عوني بشير.. السخرية الفائضة عن الألم

جزء أول من «مربط الخيل» يضم 59 زاوية بتقديم الطيب صالح

TT

كأن قدر الفلسطيني الرحيل الدائم، فما أن حصل المشرد عوني بشير على الجواز البريطاني، بعد أن ظل محبوساً على ارض الجزر البريطانية اكثر من عشرين عاماً، حتى طار إلى الولايات المتحدة فقط ليفقد وعيه هناك، ويبدأ خطوته الأولى في رحلته النهائية هذه المرة.

لكن ما يميز بشير عنا، نحن المنفيين الأبديين، كما يبدو، أنه يجيد صناعة الفرح، أو فلنقل صناعة السخرية المرة التي تولد من الألم المر أو فائض الألم، والقادرة على الضحك من كل شيء.. حتى الموت.

كان عوني بشير، كما يقول عبد الرحمن الراشد، على الغلاف الأخير من الجزء الأول من «مربط الخيل» الذي يضم 59 مقالا: كتابات الراحل تشع مرحاً وسط القلق الذي يهدم عادة أصلب الرجال «كان يمازحنا حول نفسه وأهله، مرضه وممرضاته، بل دفنه».

انه رجل مهنته السعادة، لكنها سعادة هي ابنة الشقاء. ومن هنا كان عوني بشير كاتباً ساخراً بامتياز، لكنها، كما يقول الطيب صالح في تقديمه للكتاب، سخرية مختلفة: «ولأنه كان عميق الحب للناس، عظيم الإدراك للغة العربية وثراء مفرداتها وصورها، اضف الى ذلك روحه المرحة دائما، فإنه كان يصنع أدباً فيه روح التهكم، قادراً على الاستمرار على أنه أدب من طراز رفيع».

ومسيرة عوني بشير الشخصية نحو السخرية، بدأت من هناك، من فلسطين: «ولات وبيتنا مغتصب، ارضنا المطوّبة باسمنا مغتصبة، قريتنا الصغيرة مغتصبة، أبي في ذاكرتي مثل نمر جريح، يجلس منتظراً، يقف متحفزاً، ويمشي متوثباً، صامتاً لا ينبس، كلما تقدمت منه نهرتني الوالدة «ابعد عن أبوك يمّه، خليه في حالو». لا أذكر أنني رأيت والدي يبتسم، ولا أذكر أنني سمعته مرة يضحك» (مربط الخيل ص 9).

لكن من أين تأتي القدرة على الضحك للأب الفلسطيني، الذي ينتظر يومياً العودة إلى بيته في فلسطين: «حين صرت ابن ست سنوات نهضت أمي ذات عصر إلى صندوق خشبي كبير كانت تضع فيه أشياءنا وثيابنا، دنت بعنقها نحو الصندوق حتى صار المفتاح الصغير الذي يتدلى من رقبتها إزاء القفل، فتحته وأخرجت منه لفة صغيرة، أخذت تفتحها والدمعة لا تزال تنحدر على وجهها الابيض، فإذا في اللفة مفتاح آخر، سمحت لي بأن ألمسه بيدي، لم أفهم شيئاً، لم يكن لعبة ولا شيئاً يؤكل، نظرت في وجهها مستفهماً، فقالت هذا هو مفتاح بيتنا، قلت «يا الله نروح عليه» قالت إن شاء الله».

حين صار الطفل في الثامنة من عمره، انتهى انتظار الأب.. فقد رحل رحلته الأبدية، من دون أن يراه الابن مبتسماً، ولو مرة واحدة، لكنه ايضا، أوصاه مرة «إياك أن تبكي، فالرجال لا يبكون».

وهكذا عرف الولد الفلسطيني، وهو بعد لم يزل في العاشرة، حادثتين كبريين من حوادث الحياة: المنفى والموت.. فلماذا تتولد السخرية من فيض الألم هذا؟ وسيكبر الولد الفلسطيني ليتعلم هاتين المهنتين جيداً. المنفى الأول في بيروت، ثم المنفى الأخير في لندن، حيث كان يكمن ذلك العدو الشرس الذي ظلّ يضحك عليه، على الرغم من ادراكه ان معركته خاسرة مثل كل المعارك السابقة.

