلة سابقة في الغرب. ومتى عرفت الرواية البوليسية بالمغرب تطورها العام «التراكمي والنوعي»، فإن ذلك سوف يدفعها إلى أن تحظى بمكانة أساسية، وباهتمام استهلاكي ونقدي قد يفوق ما تحققه بقية الأنواع الروائية الأخرى، وذلك لعدة اعتبارات ليس هنا مقام ذكرها وتحليلها. ويكفي، هنا، أن نشير إلى أن رواية «أم طارق»، حسب ما أوردته مجلة «يصدر بالمغرب»، في أحد أعدادها الأخيرة ـ وهذا ليس من باب الدعاية المجانية لهذه الرواية أو لكاتبها ـ قد حققت رقما قياسيا على مستوى المبيعات. وهو مؤشر إيجابي لكي ننتصر نحن للرواية البوليسية في مجتمعنا، على الأقل بهذا الشكل الذي يكتبها به الحمدوشيان، أي في بحثها في أسئلة تجنسها وهويتها، وفي صياغتها للأسئلة الكبرى والمصيرية، وفي بحثها أيضا عن موقعها اللائق بها في مشهدنا الأدبي في المغرب، أو في بقية البلدان العربية الأخرى، وخصوصا تلك التي لم تقتحم بعد مغامرة هذا النوع من الكتابة. تتأسس الكتابة البوليسية في رواية «أم طارق»، منذ البداية، على عنصر «التشويق»، بالنظر إلى كونه أحد أهم العناصر الكبرى التي تنبني عليها الكتابة الروائية البوليسية عموما. وهو ما جعل بناء هذه الرواية يبدو دائريا، ينفتح على واقعة غامضة حصلت في «الحانة الزرقاء» بالدار البيضاء، تبعتها هستيريا جماعية في الحانة، دون أي يدري أحد ماذا حصل بالضبط؟ وتحديدا بعد أن توجهت أم طارق نحو «مغسل» الحانة.

وسوف تسجننا الرواية داخل هذا الفضاء من «التشويق» و«الغموض» و«الانتظار» إلى أن يتم القبض على «أم طارق»، وبقية أفراد العصابة، في نهاية الرواية، لكي تنكشف أمام البوليس، وأمامنا أيضا، جميع ملابسات ما وقع من قبل، حيث يتعلق الأمر، هنا، بتنفيذ أم طارق لعملية قتل لوسيلة لحريزي، باستعمالها خنجرا حادا مصفحا، وبواسطته تم ذبح الضحية من عنقها وغرس الخنجر جهة قلبها. هذه الجريمة تلتها جريمة ثانية، تتمثل في مقتل «مخبر الشرطة». وهما الحكايتان المجسدتان لتمفصلات «المحفل البوليسي».