في بيروت كان يقول لصديقه الفرنسي: «انا عربي لأحارب وانهزم»، وفي لندن سيكتب: «سكتنا ثلاثين سنة في المخيمات نطالب ونسترحم، لم يسمعنا أحد، قلنا نقاتل، قلتم: إرهابيون، قلنا نريد وطننا، قلتم: القوا السلاح وتكلموا، وافقنا وقلنا نتكلم، لكنهم رفضوا حتى مجرد الكلام معنا، فماذا نفعل بالله عليك، ما الذي تريده منا؟».

الفلسطيني، كما سيكتب في مكان آخر، (ص 72)، هو ملك الحزن بامتياز، فمفهوم الفرح عنده يختلف عن مفهومه عن بقية خلق الله، الناس يخرجون من بيوتهم ليسهروا ويفرحوا ويضحكوا، والفلسطيني يخرج ويسهر ليحزن. فهل الفلسطيني ثقيل الدم فعلاً؟ وهو يقسم الفلسطينيين إلى ثلاثة أقسام: فلسطينيي عام 48، وفلسطينيي الضفة الغربية، وفلسطينيي الشتات، ولا يوجد بين الثلاثة «عادل إمام ولا عبد الحسين عبد الرضا ولا نجيب الريحاني ولا يونس شلبي أو حسن فايق أو عبد المنعم إبراهيم أو مدبولي أو دريد لحام أو شوشو أو زياد الرحباني، فهل هذا سببه الحكم الرديء أىضاً؟».

هذا الإحساس المضني بعذاب الفلسطيني، والعربي بالتالي، لم يتسرب إلى وجه عوني بشير البشوش، كما يقول الطيب صالح، وصوته المرح المنعم بالتفاؤل وابتسامته العذبة. كان يتوارى وراء الرمز الذي ابتدعه «مربط الجمل»، طارقاً الموضوع بعد الآخر بسخريته الحزينة، وأسلوبه العفوي الجميل البعيد عن أي ادعاء: «أما أنا فقد تغربت بفعل الجنيات ودماء الرحيل التي تسري في عروقي وكأنها دماء الجدود الأولين أيام كانت الصحراء ترمي بهم من واد إلى واد...

وهذا أنا يا مولانا ما جئت إلى بريطانيا هرباً من بطش أو خوفاً من قمع، بل جئت طلباً للكلأ والماء، فأنا لا أؤمن بالنضال السياحي والمعارضة المترجمة».

هذا المقطع من «أبو مفصوم» يشي بالسمات التي كرسها عوني بشير في مئات الزوايا التي نشرها في صفحته «مربط الجمل» في مجلة «المجلة» اللندنية، وجمعتها زوجته في الكتاب الذي حمل الاسم نفسه، وهو جزء أول من مجموعة أجزاء تصدر تباعاً. وهذه السمات يمكن تلخيصها بكلمتين: الصدق والبساطة. فلغة نثره هي لغة الحياة اليومية، بلا تقعير أو إبهام أو غموض. ومن هنا كانت كتاباته تصل إلى القارئ بسهولة وتعديه بما تحمله من رسائل واضحة.. وضوح الصدق والبساطة.

الكتاب: مربط الخيل (الجزء الأول) المؤلف: عوني بشير تقديم: الطيب صالح

* نموذج من كتابات عوني بشير

* سيهدمون المسجد الأقصى تُرى كيف سيكون رد الفعل إذا ما استيقظ العرب ذات صباح، ليجدوا أن إسرائيل قد هدمت قبّة الصخرة والمسجد الأقصى؟

يهيأ لي أنكم تدركون كيف سيكون رد الفعل، لكنني بالرغم من معرفتكم سأتطوع بالإجابة سلفاً لأنني على ثقة من أن إسرائيل ستهدم المسجد الأقصى قبل العام 2000، أي في غضون سنوات قليلة، ربما غداً وربما بعد سنة أو أربع سنوات، الله أعلم، لكنها ستهدمه، ستهدمه. ما لا أعرفه هو الكيفية التي سيهدم بها المسجد الأقصى، إذ قد يُنسف أو يُحرق أو يُقصف، وأياً كانت الطريقة التي سيتم بها الهدم، فإن الفاعل سيكون رجلاً مجنوناً متعصباً. هذه هي الرواية التي سيعلنها رئيس وزراء إسرائيل معتذراً للإسلام ولكل المسلمين في العالم عن هذا العمل، الذي لن يتورع عن وصفه بالإجرامي، ومثله وزراء إسرائيل، وسيتسابق على التنديد به رؤساء العالم من الرئيس الأميركي إلى الرئيس الروسي والصيني ورئيس الكونغو، ومن المؤكد أن يطالب الرئيس الأميركي المسلمين بضبط النفس، وضبط الأعصاب، لأن فلتان الأعصاب سيعطي «الإرهابي» الذي قام بهذا العمل الشنيع شعوراً بالنصر لأن هدفه الأساسي من هدم قبلة المسلمين الأولى هو زرع الفتنة، وإثارة الحرب، ولن يفوت الرئيس الأميركي التنويه بقدرة الحكومة الإسرائيلية على ضبط الأوضاع وتقديم الجاني أو الجناة إلى العدالة ليأخذوا القصاص العادل. لكن الحقيقة المرّة تؤكد أن الجاني هو الحكومة الإسرائيلية نفسها، سواء أكانت حكومة عمل أو ليكود، والمجنون هو الذي يصدق أن الجاني مجنون أو متعصب، لأن الحقيقة تؤكد أن الثقافة الإسرائيلية والدينية قائمة على تهويد القدس بالكامل، ولا يمكن أن تهود القدس إلا بقيام الهيكل على انقاض المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، وقد فكرت إسرائيل عبر معاهدة كامب ديفيد في نقل المسجد الأقصى إلى مكان آخر على غرار ما حصل لمعابد أبي سمبل، اثر بناء السد العالي وإقامة بحيرة ناصر، غير أن فكرة النقل سرعان ما استبعدت، إذ أدركت إسرائيل أن المكان هو المشرّف عند المسلمين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عرج منه إلى السماء، لذا فإن عملية النقل ضرب من المحال، وعليه فما من خيار أمام إسرائيل سوى هدم المسجد الأقصى والقبة، في عملية سريعة جداً لا تستغرق أكثر من ثوان معدودة.

احتل الصليبيون القدس عشرات السنين ولم يجرؤ أحد منهم على دخول المسجد الأقصى، الذي ظل شاهداً على معراج الرسول والحضارة الإسلامية عبر الحروب والغزوات والغزاة، ولم يحدث ان تعرض المسجد الأقصى في تاريخه كله، لشيء مما تعرض له خلال الثلاثين سنة الماضية من عمر الاحتلال الاسرائيلي للمدينة المقدسة. فالحفريات لم تتوقف تحته وانتهاك حرمته يتم ليل نهار، والحرائق تندلع فيه بالجملة، والانفاق ما زالت تقبع وتشق عند اساساته، فإلى متى سيتحمل؟ أما إلى متى سيتحمل العرب فتلك قضية اخرى، إذ يبدو يا رعاك الله، إننا تَمْسحنا، فما عاد يتحرك فينا شيء، وكلما ظننا أن الوضع لن يسوء أكثر مما ساء نراه يزداد سوءا، وكلما اعتقدنا اننا لن ننحط أكثر، وجدنا انفسنا نواصل الانحطاط إلى ما لا نهاية، حتى الحضيض الذي يقولون عنه حضيضا قرب منا وترفع عنا، وأصبح فوق رؤوسنا.

ترى ما الذي سيفعله العرب إذا ما هدمت اسرائيل أولى القبلتين والمسجد الذي تُشد إليه الرحال؟ لا شك عندي أن الشعوب العربية والإسلامية سيطير صوابها، ولسوف تنفجر الشوارع بمظاهرات المؤمنين بالله ورسوله، ولو كان الأمر بيد هذه الشعوب المستضعفة لزحفت بقبضاتها العارية إلى القدس الشريف غير عابئة بالموت، لكنها مع الأسف الشديد شعوب مغلوبة على أمرها، وسوف يتم امتصاص نقمتها وغضبها من أصحاب الاختصاص، الخبراء في رد الفعل، ورد الصاع صاعين للعدو الصهيوني. سيعود الناس إلى بيوتهم لأن أهل القرار سيتداعون الى اجتماع طارئ يتم عقده على عجل في إحدى العواصم العربية، لاتخاذ «القرارات المناسبة» والقرارات المناسبة معروفة سلفا، التقدم بشكوى إلى هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ضد اسرائيل واصدار بيانات استنكار شديدة اللهجة تندد بهذا العمل الجبان.

والنتيجة؟! معروفة، فيتو في مجلس الأمن، إذ المهم ان تظل مسيرة السلام سائرة بالرغم من أعداء السلام، والسلام عليكم ورحمة الله، والعوض بسلامتكم.